صفير الصياد .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

 صفير الصياد .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

صفير الصياد .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

من أهم أسباب السلام النفسي أن يتصالح الإنسان مع نفسه وظروفه وأن يتقبل أقداره ويرضى بكل ما تحمله إليه أمواج الحياة، ويحاول دائماً أن يفتش في حياته عن أسباب للرضا عنها .. ولاشك أنه مما يعين المرء على ذلك أن يتفهم جيداً حقائق الحياة ويسلم بأنها ليست نزهة قمرية في بحر هادئ الأمواج، وإنما هي دائماً أفراح و أتراح .. ونجاحات وإخفاقات وانتصارات وانكسارات، وأنه كما يحق لنا أن نسعد بأوقات السعادة والانتصار .. فإنه من واجبنا كذلك أن نتقبل هزائمنا وإخفاقاتنا بروح عالية لا تنال منها الأحزان والانكسارات ولا تطبعها بطابع المرارة والسوداوية والأحقاد .

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة

 

   بالرغم من إدماني قراءة بابك هذا منذ أكثر من اثني عشر عاما ، فإنني لم أفكر في الكتابة إليك في مشكلة تخصني لأنني ببساطة شديدة ممن ينظرون دائما إلي نصف الكوب المملوء ، ولا يركزون أنظارهم علي نصفه الخالي ، فتثور لديهم أسباب السخط وعدم الرضا .. كما أنني أيضا من الذين يحمدون الله دائما على أي حال مادام قد رضيه لي أو أراد أن يختبرني به ، فحين كنت أعاني من قسوة زوجي وأهانته الشديدة لي كنت انظر إلى أبنائي وأنا في غمرة الضيق فأجدني في نعمة كبيرة حرم منها غيري ، وحين كان أهل زوجي يتمادون في استفزازي وإهانتي خلال إجازاتنا القصيرة من الإقامة في الخارج كنت احمد الله علي صداقاتي المخلصة التي امتدت من أيام الدراسة واستمرت قوية ودافئة حتى الآن فاشعر بأن الدنيا بخير ، وحين قرر زوجي أن ينهي دوري من حياته مع انتهاء عمله بالخارج وعودتنا إلي بلادنا وأنا مازلت في التاسعة والعشرين من عمري عدت انظر إلى أولادي واتحدي بهم واقعي المؤلم ، وخلال رحلة العذاب بين أروقة المحاكم بحثا عن حقوق أبنائي وحقوقي لدى شخص لم يتق الله فينا ولم يحفظ للعشرة حقها ، كان بصري يتعلق بالسماء دائما أملا ورجاء في رحمة الله .


ومع كل جولة كان يفوز بها مطلقي في المحاكم بسبب أساليبه الملتوية لإثبات عوزه وإعساره حتى يتنصل من مسئولياته المادية ، كنت اسجد لله شكرا لأنه انعم علي بنعمة الرضا والقناعة واليقين بنصره لي في النهاية مهما طال المدى .

    وكلما غصصت بالمرارة .. لما عانيته في تجربتي مع زوجي السابق وأهله ، واستسلمت للذكريات المؤلمة والحزن .. أفقت من هذه الذكريات والأفكار المحزنة علي ابتسامة الطفلين اللذين وهبهما الله لي .. وهما يتحركان حولي في مرح وسعادة ، فأرضى بنصيبي من الدنيا وأحمد الله على كل حال .

 

   ولقد كرست حياتي بعد الانفصال للطفلين وشغلت نفسي بزيادة قدراتي واتجهت لتعلم الكمبيوتر ودراسة اللغات وانشغلت بذلك وبشئون الأطفال ومطالبهم الصغيرة وحكاياتهم اللذيذة وشواغلهم الممتعة .. فوجدت الذكريات المؤلمة تنحسر في ذاكرتي تدريجيا ، إلى أن تصادف أن التقيت منذ فترة بزوج شقيقة زوجي التي أسهمت – غفر الله لها – بالنصيب الأكبر من هدم بيتي وتشتيت أبنائي ، فتظاهرت في البداية بعدم رؤيتي له وتجاهلته إلا أنه لاحقني حتى لم يعد هناك مفر من رد تحيته ، فتقدم مني وسألني عن أحوالي وأحوال الطفلين ، وابدى أسفه على ما كان من زوجته وأسرتها معي .. فغضضت بصري وقلت له إن هذا قدري وإنني احمد الله علي كل حال ، واستأذنته في الانصراف ومضيت إلى حال سبيلي ، وفكرت في هذه المصادفة بعد ذلك وتعجبت لها وتفكرت فيما أبداه من أسف لتصرفات زوجته وأهلها ضدي .. وحمدت الله أن اظهر ظلمي حتى لأقرب الناس إليهم .. وظننت أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد إلا أنني فوجئت به ينتظرني بعد ذلك بأيام في موعد محاضراتي التي أتلقاها بمركز تعليم اللغات .. ويتقدم مني لتحيتي والسؤال عن أخبار طفلي ولم استرح لظهوره في المركز وشعرت بالحرج من نظرات زملائي بالدراسة الذين أضع الحدود والسدود بيني وبينهم ، وطلبت من زوج شقيقة زوجي السابق إلا يكرر حضوره لمقابلتي مرة ثانية .. ففوجئت به يصارحني بأنه يحبني ولا يستطيع الحياة بدوني ووجدته يقول لي أن زوجته كانت قد استشعرت هذه العاطفة القوية تجاهي حين كنت زوجة لأخيها فدفعها ذلك إلي افتعال المشاكل والأزمات معي لكي تباعد بيني وبينه ، وروي لي أيضا كيف أنها صارحته بهواجسها بشأن عواطفه نحوي ورجته أن يشعر بحبها له ونسياني ، وقال لي أيضا انه يحب ابني وسوف يعوضهما و يعوضني عما لقينا من جفاء الأيام ، وأنني زهرة يجب أن تروى بالماء وإلا جفت وذبلت وماتت خاصة أنني في الحادية والثلاثين من عمري.

 

 ووجدتني بغير أن اشعر انفجر فيه وأقول له أنني لست ممن يهدمون البيوت على أصحابها ، وتركته ورجعت إلى بيتي ووجدتني استعيد ما قاله لي فألوم على زوجته حين جنت علي تارة .. والتمس لها بعض العذر فيما فعلت كزوجة تخشى على زوجها وحياتها تارة أخرى .. ووجدتني أتساءل : لماذا لم تصارحني بهواجسها ولو كانت قد فعلت لكنت أعنتها على استعادة زوجها واحتفظت في نفس الوقت بزوجي ووالد أبنائي ؟


    

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

    من أهم أسباب السلام النفسي أن يتصالح الإنسان مع نفسه وظروفه وأن يتقبل أقداره ويرضي بكل ما تحمله إليه أمواج الحياة ، ويحاول دائما أن يفتش في حياته عن أسباب للرضا عنها ..والعزاء ولا شك أنه مما يعين المرء علي ذلك أن يتفهم جيدا حقائق الحياة ويسلم بأنها ليست نزهة قمرية في بحر هادئ الأمواج ، و إنما دائما أفراح وأتراح ..ونجاحات وإخفاقات وانتصارات وانكسارات ، وأنه كما يحق لنا أن نسعد بأوقات السعادة والانتصار ، فان من واجبنا كذلك أن نتقبل هزائمنا بروح عالية لا تنال منها الأحزان والانكسارات ولا تطبعها بطابع المرارة والسوداوية والأحقاد.

    ولقد أحسنت يا سيدتي التعامل مع انكساراتك وذكرياتك الحزينة .. بتركيز انتباهك دائما علي ما في حياتك من جوانب مضيئة "تعادل" الأحزان والآلام وتعزيك عنها وتجدد لديك الرغبة في الاستمرار .. كابتسامة طفليك .. وشواغلهما الجميلة .. "والوعي" بالنعمة الجليلة التي يمثلانها في حياتك .. والاستمتاع بالصداقة المخلصة المبرأة من الغرض ، والقدرة علي تجديد الحياة وشحذ الإرادة .. وتعلم خبرات جديدة ، وخلو النفس من المرارة والرغبة في الانتقام من أساءوا إليك ، وكل ذلك مما يرشحك للتعامل السليم مع الأشياء ويعينك علي الأمل في المستقبل الأفضل الذي تأسو فيه الأيام الجراح وتحيلها إلي سعادة وابتهاج بالحياة ، ولا عجب في ذلك يا سيدتي لان القدر الأكبر من سعادة الإنسان إنما ينبع كما يقول لنا الكاتب الأمريكي الكبير جون ريد من حياته الداخلية وأفكاره الشخصية وطريقة تجاوبه مع مؤثرات الحياة السلبية والايجابية علي السواء ، فقد يكون كل ما في حياة الإنسان يدعو للابتهاج بها ، فلا يشعر مع ذلك بالسعادة لان تفاعله مع حياته وتجاوبه مع دواعي البهجة فيها ليسا سليمين .

 

   وقد يكون في حياة المرء من أسباب الشقاء ما يمكن أن يحيلها إلي جحيم ، ويستطيع بالروح العالية والتعامل الحكيم مع الحياة والرضا بقضاء الله وقدره ، والاستعداد النفسي السلام لاستشراف أسباب الابتهاج من بين ركام الأحزان ، أن يتعزي عن أسباب الشقاء .. بأسباب السعادة ويعلي من إحساسه بما انعم الله به عليه من نعم جليلة في جوانب حياته الأخرى .

    ولقد عبرت أنت عن ذلك بوصفك لنفسك بأنك ممن لا يغفلون عن النظر إلي النصف المملوء من الكوب ولا يركزون اهتمامهم وحسرتهم علي النصف الفارغ منه .. ولقد ذكرني مثال النصف المملوء بتلك الحكمة الاسبانية التي روت لنا عن رجل لم يكف عن الشكوى لأنه لا يملك حذاء إلي أن رأي رجلا بلا قدمين فرضي عن حفائه لأول مرة .. كما ذكرني أيضا بما قاله إمام المتقين معزيا رجلا حزينا في أمر شق عليه احتماله : من رضي بقضاء الله جري عليه القضاء وكان له اجر ، ومن لم يرض به جري عليه القضاء وحبط عمله .

    ولا شك أن خلو نفسك من المرارة وتعففك عن الرغبة في الانتقام ممن آذوك قد ساعدك علي اتخاذ القرار السليم برفض محاولات زوج شقيقة زوجك السابق للاقتراب منك ..فالتزمت بذلك بما تؤمنين به من مبادئ ومثاليات ترفض الغدر بالآخرين وتترفع عن هدم البيوت الآمنة علي أصحابها ، وحميت من جانب أخر نفسك من التعرض لتجربة أغلب الظن أنها كانت ستضاعف من أحزانك وآلامك ، حين تتكشف لك بعد حين عن خدعة حقيرة لاستغلال ظروفك كمطلقة حزينة .. واللعب علي أوتارك الحساسة بمعزوفة الحب القديم الذي لا يطيق صاحبه الحياة بدونك مع أن الحب لا يخفي وان جاهد صاحبه نفسه لإخفائه .. ولو كانت قصة هذا الحب حقيقية وصادقة إلي هذا الحد الذي استشعرت معه هذه زوجة هذا الرجل خطره عليها ، وتحفزت للمباعدة بنك وبين شقيقها ، لما غاب عنك ذلك في حينه .. ولاستشعرت شيئا من مظاهره وأنت زوجة لشقيق زوجته ، بل ولما كان لقاؤه بك لأول مرة مصادفة بعد أكثر من عامين من انفصالك عن زوجك .. وغاية الأمر في ظني هو انه حين التقي بك مصادفة لأول مرة بعد عامين من الانفصال قد راودته نفسه علي إغرائك بالارتباط به في علاقة لم تكن لتنتهي غالبا بالزواج ، وإنما بقصة غدر جديدة وضياع فترة أخري ثمينة من العمر ، وكل ذلك استغلالا لوحدتك وظروفك وما تصوره فيك من رغبة في الانتقام من زوجته ، ولهذا فاني أكاد اجزم لك بان قصة حبه القديم لك هذه ليست سوي حيله لاجتذابك إليه حتى لو كانت زوجته قد استشعرت بعض الغيرة المألوفة منك خلال زواجك من شقيقها .. ويرجح هذا التقدير عندي أنني قد تسمعت في حديثه المسموم لك "صفير" الصياد حين يقلد صوت الطيور لكي يغري الطائر الطليق بالاقتراب من مرمي نيرانه استغلالا لميله الغريزي للالتحاق بأقرانه .

     وكان  "الصفير" الذي حاول إغراءك به هو انه يستثير لديك رغبتك في الانتقام من شقيقة زوجك السابق لدورها مع أهلها لهدم أسرتك ، لكي يوقع بك في شباكه .

    فحسنا فعلت حين اهتديت بفطرتك السليمة ورفضت الغدر بشقيقة زوجك السابق وعمة طفليك .. وأبيت إلي هدم الأسرة الآمنة .. وإهداء الكأس المرير التي تجرعت إلي الغير .

 

      فأما مكر شقيقة زوجك و أسرته بك .. فلقد كان الإمام جعفر الصادق يقول "عجبت لمن ابتلي بالمكر كيف يغفل عن (وأفوض أمري إلي الله أن الله بصير بالعباد)*غافر* وهو القائل جل شأنه (فوقاه الله سيئات ما مكروا) *غافر* صدق الله العظيم.

    إنها يا سيدتي سلاح من يؤمنون بالله واليوم الآخر والسابقين بالخيرات والملتزمين بالفضائل في مواجهة شرور الآخرين وأذاهم ومكرهم .. وهؤلاء هم من يدافع عنهم ربهم ويعوضهم عما يلاقونه في الحياة من عنت حتى يكونوا ممن أشارت إليهم الآية الكريمة (وقالوا الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) *فاطر*

     وشكرا علي رسالتك النابضة بالحكمة والفهم النبيل للحياة .. والرضا بما تجري به المقادير .

 

 

رابط رسالة بداية الطريق 

نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 2000

                                              شارك في الإعداد / سالي ياسر

راجعها واعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات