بيئة الذئاب.. رسالة من بريد الجمعة
كلما تجدد الحديث عن جناية
بعض الآباء والأمهات على أبنائهم بإتخاذهم ساحه للصراع غير الشريف فيما
بينهم، وسعى كل طرف منهم لإجتذاب مودة الأبناء وغرس الكراهية فى نفوسهم ضد الطرف
الآخر.. تذكرت كلمه أطلقها قاض أمريكى قبل أن ينطق بحكمة فى جريمة بشعه إرتكبها شاب
ضائع فقال إن كل جريمة تبدو للآخرين بلا دوافع مفهمومه وراءها غالباً إنسان حُرم
فى طفولته من الحب وإحساس الأمان فى حياته العائلية.
أبعث
إليك برسالتي هذه لأحيي صاحبة رسالة شهوة الانتقام لإيجابيتها المطلوبة, وفهمها
العميق لواجبات وظيفتها تجاه أبنائها الصغار.. فأنا يا سيدي طبيب نفسي منذ 25
عاما, وكان موضوع رسالتي للدكتوراه الصحة النفسية عند الأطفال وحتى البلوغ,
وعلى مدى سنوات عملي الخمس والعشرين, لم أقابل ما هو أشد تأثيرا على الأطفال في
طفولتهم وحتى من البلوغ أكثر من تبعات الانفصال السيئة لأبويهم, لا أتحدث عن
الانفصال نفسه بالرغم مما نعرفه جميعا من التأثير السيئ والسلبي لانفصال الزوجين
على الأطفال, وإنما أركز حديثي على التبعات السيئة وردود الأفعال غير المسئولة
التي يقوم بها أحد الزوجين السابقين تجاه الآخر, مستخدمين في ذلك أطفالهم دروعا
بشرية تارة, وسيوفا يغمدونها فيمن كانوا شركاء حياتهم تارة أخري.
إنني مع القول الذي يؤكد
أنه إذا ما كانت الحياة الزوجية من الشقاء والتعاسة بحيث يستحيل معها أن يعيش
الزوجان معا.. فلا بأس بالطلاق لحماية الطفل من الحياة في منزل مليء بالمشاكل إذ
إنه ليس هناك أسوأ من نمو طفل في جو مليء بالكراهية, ولكني أقصد بالانفصال هنا
هو الانفصال النبيل الذي يقلل كثيرا من التأثيرات السلبية على الأطفال, وبحكم
سنوات عملي السابقة فإنني أقول إن الزوجين إذا تم بينهما الانفصال في السنوات
الأولى وهناك أولاد بينهم فإنه بحكم الحضانة سيكونون مع أمهم, التي لها تأثير
خطير على التكوين النفسي لهم, وللأسف الشديد فإن أكثر من80% من الحالات التي أباشرها
لأبناء في سنوات المراهقة تكون فيها الأم قد لعبت دورا مدمرا لنفسية أطفالها
بتشويه صورة الأب لديهم ولهؤلاء أقول: إن الطفل مكون من جزء من أبيه وجزء من أمه
وهو نفسيا وجسديا نبت نما من أرضهما, وكلاهما يتمتع عنده بمكانة المثل الأعلى,
فإذا حاول أحد أن يقنعه بأن أباه مليء بالعيوب, فلابد وأن الطفل سيقتنع أيضا أنه
شخصيا يحمل هذه العيوب والنقائص, لأن الولد مثل والده, هذا ما يعرفه الابن
تماما.
إن
الاتهامات التي يقولها كل طرف عن الطرف الآخر بعد انفصالهما لأولاده.. تؤذيهم
وتجعلهم يكرهون الحياة نفسها, ويحتقرونها, لأن أسرهم بهذه الصورة, مما
يوقعهم في براثن كراهية الطرفين معا الأب والأم, ويتعذبون لأنهم في الوقت نفسه
يحبونهما.
والأكثر
سوءا من كل ذلك هو الحالة التي يرتكب فيها أحد الوالدين جريمة حرمان الطرف الآخر
من رؤية الابن, والتسبب في أكبر قدر من الآلام له وإذلاله. إن كل طرف يجب أن
يترفع عن مثل هذه التصرفات الطائشة إذا كان مقتنعا تماما بالحقيقة الواضحة. وهي
أن الابن جزء من أبيه وأمه, وأنه يحتاج إليهما في الوقت نفسه.
إنني
أوجه كلمة إلى الأم التي أشارت إليها كاتبة رسالة شهوة الانتقام بحكم حضانتها للصغير,
إن عليها أن تلعب دورا حكيما, وهو ليس دور المظلومة التي تبحث عن العار لتصبه
علي رأس زوجها السابق أو التي تحاول أن تنال عطف طفلها وسخطه علي أبيه.. وإنما
دور الإنسانة المتزنة التي تتفهم الأمور, إنه الدور الذي تتحاشى فيه اتهام الأب
بأنه في جوهره وأساسه شخص سيء, لا ينبض قلبه بالحب, بل يجب أن يعرف الطفل من
أمه بأن أباه له صفات تحبب فيه معظم الناس وأشد ما يحتاجه هذا الطفل هو أن يسمع أن
أباه أحبه, ومازال يحبه, ولكي تصل الأم لذلك, فيجب عليها أن تضع حبها لطفلها
فوق كرهها لأبيه وسخطها عليه, إن فكرة الابن عن أبيه هي نفس الفكرة التي يتخذها
عن نفسه, وفكرة الطفل عن أمه
هي نفس الفكرة التي سينظر بها إلي زوجته في المستقبل, وكذلك فكرة الابنة عن
أبيها هي نفس الفكرة التي ستنظر بها إلي الرجال في المستقبل عندما تنضج, وفكرة
الابنة عن أمها هي نفس الفكرة التي ستحاول أن تكون عليها زوجة في المستقبل,
ولهذا يجب ألا يقف الطلاق بين الأبوين حاجزا دون تكوين أحاسيس الحب في قلوب
الأبناء لآبائهم وأمهاتهم.
أكرر
وأؤكد أن مصلحة الابن يجب أن تكون في احترامه لأبويه, وأن ينال حقه الكامل من
حبهما, وأن يستعمل كل طرف ذكاءه الكامل لإرضاء الطفل نفسيا, ويتحقق ذلك عندما
يستطيع ان يستمتع فعلا برؤية ومصاحبة الطرف الآخر الذي لا يقيم معه إقامة كاملة.
كلمة
أخيرة للآباء والأمهات, اتقوا الله في أولادكم فهم الحاضر والمستقبل, وأذكرهم
بقول الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم عن إحدي خصال المنافق أنه إذا خاصم فجر صدق
رسول الله
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
كلما تجدد الحديث عن جناية بعض الآباء والأمهات علي أبنائهم باتخاذهم ساحة للصراع غير الشريف فيما بينهم.. وسعي كل طرف منهم لاجتذاب مودة الأبناء إليه وغرس الكراهية في نفوسهم ضد الطرف الآخر.. كلما تذكرت كلمة أطلقها قاض أمريكي قبل أن ينطق بحكمه في جريمة بشعة ارتكبها شاب ضائع فقال "إن كل جريمة تبدو للآخرين بلا دوافع مفهومة وراءها غالبا إنسانا حرم في طفولته من الحب.. وإحساس الأمان في حياته العائلية".. ولقد كتب الكثير عن آثار تمزق الأطفال بين الأبوين الضارة علي معنوياتهم وتكوينهم النفسي ورؤيتهم للحياة.. لكن دراسة حديثة قد كشفت عن أن هذه الآثار لا تقتصر علي الجانب المعنوي والنفسي فقط, وإنما قد تمتد أيضا إلي ما هو أبعد من ذلك. فقالت الدراسة إن تعرض الأطفال للضغط العصبي بسبب الخلافات العائلية المتكررة قد يؤدي إلى انخفاض ملحوظ في إفراز هرمون النمو لديهم والي زيادة إفراز هرمونات الضغط العصبي مما يضر بأجزاء من المخ تؤدي دورا رئيسيا في نمو ذاكرة الطفل وقدرته علي التعلم. ذلك لأن هرمون النمو يتم إفرازه خلال النوم العميق, وينخفض معدل الإفراز بسبب اضطرابات النوم التي يعانيها عادة الطفل بسبب التوترات العصبية اثر خلافات الأبوين الحادة.. أو بسبب تمزقه بين حبه لأحد الأبوين وكراهيته للآخر, فضلا عن أن هذه التوترات تضعف جهاز المناعة في أجسامهم, وتزيد من احتمالات الإصابة بالأمراض المعدية.فإذا تذكرنا ما يقوله العلماء من أن التخلف العقلي ليس وراثيا فقط, وأن منه ما يرجع إلى أسباب تتعلق بالبنية التي ينشأ فيها الطفل.. وانه إذا نشأ إنسان في بيئة لا تساعد علي تنشيط العقل فإن عقله لن ينمو بنفس المعدل الذي ينمو به عقل إنسان آخر نشأ في بيئة سوية, ويضربون لذلك مثلا بالطفل الرضيع الذي تتولاه الذئاب وترضعه وترعاه فيشب شبه أبكم ولا يكاد يتميز إدراكه عن إدراكها في شيء كثير.. إذا تذكرنا كل ذلك لم نستبعد أن يكون للبيئة العائلية غير السوية التي ينشأ فيها الأطفال بسبب خلافات الأبوين المستمرة أمامهم.. وإشراكهم فيها.. أو استخدامهم كأداة في حروبها بعض الأثر الذي تتركه بنية الذئاب علي إدراك الرضيع الذي اختارت له الأقدار أن ينشأ بينها, من الناحية العقلية فضلا عن الآثار النفسية والتربوية والصحية الأخرى. فهل يدرك بعض الآباء والأمهات حقيقة ما يجنون
علي أبنائهم خلال انغماسهم في معاركهم العلنية أمام هؤلاء الأبناء. أو خلال
استخدامهم لهم في حروبهم غير الشريفة ضد الطرف الآخر قبل الانفصال أو بعده؟
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر