الكتمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
أكتب لك هذه الرسالة من إحدى المدن الساحلية
لأستشيرك في أمر هام يخص أحد أفراد أسرتي .. فأنا مهندس في الثالثة والثلاثين من
العمر ، والدي يعمل بوظيفة حكومية ، ووالدتي ربة بيت متعلمة ، ونحن أربعة أشقاء ..
ولدان وبنتان ، وأنا اكبر الجميع، و قد أنهينا جميعا - والحمد لله - تعليمنا في
كليات القمة، وأسرتنا متوسطة الحال ويغلب عليها الطابع الديني السمح الذي لا يعرف
التزمت .. أما المشكلة فهي تخص شقيقي الذي يصغرني بعامين ، وهو شاب دمث الخلق،
متدين وخجول وحساس ويتسم بالوسامة ونقاء الروح والمرح ، وقد أنهى دراسته الثانوية بتفوق
والتحق بإحدى الكليات العملية، وحين قارب التخرج فيها بدأت الأسرة تتحدث في أمر
زواجه وترشح له أكثر من فتاة مناسبة من العائلة أو من المعارف ، لكنه أخبرني - وهو
سعيد - بأنه مرتبط عاطفيا بزميله له في الكلية ، طيبة ومتدينة ورقيقة ووجهها هادئ
ومريح ، وتمثل له كل ما يتمناه في شريكة حياته ، كما أنها تبادله الإعجاب
والاهتمام ، وينتظر انتهاءه من امتحان البكالوريوس ليتقدم لأسرتها رسميا، وكان
يحدثني عنها بسعادة وابتهاج ، فسعدت بسعادته وتمنيت له التوفيق في حياته، وجاء
الامتحان ونجح شقيقي فيه ، وتخرج والتحق بوظيفة حكومية، لكنه لم يفاتح أبي و أمي
في موضوع ارتباطه كما توقعت، وسألته عن السبب في ذلك، فأجابني بصوت يغلب عليه
التأثر بأنه قد صرف النظر عن هذا الأمر لأنه تبين له انه وفتاته لا يصلحان احدهما
للآخر وتصورت أن خلافا قد وقع بينها وانتهى بالفراق ، فأسفت لذلك وتمنيت له
التوفيق مع غيرها في المستقبل .
وكنت قد
تخرجت قبل عامين وعملت بإحدى الوظائف، وتزوجت مستعينا بمساعدة أبي ، وبعد سنوات
تخرجت شقيقتاي وتزوجت كل منهما .. أما شقيقي فقد شُغل بعمله وأكمل دراسته العليا
فحصل على الدبلوم ثم الماجستير ، ولاحظت عليه أنه يمضي يومه بين العمل والقراءة
والصلاة وتلاوة القرآن الكريم وأداء الواجبات الاجتماعية ، أو سماع الموسيقى
وممارسة رياضة المشي، وبسبب دماثة خلقه وسلوكه المهذب فلقد حظي بحب الجميع دائما ،
ورحبت أسر كثيرة بمصاهرته ، ولست أقول ذلك تأثرا بصلة الرحم معه ، وإنما لأنها
حقيقة مجردة ويلمسها الجميع ، حتى أنني أحيانا اشعر ببعض الغيرة منه لكثرة الترحيب
والثناء الذي ينهال عليه من الآخرين كلما اجتمعنا معا في بعض المناسبات الاجتماعية
أو العائلية .
ورغم كل ذلك فقد وجدته لا يرحب بحديث الأسرة عن زواجه وبما تعرضه عليه العائلات من
ترحيبها بارتباطها به ، وكلما عرضنا عليه فتاة من فتات هذه الأسر أجاب بحياء أنها
فتاة ممتازة وأسرتها طيبة لكنها للأسف لا تناسبه ، ثم يغير الموضوع ويتجنب الخوض
فيه مرة أخرى ، وقد كنت ومازلت من المعجبين ببريد الجمعة ، وكذلك أخي ، وكثيرا ما
تشاركنا في الحديث عما يعرضه من صور إنسانية صادقة لحياة البشر ، وتألمنا لما
يصيبهم من أحزان ، وسعدنا بلحظات الفرح التي تأتيهم بعد الشدة ، فلفت نظري منذ
شهور شيء هام يتعلق ببريد الجمعة وبشقيقي معا .. فقد حدث أن قرأت في بابك
مشكلة شاب يتمتع بكل الصفات والمزايا الطيبة التي ترشحه للزواج من أفضل الفتيات ،
لكنه اكتشف للأسف وبطريق الصدفة انه غير قادر على لإنجاب .. فلفت نظري بشدة أن
شقيقي قد اهتم بهذه القصة اهتماما غير عادي وأنه أعاد قراءتها عدة مرات ، وكلما
قرأها ازداد تأثره بها ، واغرورقت عيناه بالدمع ، كما لفت نظري أيضا انه يطيل
السجود في الصلاة كأنه يناجي ربه ويدعوه دعاء حارا متصلا .. وهذا هو حال أفراد
أسرتنا عند شعور احدهم بالحزن والهم .
ثم حدث بعد ذلك أن تحدثت قريبة جامعية رقيقة إلى زوجتي بلا مواربة عن إعجابها بأخي وكيف أنها تتمناه لنفسها ، ونقلت زوجتي هذا الحديث إليَ ، فحدثت شقيقي عنها ، فأجابني إجابته المعهودة ، وألححت عليه بالأمر فراح يتعلل بأعذار غير مقنعة ، وازداد إلحاحي عليه بأن يصارحني بما أشعر انه يخفيه عني ، إذ ما قيمة الإخوة إذن إذا كان كل منا سوف يحتفظ بهمومه لنفسه و لا يتخفف منها بإشراك أخيه فيها ؟ ..فبدأ بعد عناء شديد وبعد تعهد مني بكتمان ما يصارحني به ، يحكي لي انه اكتشف بمحض الصدفة وهو يستعد لإنهاء دراسته الجامعية ، أنه غير قادر على الإنجاب، و إن كان قادرا علي الزواج بالطبع ، فصدم بهذه الحقيقة صدمة شديدة زلزلت كيانه ، وأحجم عن التقدم لزميلته التي كان يتمني الارتباط بها ، وكتم سره عن الجميع خاصة أبي و أمي تخوفا من إيلامهما ، ثم استعاد ثباته بعد فترة وسلم أمره لله و تفرغ لعمله وحياته صارفا النظر عن الزواج والارتباط ، ولم تدهشني القصة التي تتكرر كثيرا في الحياة في حد ذاتها ، بقدر ما أدهشتني قدرة شقيقي على الكتمان ، و الانفراد بمشكلته حوالي عشر سنوات طويلة دون أدنى مشاركة له فيها من أقرب الناس إليه ، ومع أني اعلم من خبرة الحياة وقراءة مشاكل المهمومين في بابك إن مشكلته قد تهون إلى جوار مشاكل أخرى كثيرة في الحياة ، إلا أنني اعلم أيضا أننا نتخلص من نصف إحساسنا بالمشكلة بمجرد الحديث عنها مع من نثق فيهم و نرتاح إليهم.
إن شقيقي يردد أمامي دائما أن ما أصابه
إنما هو ابتلاء من الله واختبار لإيمانه ويتحدث عن ذلك باقتناع وابتسامة راضية ، و
يؤمن بأن الله سوف يهديه إلى ما فيه صلاح أمره في الوقت المناسب .. فما رأيك في كل
ذلك يا سيدي .. وهل ترى له حلاً غير هذه الحلول والاختيارات التي قتلناها بحثاً
خلال الفترة الأخيرة .. و كيف ننفذها إذا أردنا ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
ليست المشاكل و الصعاب هي التي تصنع
شقاء الإنسان ، وإنما مدى إحساسه بها ، فالإنسان قد يكون محاطاً بالمشاكل من كل
جانب حتى ليتعذر على من يلاحظه أن يتصور كيف يستطيع تحملها ، لكنه رغم ذلك قد يعيش
حياته آمناَ .. وراضياَ ، لا لأن حياته قد خلت من المشاكل ، وأنه لا يكاد يحس بها
.. أو لأن إحساسه بها ليس عالياً و لا عميقاً ولا يحول دون قدرته علي مواصلة
الحياة و الاستمتاع بها ، وقد يكون الإنسان على الناحية الأخرى مغبوطاً من الآخرين
على حياته و ما أتيح له من أسباب للاستمتاع بها ، لكنه يشعر شعوراً حاداً ببعض
نواقصه أو ببعض مشاكله العادية التي لا تخلو منها حياة ، فيفسد عليه هذا الشعور
المرضي قدرته علي الاستمتاع بالحياة أو حتى علي القبول بها ، وهكذا فإن عمق
الإحساس بالمشكلة هو الذي يصنع شقاء الإنسان بها و ليست المشكلة في حد ذاتها .
و تكتم شقيقك لمشكلته حتى عن أقرب الناس
إليه طوال عشر سنوات ، يعكس حدة إحساسه بها ومعاناته معها ، ولا شك أنه قد أخطأ
كثيرا في حق نفسه بهذا الكتمان الذي يضاعف إحساسه بمأساوية ظروفه ، ويحصره في
دائرة مشكلته بلا أي محاولة للتخفيف من آلامه بالحديث عنها مع أقرب الناس إليه ،
أو بممارسة وظيفة الإفضاء النفسية الضرورية التي تساعد المهموم علي التخلص من بعض
البخار الجاثم علي الصدر كالحجر الثقيل .
و الشاعر العربي يقول :
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة
فيواسيك أو يسليك أو يتوجع
و( رجل الأقدار ) نابليون بونابرت الذي ساد
أوروبا في مطلع القرن التاسع عشر وكتب عنه
المؤرخون أنه كان يلهو بتيجان ممالكها كما يلهو غيره بقطع الشطرنج ، رجل الأقدار
هذا قد أُثِرَ عنه قوله : أنا أضعف من أن أكتم آلامي الشخصية .. أو أحتفظ بها
لنفسي وحدي !
ووظيفة الإفضاء ليست
مجرد تنفيس عن البخار المكتوم بهدف التخفف من وطأة الألم ، لكنها تؤدي وظيفة أخرى
لا تقل أهمية عن ذلك ، هي الإسهاب في إكساب المهموم النظرة الموضوعية الضرورية
لمشكلته ، فاستسلام الإنسان لميله الغريزي للرثاء للنفس قد يضخم من حجم مشاكله
ويوهمه أنها مشاكل أسطورية لا قِبَلَ لأحد بها ، في حين يتيح له الإفضاء بها و
الحديث عنها مع الآخرين أن يعرف آراء من ينظرون إليها من خارج الدائرة ، وتكون
أحكامهم عليها غالبا أكثر واقعية ممن يعانيها و يتكبدها .
ثم كيف يتلمس
الإنسان في النهاية حلاً لمشاكله إذا كان لا يبوح بها إلا لمن يهتمون بأمره و
يستطيعون مساعدته في مواجهتها ؟ .. و في حالة شقيقك فلا شك أنك و شقيقتيك كان من
المحتمل أن ترشدوه إلى بغيته خلال السنوات العشر الماضية ، لو كنتم قد عرفتم عمق
مشكلته ونوعيتها ، لكنه كلف نفسه عنتاً شديداً بانفراده بهمه وحده وتكتمه له .
إن هناك نوعاً من مشاكل
الحياة لا مفر للإنسان من أن يتعلم كيف ( يعيش بها ) ، وهذا التعبير الأخير قد بدأ
يتردد بكثرة في السنوات الأخيرة في مصطلحات طب النفس العلاجي في الغرب ، ومفاده
أنه من مشاكل الإنسان ما لا يجدي معه أي حل سوي أن يدرب الإنسان نفسه علي احتمال
الحياة بل والاستمتاع بها أيضاً ، مع وجود هذه المشاكل في حياته وتسليمه بها ، وهذا أيضاً ما
ينبغي لشقيقك أن يوطن نفسه عليه و يتكيف معه ، والبدائل التي قلتماها بحثاً لحل
مشكلته هي البدائل المتاحة فعلا لمواجهتها ، وهي بترتيب الأفضلية تأتي كما أوردتها
في رسالتك تماماً ، و الحياة من حولنا مليئة بمن تناسبهن ظروف شقيقك ، وسوف يجدن
فيه البلسم الشافي لجرحهن ، لكن المشكلة حقاً هي أن يعرف كل طرف بغيته لكي يسعي
إليها ، خاصة مع حالة التكتم التي تحيط بها البعض ظروفهم الشخصية المماثلة كأنها (عار) لا ينبغي أن يطلع عليه أحد ، أو كأنها ظروف إرادية اختاروها لأنفسهم بملء
إرادتهن ثم خجلوا بعد ذلك من أن يطلع الآخرون علي ( سوء اختيارهم ) .
وبهذه المناسبة فلقد تناقشت مع أكثر من طبيب مختص
حول حالات مماثلة لحالة شقيقك أتيح لي الاقتراب منها في الفترة الأخيرة ، ولفتت
نظري بكثرتها النسبية ، ففهمت منهم أن بعض حالات عجز الشباب عن الإنجاب إنما ترجع
إلى عيب خلقي بسيط يولدون به ، وأنه لو لوحظ هذا العيب في طفولتهم و قبل إدراكهم
سن البلوغ ، فإنه يعالج بسهولة بإجراء جراحة سهلة و مأمونة تحقق لهم القدرة على
الإنجاب ، أما إذا تأخر اكتشافه إلى ما بعد سن البلوغ ؛ فإن الجراحة لا تجدي في
علاجه ، و من هنا تأتي أهمية اهتمام الأبوين بملاحظة كل كبيرة وصغيرة في وليدهما و
المبادرة بعرضه علي الطبيب المختص عند الاسترابة .. في أي شيء .
فلعل شقيقك قد علم بهذه الحقيقة بشكل أو
بآخر خلال بحثه عن علاج لمشكلته لدى الأطباء ، ولعل ما علمه من هذا الأمر قد أرهف
إحساسه تجاه أبويه ودفعه لان يتكتم همه عنهما تحسساً من إيلامهما أو إشعارهما بأي
تقصير غير متعمد تجاهه ، و لاشك أنه إحساس نبيل يشهد له بسمو الخلق ونقاء السريرة
، و يؤهله بحق لكل ما وصفته به من صفات رفيعة ، ويرشحه لكل خير في الحياة ..
وللسعادة مع من سوف تختارها له العناية الإلهية في أقرب وقت بإذن الله .
رابط رسالة الأمل الأخير تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1995
شارك في
إعداد النص / سالي ياسر
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر