الأمل الأخير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
يسخر من
المجروح، من لا يعرف الألم، أو من يضمن أن ينجو منه في قادم الأيام، وليس هناك من
لم يعرف الألم ولا من يضمن نجاته منه في أية مرحلة من العمر!
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
هذه هي رسالتي
الثانية إليك، فقد أرسلت إليك رسالتي الأولى منذ أكثر من شهرين، وطال انتظاري
لرأيكم فيها .. فهل حالي مع بريدكم كحالي مع الأيام؟
لقد قرأت
رسالة «الكتمان» التي كتبها قارئ عن شقيقه الشاب الذي يتهرب من الزواج لأنه قد
اكتشف بطريق المصادفة أنه غير قادر على الإنجاب، وتكتم همه طويلا حتى باح به أخيرا
لشقيقه الوحيد بعد إلحاح شديد منه، وقد قرأت ردكم الجميل عليه وقولك له إن الإفضاء
بهمومنا قد يخفف عنا في كثير من الأحيان بعض آلامنا وأحزاننا، وقد نتوصل من خلاله
إلى بصيص من الأمل في حل مشاكلنا .. إذ كيف يساعدنا الأعزاء على حلها وهم لا يدرون
بوجودها أصلا؟
وأنا أتفق معك
في هذا الرأي، لكن لى إضافة (مؤلمة) له من واقع تجربتي الشخصية، وهي أن الإفضاء قد
يحقق ذلك في كثير من الأحيان حقا، لكنه في أحيان أخرى قد لا نجني منه سوى التهكم
والسخرية ومضاعفة آلامنا وإحساسنا بالعار .. إذا كانت المشكلة التي تعانيها قدرية
ولا ذنب لنا فيها.
فأنا يا سيدي شاب أقترب من الرابعة والثلاثين من
العمر، وقد كان عمري عامين فقط حين هجر أبي البيت وتزوج بامرأة أخرى وتخلى عن جميع
مسئولياته عنا، فعشت أنا وأمي وإخوتي نعاني الفقر والحرمان حتى مضت السنوات
القاسية بخيرها وشرها، وحصلت على الثانوية العامة ، ثم التحقت بمعهد فوق المتوسط
وحصلت على شهادتي، وتزوج أخي الأكبر، ثم تزوجت شقيقاتي زيجات بسيطة كحالنا، ولم
يبق في بيت الأسرة سواي وأمي التي عانت في حياتها الكثير وتحملت الكثير واختزنت
المعاناة، حتى إذا ما التحقت بالخدمة العسكرية، انهارت مقاومتها فجأة وأصيبت
بالاكتئاب النفسي، وأصبحت لا تدري شيئا عما حولها ولا تدري أبسط الأشياء، ثم
اختارت أن تنهي حياتها بيدها في حادث مروع مازال يدمي قلبي حتى الآن، وبعد رحيلها
عن الحياة بفترة قصيرة - رحمها الله وعوضها في جنان السماء عما عانت في الدنيا من
حرمان وآلام - توفي أخي الأكبر في حادث أشد إيلاما، وقد كان عوني وسندي الوحيد في
الحياة .. رحمه الله وأثابه موفور الثواب، وقد وقع الحادثان الأليمان وأنا مازلت
أؤدي خدمتي العسكرية ، فخرجت منها لأجد نفسي وحيدا بعد فراق الأحباب، لا يؤنس وحدتی
سوی حزني عليهما ودعائي لهما، وعملت في مهنة شاقة لا يحتملها جسدي النحيل.. وعشت
بمفردي في البيت بلا أنيس يشاركني حياتي أو يلبي لي احتياجاتي اليومية بعد عودتي
من العمل الشاق، وتناسيت فكرة الزواج تماما نظرا لظروفي المادية، إلى أن حدثتني
إحدى شقيقاتي منذ عام عن فتاة من معارفها، فصارحتها بما تعلمه جيدا عن أحوالي
المادية وعدم قدرتي على تكاليف الزواج، لكنها فاجأتني بأن أهل الفتاة يعرفون كل
شيء عن ظروفي ويقبلون بها، فراجعت نفسي طويلا، وانتهيت إلى قرار بالارتباط بهذه
الفتاة لما أعرفه من أخلاقها الكريمة .
وتم التعارف بيننا، ثم تمت الخطبة أيضا، ووجدت
في فتاتي ما عوضني عن ظروفي وأحزاني، فكانت إنسانة رقيقة وطيبة القلب ومتفهمة
لظروفي، وازداد تعلقي بها وتعلقها بي، ولم تدخر وسعا في إشعاری بسعادتها،
لارتباطها بی، فشعرت بأنني أخرج من دائرة الأحزان وأعود للتفاؤل بالحياة من جديد.
وسري الآن
يمزقني .. فقل لی یا سیدی : كيف أستطيع أن أبوح به؟.. ولمن أبوح؟.. وماذا أجني من
ذلك سوى القليل من المواساة والكثير من التهكم والسخرية من مثل هذه الحالات..
وماذا سأجنی سوی زیادة آلامي وأحزاني!
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
يسخر من
المجروح من لا يعرف الألم يا صديقي، أو من يضمن أن ينجو منه في أية مرحلة من مراحل
العمر، ولأنه ليس هناك بشر لا يعرفون الألم الإنساني أو يتحصنون ضده بما يضمن لهم
حمايتهم منه في قادم الأيام، فإن احتمال أن يسخر (إنسان) من آلامك وأحزانك احتمال
شبه منعدم، اللهم إلا إذا كان من (إخوان الصنوبر) الذين قال عنهم الكاتب والشاعر
الأمریکی هنری ثورو : إنهم يشاركون أشجار الصنوبر والأحجار الصماء عجزها عن
المشاعر الإنسانية .
ومع ذلك فليس
معنى الإفضاء هو أن نعرض آلامنا وجراحنا النازفة على الجميع بلا احترام
لخصوصياتنا، وإنما أن نتخفف فقط من بعض ضغوطها القاسية علينا بالحديث عنها مع من
نثق في صدق تعاطفهم الإنساني معنا وإخلاص مشاركتهم لنا في آلامنا من الأعزاء
المقربين، وبنفس الهدف الذي أشرت إليه من قبل وهو التخفيف عن النفس والتماس السبل
الممكنة لحل مشاكلنا لدى من يقدرون على المساعدة في حلها.
ولقد مارست
أنت وظيفة الإفضاء النفسية والضرورية هذه في رسالتك من حيث لا تدري، ورغم إنكارك
لملائمتها لآلامك الشخصية أعانك الله عليها، وربما يسهم ذلك أيضا في مساعدتك على
التخلص منها بشكل أو بآخر بإذن الله.
فلا تخجل من
أحزانك يا صديقي .. ولا تعتبرها (عارا) تتخفى به عن الدنيا و تتوجس من سخرية
الآخرين منه، فأي عار في أقدار الإنسان التي فرضت عليه ولم يخترها لنفسه، وأي عذاب
وجحيم في أن ينفرد الإنسان بهمومه وأحزانه فيقاسيها وحده فوق قمة جبل العزلة
والوحشة الإنسانية ؟
إن ظروفك
المأساوية كلها قد تضافرت عليك للأسف وأضعفت من قدرتك على الصمود للشدائد، ولا لوم
عليك ولا عتاب في ذلك، فالمعاناة القاسية الطويلة قد تستهلك أحيانا قدرة البشر على
المقاومة .. بل وقدرتهم على الاستعداد للسعادة أيضا، وما جرى لوالدتك مثال أليم
لذلك، فلقد التهمها الشقاء الطويل - رحمها الله - فانهارت مقاومتها في النهاية
وأصيبت بالاكتئاب النفسي، والمؤلم حقا أنها قد استسلمت لظروفها القاسية بعد رحلة
المعاناة البطولية، فأنهت حياتها بيديها قبل خط النهاية بخطوات .. وحين آن للقلب
المتعب أن يتنسم بعض نسائم الراحة.
لكن هكذا تجري
أمور الحياة في بعض الأحيان للأسف، وقد تنطوي صفحة عمر البعض ولما يؤذن بعد للقلب
العليل أن يعرف طعم الراحة... كان الراحة . حقا ۔ ترف لا يعرفه البسطاء، كما جاء
على لسان الكهل البائس مقار دیوفشكين في رواية دستويفسكي العظيم (المساكين).
على أية حال ... ومهما كانت قسوة الظروف، فلا مفر من أن يواجه كل إنسان أقداره بشجاعة وكما يفعل الشرفاء، وحالتك قابلة للشفاء التام بإذن الله، لكنها تتطلب صبرا وتكلفة مادية لا تسمح بها ظروفك، والذي لا يعلمه كثيرون ممن يتخفون بآلامهم المماثلة لآلامك، أن خدمة العلاج الحديث والناجح لهذه الآلام متاحة مجانا لكل من يحتاج إليها بقسم أمراض الذكورة بمستشفى قصر العيني الجامعي، ورئيسه وأساتذته وأطباؤه متعاونون ويتفهمون عمق معاناة مرضاهم، فاتصل بي ولا تتردد ولا تخجل من أحزانك ، . فسوف يتوافر لك العلاج الناجح بإذن الله، وسوف تسترد (أملك الأخير) في الحياة، وتستعيد فتاتك الرقيقة الطيبة التي آثرت أن تبدو في عينيها خائنا وغادرا على أن تشركها معك في معاناتك، ولو كنت قد طالبتها بالصبر عليك بعض الوقت حتى ولو لم تبح لها بأحزانك، لما ترددت في التمسك بك، ولربما أعانك وجودها في حياتك على الشفاء الذي تؤثر فيه بالفعل الحالة النفسية الطيبة والمتفائلة، لكنك شئت غير ذلك، ولست ألومك عليه، فكل إنسان أدرى بما يستطيع احتماله ، ولا يعرف الألم في النهاية إلا من يكابده ... فتفاءل خيرا بإذن الله . والله فعال لما يريد.
شارك في
إعداد النص / محمد عايدين
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر