بداية القصة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999
لقد قرأت
ذات يوم كلمه حكيمة للأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار تقول فيها: سعيد من يستطيع
أن ينظر إلى حقيقة حياته فيرضى عنها, وينظر في وجه شريكه في الحياة فيرى فيه هذه
الحقيقة ويسعد بما رآه .. فكم إنسانا في الحياة يستطيع أن ينظر إلى حقيقة حياته
ويرضي عنها وينظر إلى وجه شريكه في الرحلة فيرى فيه هذه الحقيقة ويسعد بها؟..
وكم من سهام طاشت ولم تصب أهدافها لا لسوء التسديد وإنما لسوء اختيار الأهداف الجوهرية
التي ينبغي أن يتوجه إليها المرء بسعيه وجهده وكفاحه من البداية.
عبد الوهاب مطاوع
قبل أن أبدا خطابي إليك
أريد أن انوه بما كان ومازال لبريد الجمعة من أثر في حياتي الشخصية خلال سنين
طويلة, حيث انتظرت ثلاث سنوات بأكملها لكي اعرف نهاية قصتي ثم اكتب لك عنها..
وفي البداية فإنني فتاه
في السادسة والعشرين من عمري, ولقد شاءت لي الأقدار أن أقرا في بابك منذ ست
سنوات قصه بعنوان الخط الأحمر لفتاه روت لك أنها قد تخلت عن حبيب عمرها الذي
ارتبطت به سنوات عديدة لضعف إمكاناته المادية.. واستجابت لإغراء المادة والعريس
الجاهز الذي تعهدها الحياة معه بالرفاهية والراحة بلا معاناة ولا صبر على سنوات
البداية, وكيف انكسر قلب فتاها الذي أحبها بصدق وحلم بالارتباط بها ولم يسيء إليها
في شيء, ولم يرتكب جرما سوى أنه شاب في بداية حياته كغيره من الشباب ويحتاج إلى
عده سنوات من الكفاح لكي يبني حياته ويتزوجها, فكان أن هجرته لتتزوج بمن لا
تعرفه ولم تجتذبها إليه سوى مظاهر ثرائه, بعد أن استمعت إلى صوت العقل, وسخرت
من حكاية الكفاح لبناء عش الحب الذي كان يطالبها به فتاها وهو يتوسل إليها باكيا
ومتذللا لكيلا تتركه, فتفرقت بهما الطرق فإذا به خلال سنوات قليله يحقق نجاحه
العملي في الحياة وتنفتح له أبواب الرزق الحلال, ويصبح جاهزا لان يتزوج أي فتاه
كفتاته الغادرة مهما تكن الأعباء.
أما هي فقد فشلت في
حياتها الزوجية ولقيت من الشقاء وسوء المعاملة من زوجها ما دفعها دفعا لطلب
الانفصال يائسة من أي أمل في الإصلاح, وطلقت منه بعد سنوات قليله, ورجعت إلى
بيت أبيها وفي يدها طفل حائر, واشتبكت مع زوجها السابق في منازعات قضائية لا
نهاية لها, وبغير أن تحصل على شيء من حقوقها المادية.. أو تنعم بالحياة
الناعمة التي هجرت فتاها من اجلها, ثم كتبت إليك تناشدك أن تكتب إلى حبيب العمر
الذي لم يكن قد تزوج بعد عند نشر الرسالة متسائلا هل يمكن أن يغفر لها خيانة الحب
من اجل المال ويعيد اجتماع شملهما مره أخرى, بعد أن تلقت أقسى الدروس وشعرت
بأكبر الندم على تخليها عنه؟.
ولأمر ما لم يكن واضحا في
ذهني وقتها, وجدت نفسي اقتطع الصفحة التي تضم هذه القصة واحتفظ بها في دفتري,
ثم أعيد من حين لآخر قراءه ردك على هذه السيدة وكلماتك لها عن الأشياء التي لا
تعوض والأشياء التي يمكن تعويضها أو الصبر على نقصها في حياه الإنسان, ولا أبالغ
إذا قلت لك إنني قرأت هذه الكلمات عشرات المرات, وكأني كنت اشعر في داخلي بأنها
سيكون لها أثر ما ذات يوم في حياتي, ومنذ ثلاث سنوات التحقت بالدراسات العليا
بالكلية النظرية التي تخرجت فيها, وكنت أحيا حياه سهله مريحة ولا أعاني من أي
مشكلات ماديه أو إنسانيه, فأبي يعمل بالخارج منذ اثني عشره عاما, وأنا اذهب
إلى الكلية بالسيارة الخاصة, ولي صحبة من الصديقات من نفس مستواي المادي
والاجتماعي, نمضي معا اسعد الأوقات, ومع بداية العام الدراسي لاحظت أن معنا
شابا خفيف الظل ومحترما ووقورا ومتفوقا في دراسته وأساتذتنا يعرفونه ويحبونه
لتفوقه ولشخصيته المحترمة بين الزملاء, وعرفت أنه معيد بأحد أقسام الكلية ويدرس
معنا للحصول على الماجستير, ويوما بعد يوم اكتشفنا أن هناك صفات كثيرة مشتركه
تجمع بيننا, وبدأ كل منا يقترب من الآخر وينجذب إليه, لكن تحفظا ما لا ادري
كنهه جعله يحجم عن مصارحتي بمشاعره التي لا تخطئها عيني كلما التقينا في
الجامعة, وذات يوم وجدتني أساله بصراحة هل هو مرتبط بفتاه أخرى ؟ فأجابني بالنفي
فوجدت نفسي أوجه إليه سؤالا أذهله سماعه مني وعقد لسانه فلم يستطع الرد على
الفور, إذ سألته فجاه: لماذا لم يصارحني بحبه حتى الآن؟ فنظر إلي الشاب مذهولا
للحظات ثم تمالك نفسه وأجابني بأنه لم يسمح لنفسه بان يعشمني بشيء لا يستطيع
الوفاء به, فهو كما قال لي في شيء من الانكسار لا يملك من حطام الدنيا سوى مرتبه
الحكومي من الجامعة, إلى جانب عائد بسيط من عمل مسائي يقوم به, وليست لديه شقة
للزواج ولا يملك أي كماليات ولا يقدر على أعباء الزواج, ووالده رجل بسيط لا يملك
ما يساعده به وإخوته وأخواته كلهم كذلك وإن كانوا جميعا جامعيين ولهم مراكزهم
الاجتماعية المرموقة.. فكيف يسمح لنفسه أن يصارحني بمشاعره وهو غير كفء لي من
الناحية المادية.. ولا يستطيع أن يتوج مشاعره هذه بالزواج!
وتفكرت في كلامه كثيرا
ووجدته محقا فيه.. وانقطعت عن الذهاب إلى الجامعة لعدة أيام استغرقت خلالها في
التفكير وتساءلت مرارا كيف سيقبل أهلي حقا بشاب لا يملك أربعة جدران يمكن أن أعيش
فيها.. واتخذت قراري بعد تفكير عميق بأن نظل زميلين يتبادلان الاحترام كما
كنا, وألا تتجاوز صلتي به هذه الحدود.. ورجعت للجامعة بهذه النية, غير أن
قراري سرعان ما ذاب في حرارة لقائه بي ولهفته لرويتي وتساؤلاته عن سبب انقطاعي عن
دراستي.. ووجدته قد أعد لي كل ما فاتني من محاضرات, فلم أتمالك مشاعري.. ووجدتني
أصارحه بحبي له وهو يصارحني بحبه العميق لي.. وجلسنا معا بعض الوقت خارج قاعه
المحاضرات, وأنا اشعر أننا نعيش لحظه حاسمة من أجمل لحظات العمر, ورجعت إلى
البيت وأخرجت الصفحة القديمة من بريد الجمعة.. وأعود لقراءتها وأتوقف أمام كلمات
الندم التي سطرتها كاتبه الرسالة على فقدها لحب العمر, وأعيد قراءه كلماتك عن
الأشياء التي تستحق أن نصبر ونبذل العرق والدموع من اجلها, إلى أن يحين
قطافها, لأنها إذا ضاعت منا فلا شيء يعوضنا عنها.. وحسمت أمري على الصبر
والانتظار وتحمل ضريبة السعادة التي ارجوها لنفسي, وكانت العقبة الرئيسية أمامنا
هي ضرورة الانتظار لمده ثلاث سنوات لحين الانتهاء من الدراسات العليا, ثم نبدأ
خطواتنا معا على طريق المستقبل.
ولن احكي لك عن حجم المعاناة التي عانيناها طوال هذه السنوات الثلاث مع أهلي وأهله ومع دراستنا, فلقد عارض الأهل على الجانبين في الانتظار لمده ثلاث سنوات, ثم وافق الجميع في النهاية حين لمسوا تمسك كل منا بالآخر, واتفقت مع أهلي على أنني سوف ابني بيتي مع من أحب جدارا جدارا وأنني سعيدة بذلك, فسلم لنا الأهل بما أردنا.. ومنحونا بعد المعارضة التأييد, ومضت السنوات الثلاث ونحن نتشارك في أعباء الدراسة ونتبادل التشجيع وتهوين الطريق علينا, إلى أن انتهينا بعد عناء شديد من دراستنا, وحصل كل منا على درجته العلمية وبدأنا سعينا للعمل, وطلبت بعض الدول العربية تخصصاتنا وذهبنا إلى السفارات لنجري المقابلات الشخصية وقلوبنا واجفه تتضرع إلى الله أن يحقق آمالنا فلم يردنا الله خائبين.. وجاءنا سبحانه وتعالى بالبشرى .. فأسرعنا نعقد قراننا ونحتفل باجتماع شملنا في أضيق الحدود, وانهينا استعداداتنا سريعا للسفر.
ولكاتبه هذه الرسالة أقول:
إنها ليست نهاية القصة
كما تتصورين يا سيدتي, وإنما هي بدايتها الحقيقية لأنها بداية سنين مديدة وعديدة
بإذن الله من السعادة والحب الصافي والعطف المتبادل والسعي النبيل المشترك إلى
تحقيق أهداف الحياة, أما ما سبق هذه البداية فقد كان إرهاصاتها التي رشحتكما لهذه
البداية السعيدة, بكل ما تحملتما خلالها من عناء وصبر وثبات علي اختيار كل منكما
للآخر, والحب كالذهب يختبر, بنار الصبر والإصرار والكفاح, فيصفو من
شوائبه, ويتوهج القه..
فإذا كان الأمر كذلك,
ونحن نعرف ما لنداء الغريزة من اثر وقوه, فهو بكل تأكيد ليس أيضا شركة تجاريه
يكون معيار التفاضل الوحيد بينها وبين غيرها من الشركات هو مركزها المالي وقيمه
أصولها وحجم أرصدتها..
وأنت حين اخترت الحب
والصبر والكفاح.. واعتمدت في اختيارك علي المعايير الأخلاقية والإنسانية
والعاطفية بغض النظر عن الموقف المالي لشريك الحياة المنتظر, إنما كنت تتبعين
تعاليم دينك, وتستهدين بهديه في الاختيار والترجيح, ويكفيك شرفا وحكمه انك قد
اخترت شريكك في الحياة بنفس المعيار الذي اختارت به السيدة خديجة رضي الله عنها
سيد البشر أجمعين صلوات الله وسلامه عليه, وهو شرف الأخلاق والسجايا والعاطفة
النبيلة, وليس شرف المال الذي لا ينكر احد قيمته, لكنه لا يصح أن يكون معيار
التفاضل الوحيد بين البشر, ولا أن يعلو علي كل القيم الدينية والأخلاقية
والعاطفية عند الاختيار. ولقد خطب أبو طالب عم النبي السيدة خديجة من ورقه بن
نوفل أو من عمها عمرو في رواية أخرى, فلم يعدد أملاكه أو ضياعه وإنما قال: إن
محمدا لا يوازن به فتى من قريش إلا رجحه شرفا ونبلا وفضلا, فان كان في المال
قل, فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعه!.. والإمام بن حزم يروي لنا في كتابه
الجميل طوق الحمامة, أن احد الولاة قد جلس إلى أصحابه يتسامرون ذات ليله
فسألهم: من اسعد الناس؟ فبادره احدهم قائلا: أنت أيها الوالي!.. فأجابه:
وأين ما أكابده من قياده الجيوش وتنفيذ أوامر الخليفة؟ فقال آخر: إذن هو الخليفة
! فأجابه: وأين ما يقاسيه من الثوار الذين يخرجون علي طاعته؟ فسأله أصحابه:
فمن إذن؟.. فقال: اسعد الناس زوجان في كوخ رزقهما قليل, لكنه لا ينقطع يحب
احدهما الآخر, قد رضيت به زوجته.. ورضي هو بها ولا يعرف الوالي ولا يعرفه
الوالي!
ولا عجب في ذلك يا
سيدتي, لأن السعادة الحقيقية هي الهدف الجوهري الذي يسعي إليه الإنسان ويشتريه
لو استطاع بأفدح الأثمان, ولان المال والإمكانات المادية لم يسعدا وحدهما أحدا
من قبل إذا افتقد في حياته السلام العائلي والحب الصادق والفهم والعطف والحرص
المتبادل بين الطرفين علي تيسير الحياة على كل منهما وإشعاره بالأمان والثقة
بالنفس والغد. ولقد قرأت ذات يوم كلمه حكيمة للأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار
تقول فيها: سعيد من يستطيع أن ينظر إلى حقيقة حياته فيرضي عنها, وينظر في وجه
شريكه في الحياة فيري فيه هذه الحقيقة ويسعد بما رآه.. فكم إنسانا في الحياة
يستطيع أن ينظر إلى حقيقة حياته ويرضي عنها وينظر إلى وجه شريكه في الرحلة فيرى
فيه هذه الحقيقة ويسعد بها؟.. وكم من سهام طاشت ولم تصب أهدافها لا لسوء التسديد
وإنما لسوء اختيار الأهداف الجوهرية التي ينبغي أن يتوجه إليها المرء بسعيه وجهده
وكفاحه من البداية.. لقد أحسنت اختيار الهدف يا سيدتي.. ودفعت ثمن حسن
الاختيار من سنين الصبر والكفاح.. فكان عدلا من السماء أن تؤيد حسن اختيارك
بالنجاح والتوفيق والسعادة.. فهنيئا لك كل ما تستحقين من سعادة وأمان.. وبشري
لمن ينتظر بإذن رب العالمين..
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر