النجوم البعيدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 النجوم البعيدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

النجوم البعيدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

إن النجوم البعيدة في السماء تبدو لنا دائما جميلة ولامعة وشاعرية، لكننا إذا اقتربنا منها أدركنا أنها كتل من الغازات شديدة الحرارة والخالية من أي جمال والتي يقتلنا لهيبها، وكذلك أشياء كثيرة في الحياة يصورها لنا خيال الحرمان واحة شاعرية من السعادة، فإذا ادركناها قد نجد فيها ما يلسعنا بلهب الندم والتعاسة.

عبد الوهاب مطاوع


 

أكتب إليك رسالتي هذه بعد أن قرأت رسالة أخطاء الحياة ، للشاب المتزوج الذي أحب خلال دراسته الجامعية زميلته لعدة سنوات وطلبت منه أن يتقدم إليها، فاعتذر بضعف إمكانياته المادية، فخطبت لغيره وتزوجته وأنجبت منه، وتحسنت ظروفه المادية بعد سنوات وتزوج من أخرى وحملت زوجته، ثم التقى بحبيبته السابقة مصادفة في الطريق بعد عشر سنوات فتجددت مشاعره تجاهها لكنه لم يخن زوجته معها.. وكتب إليك يستشيرك ويشكو من فتور مشاعره تجاه زوجته.. ويسألك هل يصحح الخطأ القديم وينفصل عن زوجته ويطالب الأخرى بالانفصال عن زوجها ويحققان الأمل القديم في الارتباط؟.. ولقد أعجبني ردك الحكيم عليه بان أخطاء الحياة لا ينبغي أن يدفع ثمنها الأبرياء الذين لم يرتكبوها وهم في قصته أطفال فتاة القلب القديمة وزوجها وزوجة كاتب الرسالة ومولوده المنتظر.. وأريد أن أحيى كاتب الرسالة لعدم خيانته لزوجته لكيلا يظلمها كما ظلمني زوجي.

 

 فأنا سيدة شابة ومنذ خطبت لزوجي وأنا لا اشعر من جانبه بأي حب لي ولا بأية لهفة على لقائي ومضت شهور الخطبة بغير أن اشعر بجمال هذه الفترة في حياة كل فتاة بسبب فتور مشاعره أو بروده بمعنى اصح، ومع ذلك فلم أفقد الأمل في تحسن الأحوال بعد الزواج، وتزوجنا بعد فترة خطبة قصيرة، وفوجئت به بعد الزواج دائم الانتقاد لي في كل شيء تقريبا من ملابسي إلى تسريحة شعري إلى كل تصرف أو فعل أقدم عليه.. وتحملت انتقاداته صابرة مع إني على درجة عالية من الجمال وعلى خلق طيب والحمد لله ومتدينة وحلوة المعاشرة ومن أسرة طيبة وكان يتمناني من هو أفضل منه من شباب العائلة ومن الجيران لكنها القسمة والنصيب، وقد تألمت غاية الألم حين قال لي ذات يوم ونحن في عامنا الأول من الزواج أنه يفضل الموت على أن يعيش معي وحين راح يشعرني بأنه لم يجد لدي أي شيء يسعد به.. ورغم ذلك فقد تحملت آلامي النفسية في صمت ودون شكوى ولم أفكر في طلب الطلاق لأنه لم يكن قد مضى عام  على زواجي إذ تخيلت ماذا سيقول الناس عني لو طلقت وأنا مازلت عروسا فقررت الاحتمال ومواصلة الرحلة.

 

وتحملت صابرة صد زوجی وبرود مشاعره تجاهي وانتقاداته الدائمة وانتقاصه لي في كل شيء.. وصممت على أن ينجح زواجي رغم المؤشرات غير المطمئنة ومنها طلبه مني تأجيل الإنجاب خلال العام الأول، وقلت لزوجي ذات يوم: ماذا تريد مني أن افعله لترضى عني وتجد لدي ما يسعدك ؟.. وأكدت له أنني سأفعل كل ما يطلبه منی بلا ممانعة لكي يشعر بالرضا ويتقبلني كزوجة وشريكة حياة، فطلب مني أن أصفف شعري بطريقة معينة، وأن ارتدي موديلات معينة من الملابس بألوان محددة، واستجبت لكل رغباته وصففت شعري بالطريقة التي أرادها.. واشتريت ملابس جديدة من نفس الألوان ونفس الموديلات التي حددها لي وارتديتها.. ومع ذلك فلم اشعر بسعادته ولا بتجاوبه، ثم ذهبت بعد ذلك بأيام مع إحدى قريبات زوجي إلى محل أقمشة فتصادف وجود فتاة به تشتري قماشا، وأشارت إليها قريبة زوجي وروت لي أن زوجي كان يحب هذه الفتاة جدا قبل زواجه مني لدرجة انه يبكي من أجلها، لكنه لم يتزوجها ولا تعلم سبب ذلك، ونظرت إليها باهتمام فوجدتها فتاة عادية جدا في كل شيء، وليس فيها شيء مميز أو مثير لكني لاحظت فقط أنها تصفف شعرها بالطريقة التي طلبها مني زوجي، وأنها ترتدی ملابسها من نفس الألوان والموديلات التي اختارها لي، وتألمت لذلك جدا وأدركت أنها الحاجز الغامض الذي قام بين زوجي وبيني منذ زواجنا وبلا ذنب لي، ورغم ذلك فقد تجاهلت الأمر كأني لم اعلم به وصممت على نجاح زواجي كراهية للفشل والطلاق والعودة الخائبة لبيت أسرتي.

 

 وبعد عام حملت في طفلي الأول، وأنجبت وتركز أملي في أن ينسى زوجي أحلامه القديمة بعد أن أصبح أبا وتتغير مشاعره تجاهی، فمضت السنوات تباعا حتى بلغت ۱۲ عاما وأصبح لدينا ثلاثة أطفال، وبدأ زوجي يلين بالفعل في معاملته لي بعض الشيء وبدأ يغير من معاملته لي ويشعرني بوجودي وسعدت بذلك جدا، فلم تمض أيام حتى كنت أرتب بعض أوراق ..  فإذا بی أعثر بينها على خطاب بخط يده إلى فتاته القديمة علمت منه أن زوجها قد مات وأنها أصبحت أرملة وصعقت بأنه يبثها حبه ويؤكد لها أنها قد عاشت معه في خياله ووجدانه طوال سنوات زواجه، وأنها هي حبيبة العمر وليس أحد قبلها ولا بعدها، وفهمت من الخطاب أيضا أنه قد رجع إلى لقائها وأنه يذهب إليها في مقر عملها ويتقابلان في العمل وخارج العمل.

 

وصدمت صدمة العمر وأنا اقرأ هذا الخطاب اللعين.. وتساءلت وأين أنا من كل هذا الحب الذي هانت معه عليه حياتي وكرامتي وسعادة أطفاله الثلاثة وعشرتي الطيبة له وأنا التي عاملته دائما بالحسنى ودعيت الله في معاملتي له طوال اثنی عشر عاما؟.. لقد انهرت عصبيا ونفسيا لأيام طويلة وأصبحت لا استطيع النوم إلا بالمهدئات حتى دعوت الله عليه وعليها من كل قلبی بألا يجمع الله شملهما وألا يهنآ ببعضهما البعض أبدا؟

والآن.. أريد أن أسالك يا سيدي وأنا احترق من الغيظ والقهر والألم ما هو الشيء الذي سيجده عندها ولم يجده عندی؟.. وهل لديه يقين بأنه إذا تزوجها فسوف يسعد بها حقا أم أن مرآة الحب عمياء كما يقولون وسوف يكتشف بعد زواجه منها أنها لا تستحق كل هذه التضحية ويلمس عيوبها التي لم يكن يراها من قبل بسبب حبه لها؟.

 



إنني انصح كل من أحب فتاة بهذا الشكل وحالت الظروف بينه وبين أن يتزوجها ألا يتزوج أبدا بعدها وبأن يقضي بقية حياته بعيش على ذكراها بدلا من أن يظلم معه بنات الناس، والسلام عليكم ورحمة الله.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

يبدو أن زوجك يا سيدتي من هؤلاء الرجال الذين تنطبق عليهم كلمة المفكر الفرنسي جان جاك روسو التي تقول : وقد يهجر الرجل كل شيء من أجل المرأة التي يحبها! .. وقد يفعل المستحيل من أجل المرأة التي يرغب في اجتذابها إليه، لكنه لن يحرك ساكنا من أجل المرأة التي يعلم عن يقين أنها تحبه!

والحق أن بعض الرجال وبعض النساء أيضا من هذا النوع الجاحد المتبطر الزاهد في مشاعر من يحبونه والذي يسعى دائما وراء من لا يملك أي دليل على أنهم يبادلونه نفس مشاعره.

إنها آفة قديمة عند بعض البشر هي آفة الزهد في الموجود والتطلع إلى المفقود، وأنت يا سيدتي الموجود، الذي كان ينبغي لزوجك أن يسعد به ويشكر ربه عليه ويرضى عن حسن معاشرتك له وسرعة تلبيتك لكل رغباته حتى ولو حولك بها إلى مسخ، تقلدین به فتاة أحلامه القديمة.. لكن متی عرف الإنسان قيمة ما بين يديه قبل أن يفقده إلى الأبد.. ومتى سجد لربه شكرا وعرفانا على ما أنعم عليه به من نعم يتطلع غيره بحسرة إلى بعضها ؟

 

لقد تناسی زوجك في تطلعه إلى الفردوس المفقود الذی حالت بينه وبينه من قبل ظروف الحياة حقوق زوجته المخلصة عليه وحقوق أطفاله الثلاثة على أبيهم ومسئوليته الخطيرة عن استقرارهم ونشأتهم في حياة طبيعية بين أبوين متحابين أو على الأقل متراحمين إن عزت المشاعر العاطفية بينهما.

فماذا نستطيع أن نقول لمن يطوح بأمان أطفاله الثلاثة جريا وراء حلم قديم من أحلام الشباب؟

لقد أخطأت يا سيدتي في قراءة المؤشرات غير المطمئنة لعلاقة زوجك بك ابتداء من فترة الخطبة، إلى العام الأول من الزواج الذي أصر فيه على تأجيل الإنجاب، وراح ينتقد كل شيء فيك ويعلنك بأنه لم يجد لديك ما يسعد بها ولقد كان من الأفضل لك أن تتخذي معه وقفة حاسمة في فترة الخطبة فيستشعر مسئوليته عن إشعارك بإقباله عليك أو ينسحب من حياتك بلا خسائر ولا الأم.

لكن للأسف لم تفعلي ذلك في الوقت المناسب، ودفعك خوفك من الفشل والعودة الخائبة إلى بيت أسرتك إلى أن تحاولي بكل السبل إنجاح زواجك إلى حد الاستجداء الذليل لمشاعره الفاترة وأغراه ذلك بالاستهانة بك وبمشاعرك بدلا من أن يقدر لك حرصك عليه ورغبتك فيه، كما قد يفعل بعض الجاحدين، وحين بدأ يلين في معاملته لك ويشعرك بعض الشيء بوجودك، وقعت الواقعة واكتشفت أنه إنما يرتب للزواج من فتاة الأحلام القديمة بعد أن زالت الحواجز بينهما.

 

 وفي ظني أنه لم يكن لك تعبيرا عن مشاعر عاطفية طارئة تجاهك أو استشعارا لصدق ما تبذلين من محاولات مضنية لإرضائه، وإنما أغلب ظني أنه قد بدأ يلين لك في نفس الوقت الذي تجددت فيه علاقته بفتاته القديمة. كرد فعل تلقائي لدى الرجل حين يخون زوجته فيدفعه إحساسه بالذنب تجاهها إلى محاولة تعويضها، عن هذه الخيانة ببعض اللمسات العاطفية المزيفة .. أو ببعض الرقة المصطنعة أو ببعض الكرم المادي الطاريء معها، كأنما يرغب إلى جانب تعويضها، في أن تستنيم إلى ثقتها فيه ليمضي فيما هو سادر فيه نهايته

ولقد قلت مرارا أن السعادة الحقيقية التي لا ينغصها وخز الضمير.. أو الخوف من انتقام السماء استجابة لنداء المظلومين لا يمكن أن تتحقق للإنسان أبدا إذا كان لسعادته ضحايا من الأبرياء، لهذا فليس لدي من جديد أضيفه إلى حديثي إلى زوجك، لكني أقول له فقط .. إن النجوم البعيدة في السماء تبدو لنا دائما جميلة ولامعة وشاعرية، لكننا إذا اقتربنا منها أدركنا أنها كتل من الغازات شديدة الحرارة والخالية من أي جمال والتي يقتلنا لهيبها، وكذلك أشياء كثيرة في الحياة يصورها لنا خيال الحرمان واحة شاعرية من السعادة، فإذا أدركناها قد نجد فيها ما يلسعنا بلهب الندم والتعاسة.

 

وأنت تسألينني يا سيدتي عن الشيء الذي يجده لدى المرأة الأخرى ولا يجده لديك، وأجيبك بأنه غالبا هذا الخيال الجميل، الذي لم تتح له الظروف أن يتحقق أو يختبر في ارض الواقع، ولو ادرکه الآن لربما سعد به ولربما شقي به ، وكلا الاحتمالين متساويان تماما، لكن أصحاب الضمائر ومن يتحملون مسئولياتهم الإنسانية عمن يرتبطون بهم، لا يقدمون على هذه المخاطرة أبدا إشفاقا على أعزائهم من أن يدفعوا ثمنها في كلا الحالين.

ونحن في النهاية لا نعرف الآخرين جيدا إلا إذا اقتربنا منهم وعاشرناهم في السخط والرضا.. وفي الصحة والمرض. وفي السعادة والشقاء.. الخ لهذا فان احتمال أن نفجع فيمن يبدون لنا على البعد کالنجوم اللامعة.. كبير وقائم دائما.. والإنسان يتغير دائما من مرحلة إلى مرحلة من العمر ولا يمكن أن يكون هو نفسه بمزاجه النفسي وطباعه بعد ۱۰ أو ۲۰ عاما من الفراق معه.

لكن زوجك مازال يعيش أسيرا لخياله وأمنياته القديمة، ولو كان قد عزف عن الزواج في الفترة الماضية، وعاش على ذكرى فتات إلى أن زالت بينهما الحواجز، لما لامه أحد على سعيه للارتباط بها الآن.. لكن المؤكد أنه ليس من العدل ولا من قبيل تحمل الإنسان لمسئوليته الإنسانية عن أعزائه بشرف وشجاعة أن يضحي بسعادتهم وأمانهم جميعا طلبا لسعادة محتملة مهما كانت مغرياتها.

 

إن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول لنا ما معناه أنه إذا نظر أحدکم إلى امرأة ووقعت من نفسه فليرجع إلى أهله أي إلى زوجته فإن عندها مثل الذي عند الأخرى.

ولا شك أن عندك الكثير والكثير مما كان ينبغي أن يسعد به زوجك ويرضى عنه.. لكن ماذا نقول في جحود الإنسان وسعيه الدءوب وراء المفقود في بعض الأحيان؟

إن خيانة الرجل لزوجته باللمس والاتصال المحظور، إثم كبير يحاسبه الله عليه أشد الحساب، وصبرك على زوجك ومحاولاتك المستميتة للحفاظ عليه وإنقاذ سعادة أطفالك فضل عظيم يجزيك عنه ربك أيضا أعظم الجزاء، لهذا فإن نصيحتي لك هي ألا تستسلمي سريعا أمام تلك الأخرى وتنهزمي أمامها بلا مقاومة.. وأن تحاولي وللمرة الأخيرة إنقاذ زواجك وأمان أطفالك إبراء لذمتك من أي مسؤولية عن انهيار هذه الحياة وتمزق أطفالك بين أبويهما .. ومن رأي أن تواجهي زوجك بما علمت وأن تؤكدي له مما لا يدع أي مجال للشك أو الاعتماد على ضعفك العاطفي السابق تجاهه أنك لن تقبلي زواجه من الأخرى مع استمرار حياته معك .

فإذا أراد التطلع إلى فردوسه المفقود فليضع في يقينه أولا أن ذلك الفردوس سيكون له ضحايا أبرياء هم أطفاله وليراجع نفسه طويلا قبل الإقدام على مخاطرة غير مأمولة العواقب للجميع ولنرى بعد ذلك ماذا سيفعل حين يعرف أن أحلامه لن تتحقق بنفس اليسر الذي توهمه ونأمل أن ينتصر بداخله إحساس الأب المسؤل عن أطفاله وإحساس الزوج المسؤل عن زوجته التى طالما غمرته بفيض حبها وإخلاصها له .. ولا تقلقي كثيرا بكراهيتك المؤقتة له فهي ستزول بالضرورة حين يختار بينك وبينها فيكون الاختيار الأخير لصالحك وسينتفض حبك في قلبه من جديد إذا فعل .. وستنجو حياتكما مما يترصدها من أخطار بإذن الله. 

رابط رسالة أخطاء الحياة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات