الشهود .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
من نكد الدنيا أن يصبح حتى
الانفصال البغيض في بعض الأحيان ترفا لا يقدر عليه إلا القادرون !
عبد الوهاب مطاوع
منذ قرأت رسالة "
الدعاء " في أواخر الصيف الماضي للزوج الذي راح يستمطر اللعنات على زوجته
الراحلة لأنه لم ير منها سوى " قفاها " معظم حياته معها , وأنا أريد أن
أكتب إليك قصتي التي لا أعرف لها عنوانا ملائما , فقد حرمتني زوجتي هي الأخرى المودة
والرحمة وأهدتني الكراهية بطول لسانها وعدم خشيتها لله والناس ..إنها يا سيدي لا
تقبل نصحاً مني ولا توجيها ولا تنصاع لشيء ولو كان الضرب .. وقد استنفدت معها كل
وسائل الإصلاح فوجدت نفسي بعد 10 سنوات من حياتي معها أعاشر زوجة ناكرة للجميل
أنانية قاسية مع أولادها تجلس إلى المائدة مع أولادها وهم صغار وتنصرف إلى طعامها
وهي مقطبة وتترك أطفالها لما أمامهم من طعام بغير أي محاولة لترغيبهم فيه فإذا
رجوتها أن تفعل قالت بكبرياء أنها لا تدعو أحداً إلى الطعام !
تتشاجر معي 25 يوماً كل
شهر ونعيش 5 أيام فقط في هدوء نسبي , تدَّعي أنها تربوية ولا تعرف كيف تربي
أبناءها وتهاجمني أمامهم وتولول وتشكو بصوت عال منهم ومن سوء تربيتهم وأخلاقهم
كأنهم أبناء سيدة أخرى لم تسمع باسمها من قبل !
حياتها تنحصر في شيئين
سيرة الآخرين والشكوى الدائمة من كل شيء والويل كل الويل لي إن لم أستمع باهتمام
ولم أجاملها بتأييدها في أي شكوى , ورغم ذلك فهي في حالة شجار دائم معي ومع الناس
ومع الأولاد والجيران , وتحرص على أن تشرك أولادي الصغار الذين لا يزيد عمر أكبرهم
على 9 سنوات في كل شجار أو نقار بيني وبينها وتتعمد ذلك بحجة أن يكونوا شهودا عليّ
! أي على أبيهم وهم في هذه السن الصغيرة !
لقد يئست من كل شيء ومن محاولات الإصلاح بعد أن شكوتها لأهلها مرة فكانت الطامة الكبرى إذ كيف أشكوها وكيف أذيع أسرار بيتي خارج جدرانه مع أن كل جيراننا يسمعون نشرة أخبارنا اليومية من صوتها الجهوري ومشاجراتها التي لا تنتهي .
إنني أعمل عملا أتعامل فيه مع الجمهور وأعود إلى بيتي مكدودا لا أطلب إلا السلام والراحة والهدوء فلا أنال شيئا مما أبغي وقد لاحظت للأسف أن ثمار النكد المستمر قد أينعت , فالولد الكبير قد ترهل وأصبح بدينا لأنه لا أحد يراقب طعامه ولأنه لا يخرج كثيرا , والأوسط يعاني من السرحان والتوهان وعدم الأكل إلا بالترهيب أو الترغيب الشديدين والولد الأصغر لديه نزعة عصبية زائدة ورغبة في التدمير , وهم الثلاثة طوال فترة صحوهم يتلاحمون ويتناوشون ويتناهشون باستمرار كأشبال الحيوانات الشرسة !
فهل تستمر معاناتي مع
هذه الزوجة إلى الأبد أم أطلقها وأنا لا أعرف كيف أسدد ما سوف تطالبني به من مؤخر
وقائمة أثاث ونفقة وحضانة أطفال , لقد استشرت محاميا صديقا فنصحني بأن أصلح أموري
معها وأمري إلى الله لأني موظف ولست قادراً على مجابهة متطلبات طلاقها , واستشرت
مأذونا فنصحني بهجرها بضعة شهور ثم الزواج عليها وللأسف فإن ظروف العمل والسكن لا
تسمح لي بالهجر داخله ولا بالزواج حاليا ..
فماذا أفعل وهل لو
طلقتها أجد من يمكن أن تكون أماًّ صالحة لأطفالي الثلاثة هؤلاء بدلا من أمهم
المزيفة هذه ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
أنا من مؤيدي صديقك
المحامي لأنه يعرف ظروفك بأفضل مما أعرفها أنا ولابد أنه يرى أن هناك بصيصا من
الأمل في إصلاح الحال بينك وبين زوجتك أو أنه لا أمل إطلاقا في مواجهة تحديات
مشروع الانفصال المادية , ومن نكد الدنيا أن يصبح حتى الانفصال البغيض في بعض
الأحيان ترفا لا يقدر عليه إلا القادرون !
وسواء كان هذا السبب أو ذاك فإن ثلاثة من الأطفال الصغار لم يبلغ أكبرهم العاشرة , مسئولية إنسانية كبيرة تفرض عليك أن تحاول مرة أخرى وألا تستسلم كثيرا لأحلام اليقظة التي تهيئ للمكدودين أحيانا إمكانية تغيير حياتهم وتحقيق أحلامهم الوردية بغير عناء .
فالواقع يختلف كثيرا عن
الخيال , والأبناء الصغار الذين يحتاجون لرعاية الأبوين مهما كان اعتراضنا على
أسلوب أحدهما أو أخطائه , يفرضون على أهل الإحساس بالمسئولية أن يعملوا أحيانا بما
أورده أبو حيان التوحيدي " في الامتناع والمؤانسة " نقلا عن حكيم اسمه
محمد بن واسع من أنه " ينبغي على الرجل أن يكون مع المرأة كما يكون أهل
المجنون مع المجنون ..يحتملون منه ويصبرون عليه " , وإن كنت أؤمن شخصيا بأن
نفس هذه المسئولية تفرض أيضا على المرأة أن تكون مع الرجل كأهل المجنون مع المجنون
بنفس القدر ولهذا الهدف النبيل .
فتخفف من تشاؤمك ولا
تفقد الأمل فلا شك أن حياتك لابد أنها تشهد بعض فترات الصفاء والهدوء وأنك تستطيع
أن تزيد مساحتها تدريجيا بالصبر والحكمة ..إن زوجتك مخطئة بلا شك في ميلها للنزاع
والشجار وفي إهمالها لأطفالها وفي منطقها الخاطئ تماما في إشهادهم لهم عليك . بل
وفي مجرد إشعارهم بأي شجار أو خلاف معك وينبغي أن تتوقف عن ذلك تماما وأن تحجبا
معا كل مشاحناتكما العادية عن مرأى ومسمع الأطفال بقدر الإمكان , وعليك أنت أن
تحاول تعويض أطفالك ما ينقصهم من جوانب الرعاية , وأن تعتصم بالصبر معها وتسمع
لشكواها بأناة واهتمام وتشجع مبادراتها ومحاولاتها , وأن تتعامل معها بنظرية محمد
بن واسع حتى النهاية حرصا على الأطفال فإما أن تثمر النظرية ثمارها وتسعدا معا
بحياتكما , وإما أن تكسبا سنوات أخرى قبل أن يتحطم المعبد فوق الرؤوس .
ولاشك أن هذه هو الأفضل
في مثل ظروفك فابتسم فما تشكو منه شكا منه قبلك كثيرون بعضهم من العظماء والفلاسفة
! لقد ماتت زوجة الناقد الإنجليزي العظيم صمويل جونسون وكانت تكبره بعشرين سنة
فوضع على قبرها شاهدا رخاميا نقش فوقه باللاتينية هذه العبارة :
" جميلة ... مهذبة ... ماهرة ... تقية "
وبعد وفاتها بقليل سُئل
هل كانت كما وصفتها حقاً فأجاب في هدوء , أن المرء لا يقسم على أن يقول الحق حين
يكتب ما يريد على شواهد القبور ! .
وغير جونسون كثيرون فلا تبتئس !
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ابريل عام 1992
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر