رسالة من معيدة شابة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 رسالة من معيدة شابة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

رسالة من معيدة شابة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


  كأني أثرت أشجان كثيرين حين قلت في تعليقي علي رسالة فتاة قاع المدينة الأسبوع الماضي لها إنك لست وحدك وإنه ربما كان هناك من قاسى ويقاسي أشد مما قاسيت, فقد انهالت علي رسائل المعذبين في الأرض تروي لي قصص حياتهم وتحاول أن تخفف آلام كاتبة الرسالة بأن تروي لها طرفاّ من معاناتهم, لكن من بين هذه الرسائل العديدة التي تعاطفت مع كاتبة الرسالة وتمنت صداقتها توقفت طويلا أمام هذه الرسالة التي أرسلتها إلي قارئة عظيمة أدعوكم لقراءة رسالتها معي:

 

    استأذنك في البداية في أن تزيد عدد "أصدقائك علي الورق" كما تسميهم, صديقة جديدة هي أنا كما أستأذنك أيضا في أن أكون صديقة لكاتبة رسالة فتاة من قاع المدينة التي نشرت في الأسبوع الماضي, فأنا أيضا ظروفي تماثل ظروفها. لكني بحكم عملي لا ينطبق علي وصف قاع المدينة, وإن كنت أنتمي فعلا إلي سكان القاع خاصة بعد أن انقلبت أوضاع المدينة وأصبحت قمتها في قاعها.. وقاعها فوق القمة.. لكن هذه قصة أخري!

    والواقع أنك ستدهش قليلا أو كثيرا حين تعرف عملي فأنا يا سيدي معيدة بإحدى الكليات المرموقة وعمري 26 سنة.. وعلى الرغم من كفاحي العلمي وكفاح أبي وأمي في الحياة فمازلنا في قاع المدينة سكنا وواقعا, لكني أحمد الله أنه على الرغم من واقعي الذي يشبه واقع فتاة القاع مازالت عندي الرغبة في العمل والعطاء بلا حدود, كما أنني مازلت ممتلئة بالأمل والتفاؤل رغم كل شئ. وأسمح لي أن أوجه تحياتي مباشرة إلي كاتبة الرسالة فأقول لها مثلك عرفت الفقر منذ طفولتي وترعرعت في الوسط الذي يضئ بلمبة الجاز ويذاكر دروسه علي الطبلية حتى ينقصم ظهره "لكني علي عكسك كلما تذكرت هذه الطفولة شعرت بالسعادة لأنني تغلبت على آلامها ومشاكلها والحق أن أبي وأمي كانا دائما لي النور الذي اهتدي به, وعندما أنظر إلي الحياة التي ارتضياها لأنفسهما ليسعدا أبناءهما, أشعر أن كل الآلام قد ماتت وأحس بالرغبة في بذل المزيد من الجهد والكفاح, لأحقق نجاحا أكبر أسعدهما به.

    فأبي مثل أبيها عامل مكافح مازلت أقبل يديه كل يوم عرفانا لكل ما بذله من أجلي, حتى كان يحرم نفسه من كوب الشاي مع أصدقائه وزملائه في العمل, لكي يوفر لي نفقات التعليم, ولأني كنت أعرف ذلك وأنا طفلة صغيرة فقد حرمت على نفسي مجرد النظر إلى المصاصة في أيدي الأطفال في المدرسة, رغم كل ذلك مضت بنا الحياة ونحن نقاوم أنا وأمي وأبي وإخوتي الثلاثة الآخرون.

    فكرت كثيرا وأنا طفلة أن أترك الدراسة وأعمل بالخياطة, لكي أوفر المشاق علي أهلي وتخيلي أن تحملي طفلا صغيرا مسئولية التفكير في مستقبله ولو كنت اخترت مهنة الخياطة, لكنت الآن في قمة المدينة وليس في قاعها, ولكن ماذا كنت أفعل وقد كنت متفوقة رغم عني في الدراسة؟ هكذا ولدت ما إن أمسك كتابا وأقرأه حتى أعيه وأفهمه وأتفوق علي أقراني فيه, وأغراني هذا التفوق حتى وصلت إلي ما أنا فيه ولكني مازلت في قاع المدينة, لأن التفوق ليس من مبررات الصعود لقمة المدينة, ثم تطور بنا الحال من السكن بالغرفة المظلمة القديمة إلى السكن في بدروم عمارة, وأقول لك تطورت لأني أيامها كنت في الحادية عشرة من عمري, واعتبرت أن ذلك تطورا فرحت به, ومازلت لا أعترض على هذا المكان ولكن مرض والدي ووالدتي أعز الأعزاء علي قلبي بالروماتيزم, هو ما جعل قلبي يعترض, ثم ما لبث ان أعترض عقلي أيضا, وعندما قرأت رسالتك اعترض لساني.

    ففي هذا المكان الرطب الذى تتفتت حوائطه من الرطوبة سأفقد أحب ما لي في هذه الدنيا, وعندما تنسد ماسورة المجاري هل تعلمين كيف يصلحونها, إنهم يفتحون الماسورة من المنور الذي تطل عليه حجرتنا والمطبخ, وعندما تنفتح المواسير ينزل ما بها على فراشنا وعلى طعامنا, وتبكي العزيزة الغالية أمي وهي ترمي بالطعام وترفع الأوساخ عن الفراش.

 

    إن ما يؤرقني هو كيف أسعد والدي وأن أرفعهما من هذا المكان إلى مكان آخر به شمس وهواء, حتى أريحهما من العذاب الذي يعانيانه. إن نظرات اللوم أراها كل يوم في عينيهما.. وماذا بعد أن أصبحت في هذا المركز أما آن لنا أن نستريح؟ وأريد أن أقول لها هناك فرق كبير بين العلم والمال. أنا أملك العلم وعندي طاقة كبيرة للعمل العلمي ولكن ليس هذا هو الطريق للمال, أي أنني مثلك يا فتاتي "مافيش فلوس راضية تيجي أبدا. كأنها تكرهنا"! وأقول لك الحق إنني لست حريصة عليها لنفسي ولكن من أجل أمي وأبي.

    منذ أيام كان عيد الأم ورجعت المنزل فوجدت أمي تبكي وتطلب من الله أن ينعم عليها بشقة بعد أن رأت أن حائط إحدى الغرف قد تهدم من الرطوبة, إنه يحتاج إلي إصلاح جديد, علي الرغم من أننا قمنا بإصلاحه من فترة قصيرة, ولم أملك إلا أن أمسح دموعها بيدي, فماذا قدمت لها بعد هذا الحرمان؟ وهل تكفي الجنيهات التي أقبضها في المساهمة في المعيشة الغالية وفي كتبي ومواصلاتي وملابسي ومساعدة أبي علي متطلبات الحياة؟ ماذا قدمت لهما حتى يشعرا بثمرة تعبهما؟ إن الحصول علي شقة لهما يحتاج إلي وقت طويل جدا ربما أكثر من عمري, فهل سيعيشان حتى أرد لهما جزءاّ ضئيلا من جميلهما, إن هذه الفكرة تعذبني وتبكيني كيف ومتى أحقق لهما حلمهما؟ إن أمامي طرقا كثيرة ملتوية لا أقول إني سأؤذي نفسي بالانحراف فقد تربيت علي الدين والفضيلة, ولكن أمامي أن أعطي دروسا خصوصية وهذا سوف يؤذي غيري ولكن نفسي تأبي إلا الحلال, وصدقيني يا صديقتي أنني لا أستطيع أن أسلك أي طريق غير طريق الحلال.

 

    



    ملحوظة: آسفة لأني لم أوقع باسمي الكامل لكني علي استعداد لكتابته إذا قبلت ضمي إلي قائمة أصدقائك علي الورق.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

    هذه هي الرسالة التي توقفت أمامها طويلا وأحسست باحترام شديد لكاتبتها, تري كم من الناس من نحس تجاههم بمثل هذا الاحترام؟ إنني أكاد أشعر من بين سطور هذه الرسالة أن كاتبتها طبيبة تعالج آلام البشر وتعود مرضي سكان العمارة والذين يلقون علي أهلها بالنفايات من نوافذ المطبخ, ومع ذلك فهي لا تتخلي عن واجبها في زيارة مرضاهم وعيادتهم, أليس هذا مبرراّ آخر للاحترام, ثم كيف لا أتوقف طويلا أمام هذه النفس الشفافة الخالية من المرارة ومن العقد تجاه الآخرين رغم الكفاح والآلام, أو أمام هذه النفس المحملة بالأمل والتفاؤل وبالرغبة في العطاء والعمل والكفاح رغم الظروف غير المواتية.

    وماذا يدعو للاحترام وللإعجاب والحب أكثر من أن تكون مشكلة هذه المعيدة أنها عاجزة عن رد الجميل لأبيها المكافح وأمها؟ لأن هناك فرقا بين العلم والمال ولأن تفوقها العلمي لا يحقق لها إمكانية الحصول علي شقة فوق سطح الأرض أي وفاء وأي عظمة؟ حسبت أنك تقولين لي إنك مشغولة بالحصول علي شقة لنفسك أو إنك مشغولة بالحصول علي فرصة ملائمة لزواج لائق, لكنك كنت أفضل كثيرا من أي توقع, تحسين بالقهر وبالعجز عن تحقيق أمنية الشقة لأمك وأبيك وتسألينني كيف تردين لهما ما قدماه فماذا أقول لك؟ هل أقول لك إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها, وأنك تردين لهما الكثير بالتزامك الطريق السليم في حياتك, وبرفضك للخطأ ولكل مال غير حلال, أليس في كل ذلك ما يرد لهما صنيعهما؟ وألست أنت أكبر ثروة يمكن أن يحققها والداك في رحلة حياتهما؟ إنني مع ذلك لست متشائما فلعل في ظروفك ما يضعك علي أول الطريق الطويل للحصول علي شقة فوق الأرض, بخلو معقول أو في المساكن الشعبية بعد انتظار مهما طال فهو محقق للآمال في النهاية.

    يا آنستي إني أشكرك علي رسالتك وأرحب بصداقتك وأتشرف بمعرفتك.. وأشعر أني قد ازددت تعرفا علي الجانب الخير من الحياة بعد قراءة رسالتك القيمة هذه.

    أما فتاة القاع التي كتبت عنها في الأسبوع الماضي فقد تلقيت بشأنها استجابتين بشأن مشكلتي العمل والعلاج إحداهما من أستاذ جامعي صديق قديم لبريد الأهرام, لذلك فإني أدعوها للاتصال بي لحل مشكلتيها.. وإلي اللقاء.



رابط رسالة فتاة من قاع المدينة

رابط رسالة سفينة الحياة تعقيبا على هذه الرسالة


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات