أخطاء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1995
أخطاء الحياة لا ينبغي أن تصحح على حساب الأبرياء الذين لم يرتكبوها .. ولا بارتكاب أخطاء جديدة أشد هولاً .. وحين يتأخر التصحيح عن موعده المناسب فإن الإقدام عليه في الوقت الضائع يصبح خطأ آخر يضاف إلى أخطائنا القديمة ولا ينتقص منها.
عبد الوهاب مطاوع
أنا شاب أبلغ من العمر 33
عاما .. نشأت في أسرة مترابطة وعشت حياة هادئة .. وتعرفت وأنا في نهاية المرحلة
الثانوية بطالبة في غاية الأخلاق والجمال .. وتحاببنا وتعاهدنا على الزواج بمجرد أن
أنهي دراستي الجامعية .. والتحقت في العام التالي بإحدى الكليات النظرية ولحقت هي
بى بعد عام آخر في نفس الكلية .. واستمرت علاقتنا طاهرة وبريئة فكنا نتقابل في
ساحة الكلية وفى الأماكن العامة .. ونترقب اليوم الذي أتخرج فيه وأصبح قادرًا على
التقدم لأسرتها .. لكنني تعثرت للأسف في دراستي الجامعية .. ورسبت أكثر من مرة
فطال مشوار التعليم بالنسبة لي وتضافرت معه ظروفي المادية الصعبة، فيئست من أمل
اجتماع الشمل بيننا وطلبت من فتاتي أن نقطع علاقتنا ونفترق, وأن تقبل من يتقدمون إليها
ممن يقدرون على تكاليف الزواج , ورفضت هي ذلك بإصرار وقاومت طويلاً انهيار الحلم
لكني ألححت عليها بأن تستسلم للأمر الواقع , وألا تبدد سنوات العمر الثمينة فى
انتظار حلم صعب التحقق , واستسلمت أخيرًا لذلك وقطعنا علاقتنا , ونحن مازلنا فى
المرحلة الجامعية وتخرجت فتاتي قبلي بعام وتقدم لها شاب ممتاز وفى مركز مرموق ,
ورحبت به أسرتها وتمت خطبتها له , وبعد أسابيع من الخطبة أرسلت إلي تبلغني
باستعدادها لفسخ الخطبة إذا كنت على استعداد للزواج منها ولو بعد حين , لكني أشفقت
عليها من أن تربط مصيرها بمصير شاب مكافح مثلي لن يقدر على تكاليف الزواج قبل
سنوات , وأرسلت إليها أرفض عرضها الكريم وأعتذر عن عدم قبوله وأرجو لها السعادة في
حياتها الجديدة .
وصدمت هي بردي القاطع .. فمضت في مشروع زواجها ,
وانقطعت أخبارها نهائيًا عني , ومضت عدة سنوات وجدت خلالها عملاً في إحدى الشركات
الكبيرة وتحسنت أحوالي المادية وبدأ الأهل يحثونني على الزواج ورشحت لى إحدى قريباتي
فتاة رأتها مناسبة لي من كل الوجوه , ورأيتها أنا فلم أقتنع بها , أو بمعنى أصح لم
أجد في نفسي ما يرغبني فيها أو ينفرني منها , وترددت في القبول , لكن الجميع شجعوني
على الارتباط بها وحثوني عليه .. فمضيت في إجراءات الخطبة والزواج بلا حماس وتمت
الخطبة في موعدها وتحدد موعد القران , وشغلت بإعداد مسكن الزوجية وشغلت خطيبتي
بإعداد مستلزمات الزواج وقبل موعد الزفاف بثلاثة أيام ذهبت إلى وسط المدينة لبعض
الأعمال , فإذا بى أجد نفسي فجأة أمام فتاتي القديمة التي لم أرها منذ عشر سنوات
كاملة وهى تدفع أمامها عربة أطفال بها طفلة صغيرة وتنظر إلىّ بدهشة وابتهاج ..
وأنا أنظر إليها مذهولاً وعاجزًا عن الكلام!
واندفعت إليها محييًا في شوق وحنين وحيتني هي بحرارة شديدة ودفعت العربة أمامها
ببطء كأنها تدعوني للسير إلى جوارها , وسرت معها منفعلاً ومبتهجًا وتبادلنا الحديث
والسؤال عن أحوال كل منا .. وعلمت منها أنها ليست سعيدة مع زوجها , وصارحتها بأنني
سأتزوج بعد ثلاثة أيام لكني لست مقتنعًا بزوجتي المقبلة ولا أدري لماذا أمضى في
مشروع زواجي منها .. كأنني مرغم عليه !
وطال
حديثنا لأكثر من ساعتين وأنا لا أشعر بما حولي , وهي كذلك وجاءت لحظة الفراق التي
لا مفر منها فطلبت أن تعرف عنواني وتليفوني , لكني فضلت ألا تعرفهما إشفاقا عليها
من المتاعب التي قد تهددها , إذا تجدد الأمل في اللقاء داخلنا مرة أخرى .. وأحنت هي
رأسها مؤمنة على ذلك.. وودع كل منا الآخر داعيًا له بالسعادة في حياته.
وبدأت
حياتي الزوجية مع زوجتي محاولاً أن أنفض من رأسي صورة فتاتي القديمة وشخصيتها
الدافئة الجذابة , فمضت شهور الزواج الأولى في فتور ولم أشعر بوجود زوجتي في حياتي
ولاحظت عليها ضعف شخصيتها وافتقادها للباقة الحديث مع الآخرين .. وطلبت منها أن
تغير من نفسها وطبعها ورفضت الاستجابة لذلك، فإذا بخيال فتاتي القديمة يطل علي من
جديد ويشاركني حياتي كل يوم فأغيب معه في لحظات حلم جميل .. ثم أفيق منه على وجه زوجتي
وصوتها وحديثها الذي لا يمنعني وإذا بى أجد نفسي أفكر في الاتصال بفتاتي القديمة
كل لحظة , ثم أتراجع لأني لا أريد لها العناء ولا أريد أن أخون زوجتي التي تنتظر
مولودنا الأول الآن.
إن
خيال فتاتي .. يلاحقني كل يوم .. ويحثني على ألا أتوقف أمام أي شئ سوى سعادتي ..
فأنفصل عن زوجتي وأتحمل تبعات ذلك النفسية والعائلية والاجتماعية رغم صعوبتها
وأطالب فتاتي بألا تكون أقل شجاعة مني وبأن تنفصل عن زوجها وتتحمل تبعات ذلك مهما
كانت قاسية عليها ثم نحقق معًا الحلم القديم الذي اعترضته ظروفي المادية وتعثري في
الدراسة من قبل .. ويستغرقني هذا الحلم طويلاً فأضيق بزوجتي وبكل ما تفعل .. ثم
أنظر إلى بطنها المنتفخ بالمولود المنتظر .. فأتراجع وأرد نفسي إلى دنيا الواقع.
فبماذا تنصحني يا سيدي .. هل أقدم على الخطوة
المؤلمة وأهدم أسرتي واحكم على مولودي بأن يجئ للحياة في بيت لا يعيش فيه أبوه ..
أم أمتثل لأقداري وأواصل حياتي مع زوجتي قابلاً بها.
لقد
أخطأت خطأ عمري حين رددت بالرفض على رسالة فتاتي القديمة حين أرسلت لي تبلغني
باستعدادها لأن تفسخ خطبتها إذا كنت مستعدًا للتقدم لها .. ومازلت نادمًا على هذا
الرفض .. فهل ترى في الإمكان تصحيح هذا الخطأ القديم الآن؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
أخطاء
الحياة لا ينبغي أن تصحح على حساب الأبرياء الذين لم يرتكبوها , ولا بارتكاب أخطاء
جديدة أشد هولاً وحين يتأخر التصحيح عن موعده المناسب فإن الإقدام عليه في الوقت
الضائع يصبح خطأ آخر يضاف إلى أخطائنا القديمة ولا ينتقص منها.
فإذا
كنت قد ندمت الآن وبعد عشر سنوات على أنك قد رفضت يد فتاتك الممدودة إليك تحثك على
أن تخطو الخطوة الصحيحة في اتجاه تحقيق الحلم القديم , فليس من النبل أن تقبل بأن
يدفع ثمن هذا الخطأ الآن أطفال فتاتك القديمة وأبوهم وأسرتها وأسرة زوجها , وتدفعه
أيضا زوجتك وأسرتها ومولودك المنتظر.
وإنما
ينبغي أن يتحمل الإنسان ثمن أفعاله بشجاعة ويقبل تبعاتها بشرف .. ونحن في النهاية
لا نعيش في جزيرة مهجورة وإنما بين أهل وبشر وأبناء يتأثرون سلبًا وإيجابًا
باختياراتنا فى الحياة , ولا نستطيع حتى ولو راودنا هذا الحلم الجميل فى الخيال أن
"ننسى كل شئ ولا نتوقف إلا أمام سعادتنا الشخصية فقط" كما تقول في
رسالتك , وبغض النظر عما سوف يترتب عليها من شقاء للآخرين , ذلك أن هذه هي
الأنانية .. الكريهة .. والفردية البشعة التي تنجم عنهما معظم الكوارث العائلية
والاجتماعية ولقد تخليت أنت عن حلمك القديم باختيارك ولم تتمسك به ولم تكافح من
أجله , وإنما استسلمت سريعًا للانهزامية .. والشك في قدرتك على تحقيق الأحلام
ففقدتها , باستسلامك وإحباطك , وليس بسبب الظروف المادية وحدها بدليل أنه لم تمض
عدة سنوات إلا وكانت أحوالك المادية قد تحسنت وراح الجميع يحثونك على الزواج.
وكثير
من أحلام الإنسان في السعادة يتبدد في الهواء ليس لعجزه عن تحقيقها .. وإنما لشكه في
قدرته على أن يحققها لنفسه بالكفاح الجاد والتمسك بالأمل حتى النهاية.
وفى
رواية "السيمفونية الريفية" للأديب الفرنسي أندريه جيد قال الأب الكاهن
بطل الرواية : " ما أكثر الأشياء التي كان من السهل الإقدام عليها لولا تلك
الاعتراضات التي يتفنن الإنسان أحيانًا في ابتكارها لنفسه, وكثيرا ما حيل بيننا
وبين هذا العمل أو ذاك لأننا قد سمعنا صوتا من داخلنا أو من المحيطين بنا يقول
لنا: إننا لن نقدر عليه , ولو لم نسمع هذا الصوت ونستجيب لها لكشفت لنا التجربة عن
قدرتنا على نيله والفوز به"!
وأنت
قد سمعت هذا "الصوت" المحبط من داخلك ففتّ في عضدك .. وأقعدك عن الكفاح
لتحقيق حلمك والتمسك به , مع أنه لم يكن مستحيلاً فما معنى أن تتعذب به الآن وقد
قامت بينك وبينه سدود حقيقية كالجبال!
إننا
نندم غالبًا على ما يفوتنا من فرص الحياة ونتصور فيها دائمًا "السعادة
المثلى" التي حرمتنا منها الأقدار , مع أننا لا نستطيع أن نجزم بأننا كنا
سنسعد بها لو كانت الحياة قد سمحت لنا بها ولم تسمح لنا ظروف الحياة بأن نختبر هذه
"السعادة المثلى" ونتحقق منها لأنها لم تتح لنا من الأصل.
ولأننا فى النهاية إنما نلتقي بأقدارنا المقدورة علينا شئنا ذلك أم أبينا, ولأن
سعادتنا وشقاءنا في الحياة هما أيضًا من قدر الله مهما تحسبنا لهما أو اجتهدنا.
فهون عليك يا صديقي ولا تستسلم لأحلام اليقظة الجميلة التي تعلم أنت قبل غيرك أن دونك ودونها أهوال ترتج لها أركان عدة أسر وأنك لا تقدر على الإقدام عليها إلا في دنيا الخيال الحالمة الجميلة , ونصيحتي لك أن تدع فتاتك لحياتها وزوجها وأطفالها وأن تنفض صورتها من خيالك لكي لا تظل حائلاً بينك وبين قبولك لزوجتك والتواؤم معها , فهذا الخيال نفسه هو الذي يظلم زوجتك ويضعها دائمًا موضع المقارنة الظالمة مع أخرى لا ترى أنت منها سوى طيفها الشاعري القديم ولم تعش معها حياة مشتركة ولم تختبرها في كل أحوالها الدنيوية وحين تنجح في إبعاد هذه الصورة عن خيالك فسوف تعترف لزوجتك بحقها العادل في أن تكون امرأة أخرى مختلفة عن فتاتك القديمة في شخصيتها وملكاتها وقدراتها وسوف تكتشف فيها من المزايا ما يرغبك فيها .. وما ترضى عنه وعن حياتك معها وتدع من أجله تلك الأحلام القديمة راقدة في سلام في خزينة الذكريات.
رابط رسالة النجوم البعيدة تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر