منزل العائلة السعيدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 منزل العائلة السعيدة " الجزء الثاني من منزل العائلة المسمومة" .. رسالة من بريد الجمعة

منزل العائلة السعيدة " الجزء الثاني من منزل العائلة المسمومة"



هل تذكرني ؟ إنني الفتاة التي كتبت إليك منذ حوالي سنة لأروى لك تجربة فريدة مؤلمة فى حياتي .. بدأت حين تصورت لي أوهامي أن أبى وأمي يفضلان علي شقيقتي الكبرى ، وأن الثلاثة لا يحبونني ، فبدأت أدس لهم السم في الطعام على فترات لكي أستريح مما تصورته إساءة معاملتهم لى ، ثم حدث بعد ذلك أن تناولنا جميعاً أكلة سمك مشوي لم أشترك في صنعها .. فإذا بى أصاب وحدي بتسمم لأن من بين السمكات التي اشتريناها كانت هناك سمكة واحدة مسممة جاءت من نصيبي أنا .. ورويت لك كيف اكتشفت حب أبي وأمي وأختي لي في هذه اللحظات ، وكيف انخلعت قلوبهم علي وكيف كنت أفيق من الغيبوبة فأرى أمي الحبيبة وأختي وأبي يبكون ويسهرون حول سريري حتى الصباح .

 

فندمت على ما بدر مني تجاههم وطلبت من ربى الصفح .. وكتبت إليك أسألك عما أفعل لكي أكفر عن جريمتي هذه ، فنشرت رسالتي بعنوان ( منزل العائلة المسمومة ) ، ورددت على رداً قاسياً قلت لى فيه إنني قد تجردت من كل ضمير ومن كل قيمة إنسانية حين فكرت هذا التفكير الإجرامي تجاه أهلي .. لكنك في النهاية نصحتني بألا أعترف لهم بما فعلت خوفاً من أن يفسد هذا الاعتراف عليهم سعادتهم وعلاقتهم بى ونصحتي بأن أكفر عن جريمتي بطلب المغفرة وحسن معاملتهم ومبادلتهم حباً بحب ، بعد أن امتحنت الأيام حبهم لى وأزالت الغشاوة عن عيني .

 

ولهذا فعلت ما نصحتي به سيدي ، وتغيرت حياتي تماماً بعد أن اعترفت لك بما أقدمت عليه .. كان اعترافي بذنبي قد طهرني منه وأضاء لى حياتي .. بل كأن الله قد أراد أن يطهرني من كل النيات السيئة فلقد من الله على أمي بالشفاء بعد أن كانت مريضة ، وقامت من رقدتها لترعى شئوننا وأصبحت تعامنى برقة شديدة كأنها كانت تعرف ما حدث .. أو كأنها تعرف من ردك على رسالتي أن أسرتنا هى المقصودة . ولقد نجحت فى دراستي أيضاً ونجحت أختي وتقدم لخطبتها شاب ممتاز وأقمنا لها حفل خطوبة جميلاً ، وأشرفت أنا على كل صغيرة وكبيرة فيه  ، حتى ما ارتدته تركت لى أختي حرية اختياره ، كأنني أنا العروس .ولا أستطيع أن أصف لك كم كانت فرحتي غامرة وأنا أرى يدها محاطة بالسوار الذهبي الأنيق ، وهى تنظر إلي نظرة كلها حب وتقول لى ( عقبالك وتكون إن شاء الله حفلة أكبر .. لأنك أحسن مني بكثير ) !

فانفجرت فى البكاء وأنا أحتضنها .. وأكاد أصرخ وأقول لهل بل أنت الأفضل والأحسن لأن قلبك أبيض لم يلوثه الحقد الذى لوث قلبي ذات يوم ، حتى كدت ارتكب أخس الجرائم ضد أحب الناس لي وتدفقت دموعي .. وكل من حولي فرحون ويقولون إنها دموع الفرح ..ولكنك وحدك يا سيدى الذى تعرف أنها كانت دموع الندم .. إذ لولا إرادة الله لتحولت حياتي إلى جحيم أودى بى إلى جنون .

 


 

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 

وشكراً لك أنت أيضاً يا صديقتي لأنك أطلعتني على هذا الجانب المضىء من تجربتك العجيبة ! لقد تذكرت رسالتك الأولى على الفور .. وتذكرت كم أفزعتنى وكم تعجبت من أن تقدم فتاة مثلك على هذا العمل الخطير ضد أسرتك لمجرد أنها توهمت أن أبويها يفضلان شقيقتها عليها ، أو أن  أسرتها لا تحبها بل وتذكرت أيضاً كم وقفت متأملاً أمام هذه العدالة الإلهية التى أرادت أن تنقذك من ضلالك ، فاختارتك وحدك من بين أفراد أسرتك لتذوقي آلام التسمم التى فكرت فى لحظة جنون أن تعرضي أسرتك لها .

 

إن الإنسان يواجه في حياته أحياناً لحظات عصيبة تكون بمثابة لحظة التنوير التي تزيل عن عينيه الغشاوة ، وتكشف له ما لم يكن يعلم من حقائق الحياة .. وسعداء الحظ هم من يصادفون هذه اللحظة قبل فوات الأوان .. وقد شاءت الأقدار أن تأتى لحظة التنوير فى حياتك وأنت بين الموت والحياة  ، وقبل أن تستكملي خطتك العجيبة ، فعرفت عندها كم كنت ظالمة لنفسك ولأسرتك حين فكرت فى الانتقام من أكثر الناس حباً لك ، ورفقاً بك وهلعاً عليك وأصبحت الآن تحبين أبويك وشقيقتك  .. وتستمتعين بحبهم لك .

 

وأصبحت الآن تحبين الحياة وترين فيها االجمال .. بعد أن كنت لا ترين  فيها سوى السواد .

ولم يتغير أبواك ولا شقيقتك .. ولم يولد حبهم لك فجأة وأنت معلقة بين الموت والحياة  ، وإما أنت تغيرت حين تطهر قلبك من الكراهية .. وأنت التى ولدت من جديد حين دخل الحب قلبك فلمست فيهم ما أعماك عنه – من قبل – الحقد ورأيت فى الدنيا ما حجبته عنك – من قبل – مشاعر الكراهية ، لهذا قيل يا صديقتي إن عين الكراهية ترى السواد فى كل شىء ولو كان ضوءاً باهراً ، وعين الحب ترى الجمال فى كل شىء ولو كان سواداً حالكاً .

ومن أخطاء البعض أنهم يتلفعون بحقدهم وكراهيتهم للآخرين ، ثم ينتظرون أن يحبوهم .. وقد يلومونهم لأنهم لا يفعلون !

فى حين أنه يندر أن يكره الإنسان إنساناً آخر بغير أن يستشعر الآخر كراهيته له ، وأن يبادله كراهية بكراهية ولو بعد حين ، كما يندر أيضاً أن يحب الإنسان الآخرين بغير أن يستشعر وا حبه لهم ، وأن يبادلوه حباً بحب ولو بعد حين أيضاً .

ولعل فى هذا إحدى صور العدالة الإلهية التي تنظم الحياة ، والتي لمست إحدى آياتها العجيبة فيما حدث لك .

لكن هذا حديث آخر ولن أطيل عليك فيه ، لأنك قد استوعبت درس التجربة ولم تعودى فى حاجة إلى النصيحة .

فاسعدي بحياتك .. وواصلي تفكيرك عما فكرت فيه ذات يوم بمضاعفة مشاعر الحب والود والعرفان التي تحملينها لأسرتك الصغيرة ..مع تمنياتي لك بالسعادة .

 رابط رسالة منزل العائلة المسومة


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات