الوجه الآخر! .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

 الوجه الآخر! .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الوجه الآخر! .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000


  كدت أموت من الضحك وأنا أقرأ رسالة (البَكّاء) لهذا الصديق الذي يشكو فيها إليك أنه كثير البكاء ولا يستطيع أن يتحكم في دموعه في كل المواقف.

وسألتكم ألف عفو وألف معذرة لنوبة الضحك هذه التي انتابتني وأنا أقرأ تلك الرسالة، فالله وحده يعلم أنني لا أسخر من سطورها.. ولكنه وكما قلت في ردك على رسالة البَكّاء ، أن هناك غدة دمعية تسبب البكاء ، فأني أعتقد أن هناك غدة أخرى تسبب الضحك ويبدو أن هذه الغدة متضخمة عندي منذ الصغر .. إذ أنني لا أملك نفسي إطلاقا في أحلك المواقف والظروف فما بالك بالمواقف الكوميدية التي تثير الضحك أصلا.

 

إنني أذكر في طفولتي أن أمي كانت تصحبني معها إلى السينما الصيفية التي كانت بجوار منزلنا، وكنت أحس بأن دموعها تنهمر وهي تشاهد أمينة رزق في مواقف مؤثرة، بينما أنا بجوارها أضحك مقهقها .

وفى المرحلة الإعدادية كنت أعاني الأمرين بسبب ضحكاتي ، وكنت هدفا لكل المدرسين من صفع وركل وكنت أبكي بشدة لذلك، ولكني كنت أخلو إلى نفسي سرعان ما كنت أنفجر في ضحك متواصل وأنا أستعيد في ذاكرتي منظر المدرس وهو يجري ورائي ليضربني بالشلوت.

وفى المرحلة الثانوية كنت أطرد من المدرسة يوما بعد آخر ولا أحضر إلا بولي أمري الذي يجيء معي ويشرح للمسئولين (مأساتي).

 

كما أتذكر أن أبي ضربني ذات يوم بخرطوم على وجهي لأني ضحكت بشدة وأنا أراه يبكي بحرقة يوم وفاة والدته أي جدتي .. ولقد أضحكني رغما عني أن جسمه السمين كان يهتز بشدة لم أتمالك نفسي من الضحك.

وفى المرحلة الجامعية تجنبت المجاملة في المناسبات الحزينة فلا أدخل سرداق عزاء ولا أسير في جنازة ولا أواسى صديقا أو زميلا، وبالرغم من ذلك فأنا محبوب جدا في عملي وبين زملائي وجلساتي كلها ضحك في ضحك دون إرادة مني ، ولا شك في أن زوجتي لا يعجبها هذا ويبدو أنها تحلم بين وقت وآخر بزوج نكدي ليشخط فيها بعض الوقت لا زوج ضاحك أمام كل مشكلة تصادفهما في حياتهما الزوجية أو زوج غارق دائما في الضحك أمام شاشة التليفزيون بأفلامه القديمة والجديدة على السواء ومن أخطاء المذيعات وهن يتلعثمن فى الكلمات، فلقد كاد يغمى علّي ذات ليلة من الضحك لمجرد أن المذيعة اللامعة أخطأت في نطق عبارة (شديدة البرودة) ونطقتها شديد البرورة.




 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

 

  هناك نوع من اضطراب الوجدان الثابت قد يعبر عن نفسه في بعض الأحيان بالاكتئاب، وقد يعبر عن نفسه في حالات أخرى نادرة بما يسميه علماء النفس (السرور المرضي)!

والسرور أو المرح المرضي اضطراب يعجز من يعانيه من كبح نزعاته دون اعتبار لنتائجها الاجتماعية عليه وعلى الآخرين كأن يستغرق في الضحك مثلا في موقف يدعو إلى الحزن والأسى .. فيؤذى مشاعر المحزونين، أو تتملكه نوبة من الضحك القهري في موقف يتطلب الجدية والالتزام فيسيء إلى نفسه ويحط من قدره لدى الآخرين ويتعرض لعقابهم أو ازدرائهم.

ومن قبيل ذلك أيضا أن يعايش المرء حالة السرور الدائم بغير أسباب موضوعية تدعو إلى ذلك أو في واقع يستدعي العكس، كأن يفقد عزيزا غاليا عليه، وبدلا من أن يشعر بالحزن لفقده يجد نفسه مسرورا مبتهجا أو أن يمنى بخسارة فادحة أو يوقع عليه عقاب صارم في عمله فلا يجد نفسه غاضبا لذلك ولا حزينا له لبعض الوقت .. وإنما يشعر بالابتهاج في أعماقه، كأنما قد فاز بجائزة كبرى، وكل ذلك يعكس نفس حالة اضطراب الوجدان العضوي، والمعيار الفاصل بين شدة الحالة وبساطتها هو مدى تحكم المرء في انفعالاته ، فإذا كان يستطيع كبح نزعة الضحك الجبرية لديه إلى أن يخلو بنفسه مراعاة للاعتبارات الاجتماعية، فالحالة قد لا تتطلب العلاج وقد لا تحتاج من صاحبها إلا إلى تدريب النفس على التحكم فى انفعالاتها..أو النأي بنفسه عن المواقف التي يخشى أن يسيء التصرف فيها كما تفعل أنت الآن.

 

أما إذا كان العكس .. فإن الأمر يتطلب العلاج بالفعل للأسباب العضوية التي تؤدى إليها .. ذلك أن الأطباء يرجعونها إلى أسباب عضوية وليست نفسية كتأثير بعض الأدوية المنخفضة لضغط الدم المرتفع عند بعض الأمراض التي تصيب المخ.

وتقديري هو أنك تستطيع أن تدرب نفسك على التحكم في انفعالاتك الساخرة إلى حد ما، بدليل أنك كنت تؤجل انفجاراتك بالضحك إلى حين عودتك إلى البيت لكي تأمن عقاب المدرس لك، ولابد أنك تفعل ذلك أيضا مع رؤسائك في العمل، وإلا لما مضت حياتك العملية في سلام .. ولما أحبك زملاؤك .. فإذا كنت قد فشلت في التحكم في نفسك حين بكى والدك على أمه وارتج جسمه من البكاء سامحك الله .. فلربما كان مما يؤخذ في الاعتبار في ذلك أنك كنت طفلا أو صبيا صغيرا وتأمن عقاب الأب لك مهما فعلت مما أغراك بعدم التحفظ في الاستجابة لهذه النزعة وقتها، يبقى بعد ذلك أن هذه النزعة تحرمك بالفعل من أداء بعض الواجبات الاجتماعية ومن المشاركة فى صلاة الجماعة وصلاة الجمعة .. وهذا هو الأمر الذي يستدعى القلق بالفعل .. لأنه يعنى عجزك عن التحكم في نفسك في المواقف التي تتطلب منك ذلك.

 

وأحسب أنك تستطيع بالتدريب الذاتي .. وتعمد عدم تأمل الآخرين في هذه المناسبات للبحث عن أسباب تدعو للضحك منهم، أن تشارك في هذه الواجبات بغير خطر عليك من ردود أفعال الآخرين تجاهك.

وفيما عدا ذلك فلا بأس بالضحك والابتهاج بالحياة في المواقف التي تدعو للمرح حتى ولم تدع غيرك إليه..لأن استجابات البشر لدواعي السرور والحزن تختلف من شخص إلى آخر فى إطار هامش تباين معقول في الانفعالات..

 رابط رسالة البكاء

  ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات