السهام النارية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
لكل إنسان نجاحه وفشله .. ولكل إنسان غالبا عذابه الخاص الذي لا يعلمه إلا الله المطلع على خبايا
القلوب وليس معنى ذلك بالتأكيد أن يهدر الإنسان عمره في البكاء على الأطلال أو
محاولة استعادة من لم يبادلوه ودا ً بود، وإنما معناه ألا يكف الإنسان عن التطلع
دائما إلى الأمام بقلب راغب في الحياة وأن يحفر دائما الآبار في صحراء الحياة في
انتظار أن يتفجر ذات يوم ينبوعه الخاص من السعادة.
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
وبعد أيام وجدت نفسي قريبا من مكان عمله فتوجهت لزيارته فاستقبلني
بحفاوة وأمضيت معه وقتا ممتعا ، ثم كررت الزيارة عدة مرات دعوته بعدها مع أسرته
للغداء في أحد المحلات العامة فقبل الدعوة وجاءت الأسرة وأمضينا وقتا سعيدا شغلت
خلاله بمراقبة الابنة الكبرى التي استهوتني من أول لحظة رأيتها فيها بالحديقة ,
والتي سعيت لتوثيق علاقتي بالأب من أجلها وكنت متأكدا من أنني قد لقيت القبول
عندها من أول لحظة أيضا .. فتبادلنا النظرات الطويلة وتفاهمنا بغير كلام خلال
اللقاءات العائلية التي جمعت بيننا بعد ذلك على أن الطريق مفتوح وعلي أن أتقدم ..
ففاتحت أباها في خطبتها ورحب بي واستمهلني حتى يستشيرها .. ثم عاد إلي بالبشرى بعد
يومين ودعيت إلى البيت فأمضيت فيه مع الأسرة سهرة جميلة تعالت فيها ضحكاتنا ..
وكانت هي أكثرنا سعادة وفرحا وتفاهمنا على أن نعلن الخطبة في مهجرنا بعد أيام ثم
نعقد القران ونتم الزفاف خلال الأجازة في مصر.
وفي حفل بسيط في بيت الأسرة
تجمع الأصدقاء والزملاء يحتفلون بالحب الذي ربط بين قلبين جمعت بينهما الغربة
والحنين الدافق إلى السعادة الشخصية لكي تعادل جفاء الحياة في مجتمع لا يحب
الغرباء ولا يرحب بهم ولا يستغنى عنهم في نفس الوقت .
وتركزت حياتي بعد ذلك في عملي وفي خطيبتي فما أكاد أغادر العمل حتى
أتوجه إلى خطيبتي فأمضي معها ساعات اليوم أو أصطحبها إلى السوق لشراء مستلزمات
البيت الجديد ، أو أعود إلى شقتي فأكون معها على التليفون طوال المساء كأنها معي
في مسكني لا تفرق بيننا مسافات .
وبعد عدة شهور لم أستطع احتمال البعد عنها .. ولا هي أيضا ففاتحت
أباها في أن نتزوج على الفور وكلانا مستعد لأعباء الزواج وهي طالبة في كلية نظرية
ولن يعوقها الزواج عن مواصلة الدراسة ، ووافق الأب ، فتم الزفاف وعندما انصرف
المدعوون قلت لزوجتي : لقد عانيت في حياتي طويلا وعوضني الله عن معاناتي بك فلتكن
حياتنا معا سعادة خالصة .. لأنه لم تعد لي قدرة على تحمل أي معاناة جديدة ، وسأبذل
كل حياتي لإسعادك وإسعاد نفسي فدمعت عيناها وعاهدتني على أن تكون حياتنا معا نهرا
متدفقاً من السعادة وأقبلت على حياتي الزوجية بكل هذه الرغبة العارمة في السعادة
ووفت حبيبتي بعهودها فجعلت من حياتنا أغنية جميلة وأصبحنا مثارا للتندر بين أسرتها
والأصدقاء من شدة حب كل منا للآخر وخوفه وغيرته عليه ، وحملت زوجتي وأنجبت طفلنا
الأول فطرنا به من الفرحة ، وأصررت أنا على أن نؤدي معاً نحن الثلاثة العمرة لنشكر
الله على ما أعطانا ، ثم بعد عامين أنجبنا طفلتنا الجميلة فأشاعت البهجة في حياتنا
وبعد عام واحد أنجبنا طفلنا الثالث وقررنا الاكتفاء لنوفر لأبنائنا الحياة الكريمة
مع أني لو تركت لنفسي لرغبت في دستة من الأطفال يوثقون العلاقة الحميمة بيني وبين
حبيبتي .
وتخرجت في كليتها ورغبت في العمل فلم أعترض رغم متاعب تربية 3 أطفال
صغار ، واستطاع أبوها بعلاقاته الوثيقة أن يجد لها عملا مناسبا واستقرت حياتنا بعد
إرسال الأطفال إلى الحضانة .
ورغم أنها تقاضت مرتبا معقولا فلم أسمح لها بإنفاق أي جزء منه في
البيت وطالبتها بالاحتفاظ به لنفسها ، وكانت كريمة بطبعها فكانت تهديني في
المناسبات العائلية هدايا قيمة أردها بهدايا لا تقل عنها قيمة ، وبعد سنوات من
الزواج عدنا في إجازة إلى مصر وقدمتها لأسرتي فسعدت بها وأحبها كل أفرادها وعدنا
إلى مقر عملنا سعداء .
وبعد فترة أخرى ثقلت علينا مهمة رعاية الأطفال الثلاثة فاقترحت عليها
الاستقالة من عملها بعد أن توافرت لها بعض المدخرات ولم تعد لها حاجة إلى العمل
فوعدت بالتفكير في ذلك لكنها استمرت في العمل . وبعد قليل عدت لمناقشتها في
الاستقالة ففوجئت بها تطلب مني الطلاق ! نعم الطلاق .. هكذا بلا مقدمات وبلا أسباب
لماذا ؟ لأني لا أحبك ولم أحبك يوما واحدا !.
يا إلهي لم تحبني يوما واحدا .. ففيم إذن كانت هذه السنوات الست ..
ولماذا قبلت الزواج مني .. ولماذا أنجبت ؟ ولماذا لم تطلب الطلاق قبل الإنجاب أو
بعد الطفل الأول ولماذا انتظرت حتى جئنا إلى الحياة بثلاثة أطفال أبرياء .. وفيم
كانت ابتسامة السعادة التي تبدو دائما على وجهها ولماذا لم نتشاجر مرة واحدة وهي
لا تحمل لي أية مشاعر .. لم أسمع منها جوابا مقنعا .. ولم أسمع سوى أنها وافقت على
زواجي لأني شاب مقبول ولأنها أحست بحبي لها ورغبتي فيها وأنها أملت في أن تحبني
لكنها اكتشفت بعد فوات الأوان أنني لست طرازها وأنها لن تحبني .
وتخيل حالي يا سيدي وأنا أسمع هذه الكلمات التي انغرست في لحمي وقلبي
كأنها سهام نارية .
لم تحبني يا إلهي وأنا أحببتها من أول نظرة ؟ حاولت وفشلت إذن لماذا
لم تصارحني ولماذا لم تتركني لحالي لأجد من تحبني .. أو من لا يؤثر فيها كلام
الأفلام هذا . .
وأسرعت إلى أبيها فوجدته يعرف كل شيء ووجدت الأسرة كلها تعرف كل شيء
وأن القصة مشاعة ومعروفة وأني الوحيد الذي لا يعرف أن زوجته لا تحبه ولا تطيق
رؤيته وأنهم حاولوا معها كثيرا بلا جدوى وأنها هددت بالهرب والنزول إلى مصر
بأولادها إن لم يساعدوها على التخلص مني ، مني أنا يا سيدي الذي كان يبدأ
يومه بأن يتملى من وجهها وهي نائمة ثم يخرج إلى عمله مبكرا مزودا بهذه النظرة حتى
يعود إلى بيته عند الظهر .
ماذا أفعل يا ربي .. لو كان الأمر يخصني وحدي لما انتظرت ، لكن ما
مصير هؤلاء الأطفال الثلاثة الذين لم يبلغ أكبرهم الخامسة .. فقدت القدرة على
التصرف فعرضت عليها أن تعود إلى بيت أسرتها وتفكر في الأمر بهدوء وتراجع نفسها
فإذا أصرت بعد ذلك أجبت رغبتها ، فعادت إلى بيت أسرتها وعشت وحدي في شقتي محروما
من أبنائي الصغار ثلاثة شهور تطاردني صورهم وألعابهم التي تركوها وراءهم وأسمع
أصواتهم في الليل وأنا نائم فيخيل إلي أنهم عادوا وأنهض فرحا أفتش عنهم في الشقة
فلا أجدهم وكلما اشتد بي العذاب ذهبت إليهم وزرتهم فتتعمد زوجتي عدم الوجود في
البيت عند حضوري وأخيرا جاءني أبوها متألما وقال لي أنه عاجز عن إرغامها على
العودة وأن من الأفضل لنا أن ننفصل بلا متاعب عسى أن تصفو النفوس بعد حين . ووجدت
نفسي أقره على وجهة نظره مستسلما لإرادة الله وأملا في أن أستعيد أبنائي ذات يوم ،
وتم الطلاق يا سيدي وعدت لحياة الوحدة والعذاب والمعاناة ورتبت حياتي على أن أرى
أبنائي كل أسبوع مرة ورضيت بقدري وبدأت جراحي تهدأ فإذا بي ذات صباح أقرأ في
الصحيفة المحلية في باب الاجتماعيات تهنئة من موظفي الإدارة التي تعمل بها زوجتي
السابقة للسيد فلان الفلاني والسيدة فلانة التي هي زوجتي وأم أبنائي بالزواج
السعيد !.
بعد 5 شهور فقط من الطلاق ! وأين أولادي .. وكيف لا يبحث معي أحد
مصيرهم ، وأسرعت إلى بيت أبيها كالمجنون فإذا بي أجد الجفاء والعبوس والصد .. وإذا
بالكلمات تنزل علي كالمطارق .. اذهب إلى المحكمة لا كلام بيننا .. وإذا بي اكتشف
أن العروس الجديدة قد غادرت البلاد قبل نشر التهنئة إلى مصر مع أولادي بعد أن قدمت
استقالتها من العمل خوفا من أن أطالب بهم ، وأنها نجحت في الحصول على وثائق سفر
لأولادي من القنصلية رغم مخالفة ذلك للقانون .
فأسرعت إلى مقابلة غريمي الذي ساعدها في ذلك بكل تأكيد وهو زميلها في
العمل الذي بلغ سن الأربعين ولم يتزوج وعمل 15 عاما في هذه البلاد وجمع ثروة لا
بأس بها فلم أجد عنده ما يفيدني سوى أن علي أن ألجأ للمحكمة , وكان هو الآخر ينهي
أوراقه بعد أن قدم استقالته ويستعد للعودة للحاق بعروسه أم الأطفال الثلاثة
وللاستقرار في مصر وبدء مشروع تجاري فيها !.
ولم أجد ما أفعله سوى اللجوء إلى المحكمة فحكمت لي برؤية الأطفال لكن
أين هم لكي أنفذ حكم الرؤية وأراهم . لقد استقروا في مصر في عنوان لا أعرفه وفشلت
كل محاولاتي مع أسرة مطلقتي لكي أعرفه .. ثم لم تلبث الأسرة أن عادت إلى مصر .
وأدخلت زوجتي أطفالي الثلاثة مدارس لا أعرفها .. وأفهمتهم أن زوجها
الحالي هو أبوهم .. وحاولت محاولة فاشلة لتغيير اسم الأب في شهادات الميلاد
لتنسبهم إليه ولولا يقظة ضمير أحد الموظفين لنجحت في ذلك , ووجدت نفسي كالضائع ..
معي النقود وليس معي أطفالي , محترم أمام الناس ومهان ومجروح أمام نفسي فاستقلت من
عملي وعدت إلى مصر لأبحث عنهم .. وبدأت من الصفر من معارف المعارف الذين يمكن أن
أجد لديهم عنوان أسرة مطلقتي حتى توصلت إليه وكانوا قد انتقلوا إلى شقة جديدة في
مدينة نصر وظنوا أنهم في مأمن بعيد , فوجدني الأب ذات صباح أطرق الباب عليه وأقول
له أنت رجل محترم وأنا كذلك ولست أطلب سوى العدل والقانون فأعطني عنوان أبنائي
ودبر لي أمر رؤيتهم بغير اللجوء إلى الشرطة والمحاكم ولن تجد ابنتك مني ما تخشاه
فلست بالطائش ولا بالراغب في الانتقام فاستجاب لطلبي ثم أرسل زوجته لإحضار الأبناء
الثلاثة وليته ما أحضرهم فقد جفلو مني وبكوا لانتزاعهم من أحضان ماما وبابا !.
وماذا أفعل يا سيدي وزوجتي السابقة تقتل فيهم حب من أنجبهم من صلبه
وتغرس فيهم حب من اختاره قلبها .
بماذا تشير علي ؟.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
لا خيار أمامك يا صديقي سوى أن تمسح ظلال هذه
التجربة الكئيبة عن كاهلك , وأن تستمر فيما بدأته من خطط لمستقبلك فتفتح مكتبك
وتستقبل عملاءك وتشغل ساعات يومك بالعمل وبالعلاقات الإنسانية والنشاطات
الاجتماعية المختلفة وهذا هو السبيل لنسيان التجارب الأليمة في حياتنا ..
وهذا هو الطريق للخروج من كل محنة تختبرنا بها الحياة وتمتحن بها صلابتنا وقدرتنا
على تحمل شدائدها وفي كل ذلك عليك دائما أن تثق في الله الذي لا تضيع عنده الودائع
وفي عدالة السماء التي لا يفلت منها مجرم بجريمته , وأن تستعيد ثقتك في نفسك وفي
جدارتك بأن تكون أملا لمن هي أفضل منها بإذن الله , فليس يعيبك أن من اختارها قلبك
لم تكن أهلا لحبك ووفائك , فلكل إنسان فشله ونجاحه ولكل إنسان غالبا عذابه الخاص
الذي لا يعلمه إلا الله المطلع على خبايا القلوب وليس معنى ذلك بالتأكيد أن يهدر
الإنسان عمره في البكاء على الأطلال أو محاولة استعادة من لم يبادلوه ودا ً بود ,
وإنما معناه ألا يكف الإنسان عن التطلع دائما إلى الأمام بقلب راغب في الحياة وأن
يحفر دائما الآبار في صحراء الحياة في انتظار أن يتفجر ذات يوم ينبوعه الخاص من
السعادة , ولا شك أن زوجتك قد أجرمت حين لم تتوقف لحظة لتفكر في صالح أطفالها
الثلاثة وتراجع نفسها قبل أن تهدم المعبد من أساسه بلا أسباب جادة استجابة لأهواء
عارضة . والحق أني لا أصدق أنها لم تحبك يوما واحدا خلال قصتك معها وإلا كان عذرها
أقبح من ذنبها .. إذ ما أرغمها على الزواج منك وهي لا تميل إليك ولا تتقبلك نفسيا
وعاطفيا زوجا لها , وماذا أرغمها على الاستمرار حتى أنجبت من البنين ثلاثة وكيف
عاشت معك كل هذه السنوات وهي لا تضمر لك سوى الكراهية وقد مضت حياتكما هادئة وبلا
منازعات , والعيون وجوه القلوب , و" البغض تبديه لك العينان " كما يقول
الشاعر , فكيف أخفت كل هذه المشاعر وبدت أمامك دائما الإنسانة السعيدة المبتسمة
إلا إذا كانت في الحقيقة إنسانة متقلبة المشاعر ضعيفة المناعة لا تستقر مشاعرها
على حال لهذا فقد استجابت لنزوة طارئة فلم تتوقف عند أية اعتبارات .. وأسرعت بهدم
العش ، وحاولت برعونتها وقسوتها ومجافاتها لروح العدل أن تطمس شخصية الأب من حياة
أطفالها .
إن مثل هذه الزوجة التي لا يردها قيد سوف تتقاذفها دائما أمواج
أهوائها ومشاعرها وتقضي عليها بالتخبط بين أكثر من مرفأ لأنها سفينة بلا شراع
يعصمها من الخطأ ويهديها إلى الصواب فلا تحزن عليها فهي ليست جديرة بك .. ولا تقلق
بشأن أبنائك ولا تجزع لجفولهم منك الآن فهم أطفال صغار لا يسألون عما يفعلون
وقريبا سوف تنضجهم الأيام على نارها الهادئة فينجذبون تلقائيا إليك كما يعود مؤشر
البوصلة إلى مستقره الطبيعي بعد حين لأنك أبوهم وفي الأب قبس من روح الله لأنه سر
الحياة بالنسبة لأبنائه ولديهم دائما ميل غريزي للتواصل معه والحاجة إليه والبحث
عنه وما أيسر استمالة قلوب الأطفال بالحنان والرعاية والهدايا والحب الأبوي الذي
يسري إليهم كتيار الكهرباء بغير أن يشعروا فلا تقلق مرة أخرى فسيعودون إليك قريبا
وستشفى جراحك سريعا ً ، وسوف تجمع الأيام بينك وبين من تبادلك حبا بحب ووفاء بوفاء
ورعاية برعاية وسوف تكتشف عندها معنى السعادة الحقيقية التي حرمت منها ظلما
وعدوانا في هذه التجربة الكئيبة .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر