البَكّاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
فأنا رجل أبلغ الخامسة والخمسين من العمر .. ثقافتي عالية ومتفقه فى أمور الدين إلى الحد الذى وصل بى إلى منابر المساجد خطيبا فى الناس كل يوم جمعة لسنوات ولم أنقطع إلا أخيرا بعد ما صارت مشكلتي تنحصر فى جملة واحدة هى (أننى رجل بَكّاء) .. أي كثير البكاء .. فجميع المواقف الإنسانية تبكيني .. لا أبكى الموت ولكنى أبكى على مشاعر من تركهم الراحل .. إذا ضربت الأم أى ابنها ثم عادت واحتضنته حنانا ورأفة أبكى .. إذا قرأت عن الجحود بين الإنسان وأخيه أبكى ، وإذا تحدثت فى إحدى خطبي بالمسجد عما لاقاه الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه من معاناة وجحود وقسوة على أيدى أهله وعشيرته .. أو سردت على الناس موقفا عصيبا من عشرات المواقف التى عاناها يختنق صوتي فلا يخرج وتنهمر دموعي وأجاهد كى أتمسك لكى أكمل حديثي للناس .. وكنت أموت خجلا من هذا الموقف مما دفعنى فى النهاية إلى الهروب من أى منبر أدعى لإلقاء خطبة الجمعة منه.
وإذا جلست مع بناتي نشاهد فليما بالتليفزيون تدور قصته عن الظلم أبكى حين ترد المظالم لأصحابها مع أننى لا أعانى والحمد لله شيئا من الظلم وسعيد بأسرتي التى تضم أربع بنات وولدا جميعهم فى مراحل التعليم المختلفة .. بناتي يجبنني إلى درجة العشق وأمهن - أى زوجتي - تراني أسطورة تعيش فى زمن خلا من المعجزات والأساطير وأحظى بالحب والاحترام فى عملي ولا أحمل ضغينة لأحد وحياتى مستورة والحمد لله ،يحكمها المثل القائل (الله جاب..الله أخد..الله عليه العوض) .. فهل أنا مريض نفسيا .. هل أحتاج إلى طبيب نفسى يعالج هذه الحساسية المفرطة عندي .. وإذا رأيت أننى فعلا أحتاج إلى طبيب نفسي ، فهل أجد علاجي عند أحد الأطباء من معارفك بتوصية منك فلا يغتال مواردي المتواضعة فى أسعار الجلسات والأدوية .. لقد امتنعت نهائيا عن مشاركة الزملاء مشاكلهم وهمومهم .. وامتنعت نهائيا عن اعتلاء أى منبر سواء فى المسجد أو فى ندوة ثقافية لهذا السبب..فهل أجد المساعدة التى أنشدها لديكم؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
رقة المشاعر ليست مرضا نفسيا ، وبكاؤك فى المواقف التى تستدر الدمع أمر طبيعي لمن كان مرهف الحس مثلك ولقد عرفت رجالا أشداء تغلبهم دموعهم فى مثل هذه المواقف فلا يخجلون من بكائهم .. وماذا يدعوهم إلى ذلك ولو كان البكاء عيبا لما كان الأنبياء جميعهم بَكّائين ولما ذرفوا الدمع الطاهر فى مواطن الحزن والبكاء،ولما بكى الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم أكثر من مرة وهم يخطبون الناس أو يصلون بهم .. ولما بكى عمر بن الخطاب حتى ابتلت لحيته الشيباء وهو يؤم الناس فى الصلاة حين قرأ من سورة يوسف إِنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّى وَحُزْنِىٓ إِلَى ٱللَّهِ
ولما قال العباسي بن الأحنف:
نم دمعي فليس يكتم شيئا ووجدت اللسان ذا كتمان
ولا عجب فى ذلك لأنه لا يلام الإنسان إن كان إنسانا ، وإنما يلام إن كان قاسى القلب،جامد المشاعر .. والمشكلة الحقيقية التى تواجهها هى غلبة الدمع عليك فى مواقف الخطابة والإلقاء وعجزك عن الاستمرار وفى ذلك فقد تكون المساعدة النفسية أوالطبية مطلوبة .. إذ أن بعض الأشخاص يتميزون بنشاط زائد لغددهم الدمعية ويمكن عن طريق العلاج ردها إلى الاعتدال،كما أن المساعدة النفسية قد تعين مع التدريب والاستبصار الذاتي على التحكم فى النفس فى مواجهة الآخرين .. وإن كنت ما زلت على رأيى فى أنه لا عيب فى أن يغلبك البكاء حتى وأنت فوق المنبر.
.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر