سفينة الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 سفينة الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

سفينة الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


على الرغم من اختلافي مع كاتب الرسالة في الرأي إلا إنه لا يقلل أبدا من إعجابي الشديد به ولا من إستفادتي من رسالته التي اعتبرها "محاضرة" قيمة في علم الحياة .. محاضرة تذكرني بالحكمة التي تقول "تجربة آلمتني .. تجربة علمتني" أي أن التجربة المؤلمة هي عادة التجربة التي ينبغي أن نتعلم منها وأن نستفيد منها.
عبد الوهاب مطاوع



أكتب إليك هذه الرسالة وأنا طريح الفراش .. فلقد أتاح لي المرض فسحة من الوقت فكتبت لك بضعة سطور عن تجربتي في الحياة, قد تكون مرشدة لمزيد من الأمل والتفاؤل للمعيدة الشابة التي نشرت رسالتها تعليقاّ علي رسالة من قاع المدينة التي نشرت رسالتها منذ أسبوعين, وأنا بالمناسبة لست طريح الفراش بمرض خطير ولكن بنوبة أنفلونزا .. تدعوني ظروفي الخاصة للاحتراس من مضاعفاتها..

ولن أقول لك في البداية من أنا .. ولا ماذا أعمل.. لكني سأقول لك في البداية ولهاتين الفتاتين إنني نشأت في ظروف معيشية لا تختلف كثيرا أو قليلاّ عن ظروفهما, لكنها تزيد عنها صعوبة في إنني اكتشفت وأنا طالب جامعي في ريعان الشباب أنني مريض بروماتيزم القلب, وقد أشارت كلتا الفتاتين إلى خوفهما من الروماتيزم بسبب سوء أوضاع المسكن الذي تعيشان فيه, وهما محقتان في ذلك, لكنه ليس نهاية الدنيا كما ستؤكد لك قصتي بعد حين .

 

ففي ذات يوم مازلت أذكره حتى اليوم اكتشفت إصابتي بمرض القلب المزمن وكان أحد أيام عامي الثالث في الجامعة, وكنت قد سافرت من القاهرة إلى طنطا حيث إدارة التجنيد التي أتبعها لإجراء الكشف الطبي.. وستسأل لماذا أسعى إلى التجنيد في العام الثالث من الجامعة قبل أن تنتهي دراستي فأقول لك إن الدافع لذلك كان الرغبة في دخول الجيش قبل انتهاء الدراسة لكي تنتهي فترة التجنيد مع انتهاء الدراسة فأحصل على شهادة إتمام الخدمة مع الشهادة الجامعية في يوم واحد, وبذلك تتاح لي فرصة الحصول على عمل في أسرع وقت لحاجتي الشديدة إلى العمل.

 

فلم يكن تعليم الأبناء في أسرة والدي بالشئ المرموق في ذلك الوقت, لذلك كان سعيه الدائم وبكل الوسائل الكريمة وغير الكريمة إلى دفعي للعمل وترك الدراسة, ومن هنا نشأت لدي فكرة دخول الجيش لأوفر عليه بعض نفقاتي, ولأقصر المسافة إلى العمل بعد التخرج, فحملت حقيبتي التي تضم كتبي الجامعية وسافرت إلى طنطا, ففوجئت وعلى غير المتوقع برفض تجنيدي .. وفوجئت بدلا من إلحاقي بالخدمة العسكرية بشهادة إعفاء نهائي من التجنيد سألت في دهشة : لماذا؟ قالوا لأنك مريض بتليف الصمامات من أثر روماتيزم القلب الذي أتلف الصمامات وأصاب عضلة القلب بالتضخم .. عدت من طنطا مهزوما كمن خسر كل شئ وسدت أمامه كل الأبواب .. فهذه الشهادة اللعينة قد سدت أمامي باب العمل بالشهادة الثانوية, وبدأت الهواجس تتسلط علي كيف أستطيع مواصلة دراستي الجامعية وأين أجد العلاج الطبي السليم لحالتي الصحية؟ ومن أين أجد تكاليفه؟

 

وعشت أياما لا أعرف النوم, وزادت حالتي النفسية سوءا حين ظهر عبد الحليم حافظ في نفس الفترة في فيلم أظن أن اسمه كان "يوم من عمري" يؤدي فيه دور شاب مريض بالقلب يموت في نهاية الفيلم رغم سفره للخارج ورأيت نفسي كثيرا في صورة هذا الشاب.. وإن كنت لا أستطيع السفر إلي الخارج للعلاج.. ومضت الأيام وأنا أعيش هذه الصورة وهذه الهواجس حتى أسودت الدنيا أمامي .. ثم تداركت نفسي بعد قليل حين أدركت أنني لم أعد بانهياري هذا أؤذي نفسي وصحتي فقط وإنما أؤذي  أيضا أبي وأمي اللذين أصبح الدعاء المفضل لهما منذ ذلك الحين هو أن يختارهما الله قبل أن يختارني.. ومن المؤسف حقا أن أمنيتهما قد تحققت فرحلا منذ سنوات قليلة وكنت في ذلك الوقت خارج مصر.

 

واستجمعت إرادتي وسلمت بإرادة الله.. وسلمت إليه أمري.. وأرجعت إليه كل شئ ووضعت لنفسي دستورا نفذته بأمانه هو أن أعمل وأعيش ليومي فقط, وأن أترك الغد لمشيئة الله ولإرادته, فكان من نتائج إيماني بهذا الدستور أني عشت عقب اكتشافي المرض أكثر من ربع قرن حتى الآن انتهت بحصيلة ذاخرة بنعم الله هي:

- استكمال دراستي الجامعية ثم دراستي العليا إلى حد شغل درجة الأستاذية الكاملة في الجامعات الأجنبية والجامعات المصرية.

- تأمين الضمانات المادية لي ولأسرتي إلى حد الاطمئنان على مستقبل أبنائي دون خوف عليهم من آثار مضاعفات مرضي ونتائجه.

- زرع حب العلم والدراسة في كل أفراد أسرتي بصرف النظر عن علاقة هذا العلم بعائده المادي.

- زرع النفور في قلوب كل أفراد أسرتي ممن يسلك أي سلوك يستثير به الشفقة على حالته الاجتماعية أو المادية بصفة عامة فالشفقة في نظري لا يستحقها إلا العاجزون عجزا كلياّ عن كسب قوت يومهم.

 

 وأذكر في هذا الصدد جلسة ضمتني في بداية حياتي العملية مع زميلين راح كل منهما يروي عن معاناته وآلامه في حياته كطالب فروي الأول أنه كان يرتاد مستشفى الطلبة بصفة دائمة ليحصل علي بعض الأدوية فيبيعها ليطعم نفسه من ثمنها .. وروي الآخر ظروف حياته الصعبة واضطراره للعمل في مدرسة ليلية لينفق على تعليمه, وعلى إخوته البنات بعد والده .. وخجلت أنا من رواية معاناتي خجلا من مقياس المقارنة! وقد شاء الله أن يغدو هذان الزميلان أيضا من أساتذة الجامعات المرموقين.

وقد شاءت إرادة الله أن تكون العقبة التي حالت دون حصولي على عمل في مصر, هي التي فتحت أمامي أبواب الخير في مكان آخر.

 



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

تلقيت هذه الرسالة في بريدي هذا الأسبوع بين عشرات الرسائل التي مازالت تعلق علي رسالتي فتاة قاع المدينة والمعيدة الشابة. وقد اخترتها للنشر لإعجابي بكاتبها رغم اختلافي معه في بعض آرائه.. وأبدأ بأسباب الإعجاب فأقول إني معجب به لإيمانه ومعجب به لأنه لم يجعل من مرضه المزمن مأساة تنهي حياته وطموحه وتوقف مسيرته, وإنما آمن بأنه قدر الله وكما شاء فعل "وبأنه الذي لا يسأل عما يفعل فتجاوز هذا الموقف إلى التفكير في حياته.. والتفكير في كيفية اجتياز العقبات التي وضعت في طريقه, ومعجب به أنه أدرك في شبابه الباكر أن انهياره لا يؤذي نفسه فقط ولا يؤدي إلي تدهور حالته الصحية فقط, وإنما يؤذي أيضا من يحبونه, فتماسك واستعاد نفسه سريعا فكان تماسكه هو بداية انطلاقه واستكمال مشوار كفاحه, ومعجب به لاعترافه بفضل الله عليه ولإدراكه أنه حتى العقبات التي وضعت في طريقه كانت سببا في خير عميم ينتظره في مكان آخر.

 

لكني أختلف معه في بعض أرائه وأولها أني أشتم في حديثه رغم تقديري لكفاحه, روح الاقتناع السائد لدى بعض الناجحين من حيث اعتبار الفقر مسئولية الفقراء وحدهم وليس مسئولية المجتمع الذي يعيشون فيه أولا, وهو تفكير يرجع أساساّ إلى عظيم احترام هؤلاء لكفاحهم مما يدفعهم للإيمان بأنه ليس من حق أحد الشكوى مما يعانيه, وإنما عليه أن يشقى ويكافح ليحقق ما حققوه هم , وهذا سليم في أحد جوانبه.. لكنه ليس سليماّ على إطلاقه في اعتبار الفرد مسئولا وحده عما يعانيه من سوء مسكن أو ظروف معيشية صعبة, متوقعين من كل إنسان أن يحقق وحده دون مساعدة من المجتمع الذي يتحمل أمانة المسئولية عنه, كل ما يحتاج إليه من أساسيات الحياة, وإلا كان ذلك بمثابة دعوة للجميع للكسب من أي طريق وبلا ضوابط, ولا أظن الأستاذ يقصد ذلك أو يرتضيه بدليل إشارته في نهاية الرسالة إلى أهمية العدالة الاجتماعية.

 

كذلك فإني أختلف معه في أنه يأخذ عليّ بشكل أو بآخر تعاطفي مع الفتاتين ونشر رسالتيهما, وليسمح لي أن أختلف معه في ذلك أيضا فالرسالتان تلقيان الضوء على واقع شريحة اجتماعية عريضة في بلادنا. وبريد الأهرام نافذة ينبغي أن تكون متاحة لكل الآراء ولكل الأصوات, والفتاتان في رأيي تستحقان الاحترام لشئ أساسي هو تمسكهما بالقيم الأخلاقية رغم صعوبة حياتهما وخاصة المعيدة الشابة لخلوها من المرارة ولتفاؤلها.

وعلى أي الأحوال فإن اختلافي معه في الرأي لا يقلل أبدا من إعجابي الشديد به ولا من استفادتي من رسالته التي اعتبرها "محاضرة" قيمة في علم الحياة, محاضرة تذكرني بالحكمة التي تقول "تجربة آلمتني.. تجربة علمتني" أي أن التجربة المؤلمة هي عادة التجربة التي ينبغي أن نتعلم منها وأن نستفيد منها مع تمنياتي له بالصحة واستمرار العطاء. 


                                                         رابط رسالة من معيدة شابة

رابط رسالة فتاة من قاع المدينة


·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات