النظرات المختلسة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

 النظرات المختلسة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

النظرات المختلسة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002


كل ما يتمناه المرء قد يحققه في حياته‏,‏ ولكن غالبا بعد فوات الأوان‏!‏
هكذا قال الأديب الأيرلندي الكبير أوسكار وايلد ذات يوم‏ .. وهكذا تؤكد لنا تجربة الحياة في كثير من الأحيان‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة


قرأت رسالة صوت الرعد للفتاة التي تشكو من تضييق أبيها على أسرتها ورفضه المساهمة في نفقات جهازها ولجوئه الدائم إلى حسم كل جدال حول نفقات الأسرة الضرورية بالصوت العالي الذي يشبه صوت الرعد ويصل إلى الجيران ويحرج الزوجة والأبناء‏,‏ فأثارت هذه الرسالة خواطري واستدعت ذكرياتي التي مازالت حية في وجداني حتى الآن‏.‏

فلقد نشأت في أسرة لأب ميسور ماديا إلى حد كبير وأم طيبة وأخوة وأخوات‏..‏ وكنت الأثيرة عند أبي لاجتهادي الدراسي ونظرتي الجادة للأمور‏,‏ كما كانت حياتنا ميسورة من الناحية المادية‏,‏ وبعد ظهور نتيجة الثانوية العامة ونجاحي بتفوق فيها ذهبت إلى منزل جدي لقضاء بعض أيام عطلة الصيف فيه‏..‏ فوجدت عنده شابا من أقاربنا لم أكن قد رأيته منذ سن الطفولة‏,‏ وهو شاب متفوق دراسيا وخجول وبعد فترة لاحظت أن هذا الشاب يختلس النظر إلي ولا يتكلم إلا في أضيق الحدود‏,‏ وعرفت منه أنه كان يتابعني باهتمام‏..‏ ويعرف أخباري منذ فترة المدرسة الإعدادية وشعرت بقلبي يخفق لأول مرة في حياتي كلما نظر إلي هذا الشاب أو تحدث معي‏,‏ ودار بيننا حوار صامت بالنظرات فقط مفاده أن كلا منا يتمنى الآخر شريكا له في الحياة‏,‏ وانتهت أقامتي عند جدي ورجعت إلى بيت أسرتي‏..‏ وانقطع الاتصال بيننا إلى أن تلقيت منه رسالة مهذبة يحثني فيها على الاجتهاد في الدراسة الجامعية والالتزام بالصلاة‏,‏ وأكدت لي الرسالة أن كلا منا يكن للآخر عاطفة قوية وليست عابرة وتكررت لقاءاتنا العابرة بالمصادفة في بيت جدي‏..‏ وشعرت بأن الوقت قد حان لكي نضفي على مشاعرنا الطاهرة صيغة شرعية تعفيني من الإحساس بخيانة ثقة الأهل بي وفاتحته في ذلك فوعدني خيرا وبعد أيام جاء مع أهله لزيارة أبي وطلب يدي منه وتمت قراءة الفاتحة وتأجيل بقية الخطوات لحين انتهاء فتاي من دراسته‏..‏ وخلال فترة الخطبة جمعت بيننا ذكريات جميلة وبريئة حفرت في قلب كل منا علامات لا يمحوها الزمن‏.‏ وكل ذلك دون أن تجري كلمة الحب الصريحة على لسان أحد منا‏.‏

 

 ثم جاءت مرحلة الإعداد للزواج وبدأ الحديث عن الأمور المادية‏,‏ ففوجئت بأبي يقول لي ولخطيبي وأسرته وبصوت عال إنه وإن كان يملك بعض العقارات والأراضي إلا أنه لا يملك مال قارون‏..‏ وأن ما يملكه من مال سائل إنما يكفي فقط لتعليم الأبناء ومواجهة نفقات الحياة‏..‏ فإن تبقى منه شيء فإنه يحتاج لأن يحتفظ به لنفسه لكي يعتمد عليه في شيخوخته‏,‏ ومادت بي الأرض ولم أجد ما أقوله‏..‏ ولاحظت بعد فترة أن فتاي وأسرته قد انقطعوا عنا لبعض الوقت‏..‏ وفهمت من ذلك أنهم لم يستريحوا لما قاله أبي ويتناقض مع ما يعرفونه عنه من ثراء‏.‏

 وتحملت هذه الفترة على مضض انتظارا لبدء الدراسة الجامعية عسى أن تكون هناك فرصة للاتصال بيننا‏,‏ فبدأت الدراسة ومضت الأيام بغير أن يبعث إلي بأي رسالة‏..‏ وانتظرت أن تجيء الخطوة الأولى منه فلم تجيء ومضى الفصل الدراسي الأول كله ورجعت إلى مدينتي في عطلة الصيف ومازال الأمل يحدوني في أن أسمع خبرا مطمئنا من خطيبي‏,‏ فإذا بأمي تلقي علي بنبأ كالقنبلة وهو أن فتاي على وشك أن يعلن خطبته لفتاة أخرى خلال أيام‏..‏ وشعرت بالدماء تنسحب من عروقي وعافت نفسي الطعام والشراب‏..‏ فإذا طعمت شيئا لم يستقر في معدتي لأكثر من دقائق‏,‏ وصاحبتني حالة التقيؤ المستمر حتى هزل جسمي وانخفض وزني‏15‏ كيلو جراما خلال بضعة أسابيع‏..‏ ومع تأكيد الأطباء لأهلي أنه ليس هناك سبب عضوي لحالة التقيؤ المستمر هذه وجدت لزاما علي أن أحاول التماسك حفاظا على كرامتي أمام أهلي قبل كل شيء‏..‏ وتماسكت بالفعل وركزت كل اهتمامي على إنهاء دراستي الجامعية‏.‏

وتحسنت حالتي الصحية بعض الشيء‏,‏ لكنني كنت ما أن أعلم أن شابا قد تقدم لأسرتي حتى تعاودني حالة القيء المستمر وأزهد الطعام والشراب من جديد‏,‏ ولا تزول الحالة إلا بعد علمي برفض أهلي له‏.‏ واستسلمت لأقداري في النهاية وتمنيت لفتاي أن يسعد بحياته‏,‏ ومضت خمس سنوات وأنا أرفض كل من يتقدمون لي‏..‏ إلى أن جلس معي أبي ذات يوم وسألني عن نهاية هذا الرفض المستمر للخطاب والأيام تمضي والعمر يسرقني‏..‏ ثم نصحني بأن أقبل خطبة أول من يتقدم لي وأجرب استعدادي للتجاوب معه‏,‏ فإذا عجزت فلسوف ينهي الخطبة على الفور‏..‏ واقتنعت بنصيحته وتمت خطبتي لشاب شعرت تجاهه بالقبول‏..‏ وأدهشني أنه قد جاء إلى أبي رافعا الراية البيضاء من قبل الحديث في الأمور المادية‏,‏ وعارضا أن يتكفل وحده بكل تكاليف الزواج من أثاث وسكن ونفقات للزفاف إلخ‏.‏ وكل ذلك بالرغم من أنه ليس ثريا ولا وارثا ورحب به أبي بالطبع‏,‏ ومضت خطوات الزواج في طريقها وحين اقتربنا من الزفاف بدأت في أسرتي مشاكل الجهاز‏,‏ فلقد تكفل العريس بالأثاث والنفقات‏,‏ لكن العروس تحتاج إلى جوار ذلك إلى ملبس ومفروشات وأدوات طهي إلخ‏,‏ فمن يتكفل بها سوى أبي مالك الأرض والعقارات والمعدود في نظر الجميع من الأثرياء؟ ومن هنا بدأ صوت الرعد يدوي كل مساء في بيتنا كلما طلبت أمي لي شيئا من المستلزمات الضرورية للزواج أو كلما أشرت مع أبي إلى حاجتي لشراء شيء وكم من ليلة نمت فيها ودموعي تبلل وسادتي حزنا لموقف أبي‏..‏ ولم نشتر شيئا واحدا إلا بعد موال طويل وصياح وعويل وبكاء ونحيب‏,‏ يفقدني بهجة كل شيء في حين كان خطيبي رجلا كريما برغم قلة موارده ولم يبخل بشيء على تأثيث عش الزوجية حتى اكتمل وفقا لما اتفق عليه‏.‏

 

وبعناء شديد انتهت رحلة العذاب هذه وتم توفير الحد الأدنى من مستلزمات الزواج وزففت إلى زوجي وأنا كسيرة النفس وحزينة من أبي الذي أحببته دوما ولم تنجح حتى أفعاله هذه في أن تغير من مشاعري تجاهه كابنة خاصة وقد كنا قبل بلوغي سن الزواج لا نشعر بأنه يبخل علينا بشيء‏..‏ وبدأت حياتي الزوجية وتعرفت على طباع زوجي فوجدته رجلا رائعا كريم الخلق عزيز النفس شهما يهيم بي حبا وكأن الدنيا قد خلت من النساء فيما عداي‏,‏ ويقول لي على الدوام إنني أول وآخر حب في حياته‏,‏ وأنعم الله علي بالأبناء وشكرته دائما على حياتي مع زوجي وأبنائي‏,‏ ولكن آه يا سيدي من ذلك القلب العصي الذي لا يقبل بالواقع‏..‏ فلقد ظل برغم مرور السنين ركنا مغلقا على حبه الأول وذكرياته القديمة‏,‏ وحرصت على زيارة الأماكن التي شهدت بعض هذه الذكريات‏..‏ وخفق قلبي حين رأيتها‏..‏ واسترجعت ذكريات الماضي‏..‏ لكن هذا حديث آخر سأؤجله إلى آخر الرسالة‏..‏ ولأقول لك إن أختي التي تليني في السن قد تزوجت بعدي بأول من طرق بابها وحدث معها في فترة الخطبة نفس ما حدث معي من عذاب شديد في إعداد الجهاز والموال الطويل عند شراء كل شيء‏..‏ ودوي صوت الرعد كل مساء‏,‏ ولكن مع فارق مهم هو أنها كانت مهيأة نفسيا لهذه المعركة لسابق تجربتي معها‏..‏ فاستعدت لها جيدا ومن بعدها تزوجت أختي الأخرى‏,‏ وبنفس الطريقة ومع نفس الأصوات الرعدية والجدال‏..‏ والصراع‏..‏ وبأقل الإمكانات على خلاف ما فعل آباء صديقاتها معهن‏,‏ وركزت كل واحدة منا اهتمامها بزوجها وأسرتها الصغيرة‏..‏ وجاءنا جميعا التعويض الإلهي عن تقصير والدنا معنا من جانب أزواجنا‏..‏ وتحسنت أحوالهم المادية واحدا بعد الآخر‏..‏ كما تحسنت أيضا نحن الشقيقات أحوالنا المادية كذلك حتى استقرت حياتنا ورزقنا الله من فضله وأصبح لكل واحدة منا رصيد خاص بها في البنك‏..‏ وعوضنا نحن ما قصر أبي في توفيره لنا من مستلزمات الزواج فاشترينا الملابس والمفروشات‏,‏ ونعمنا بالوفاق مع أزواجنا ورعاية أبنائنا‏.

 



وما أن تجمعني به المصادفة في أحد بيوت الأهل ونتبادل التحية وكلمات المجاملة التقليدية إلا وأشعر بكياني كله وهو يذوب في هذه اللحظة وأكاد أسمع دقات قلبي المتلاحقة وكأني مازلت ابنة العشرين‏..‏ فأتذكر أبي وأطلب له الرحمة والسماح‏,‏
إنني أود أن أوجه كلمة لكل أب يملك ما يكرم به أبناءه أن يجعل هذا المال وسيلة لتحقيق سعادة الأبناء في حياته‏,‏ ليرى بعينيه سعادتهم وقد تحققت في وجوده وبه وليس بعد رحيله عن الحياة ولا بعد فوات الأوان
فالمال قد تكون له فائدة عظمى في وقت معين من أوقات الحياة‏,‏ وقد يصبح بلا قيمة ولا جدوى في أوقات أخرى كما هو الحال معنا الآن‏,‏ وأقول في ختام رسالتي لوالد الفتاة كاتبة رسالة صوت الرعد حقق سعادة ابنتك في حياتك فهي أحوج ما تكون الآن لمالك ولن يفيدها شيء حين تحصل عليه بعد سنوات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

كل ما يتمناه المرء قد يحققه في حياته‏,‏ ولكن غالبا بعد فوات الأوان‏!‏
هكذا قال الأديب الأيرلندي الكبير أوسكار وايلد ذات يوم‏,‏ وهكذا تؤكد لنا تجربة الحياة في كثير من الأحيان‏.‏
وتحقيق الآمال بعد فوات الأوان من مفارقات الحياة التي كثيرا ما تثير تأملاتنا وشجوننا وتفقدنا القدرة على الاستمتاع بما حققناه من أهداف الحياة‏..‏ فالآمال المتأخرة عن موعدها المناسب تفقد الكثير والكثير من قيمتها وأهميتها لمن تطلع إليها طويلا في لهفة وحرمان‏.‏

وحديثك عن الطعام الذي يقدم للجائع بعد أن بشم من الشبع يذكرنا بنظرية المنفعة الحدية في علوم الاقتصاد والتي تقول لنا أن منفعة الأشياء بالنسبة لنا تتحدد بقدر حاجتنا إليها‏,‏ وليس بقيمتها المجردة وحدها‏,‏ فالرشفة الأولى من كوب الماء ترتفع قيمتها إلى حدها الأقصى لدى من هده الظمأ والجفاف‏,‏ والرشفة الثانية من نفس الكوب تنخفض منفعتها بقدر ما روت الأولى من ظمئه وعطشه‏..‏ وتنخفض قيمة الثالثة عن الثانية بنفس القدر إلى أن يرتوي المرء تماما فيفقد الماء كله منفعته بالنسبة إليه وتستوي قيمته لديه مع بقية الأشياء‏,‏ ولقد تصبح الرشفة الزائدة بعد ذلك عبئا عليه بعد أن كانت منذ قليل أملا له‏.‏ مع أن الماء هو نفس الماء في كل الرشفات‏,‏ وهكذا الإنسان دائما يا سيدتي مع كل احتياجات الحياة وليس من شك في أن والدك قد أخطأ في حقك وحق شقيقتيك خطأ جسيما حين قبض يده وهو القادر ماديا عن إعانتكن على أمركن في الوقت المناسب‏,‏ وحين لم يواسكن بماله ويبذل لكن العطاء السمح الذي يشعركن بعز البنوة لأب حريص على سعادة بناته وعلى حفظ كراماتهن أمام أزواجهن وأصهارهن‏.‏


والواضح هو أن والدكن قد استهول تكاليف زواج بناته وخشي أن تستنزف معظم مدخراته فأراد أن يستن لنفسه سنة تزويج البنات بأقل الخسائر المادية وتحميل الأزواج معظم الأعباء‏,‏ وبذلك ينجو هو بماله السائل ولا يبذل منه بعد العناء الشديد إلا أقل القليل لتلبية الحد الأدنى من ضروريات الفتاة عند الزواج‏,‏ وهو موقف أناني بكل تأكيد يأباه على أنفسهم وأبنائهم الرحماء من الآباء الذين لا يضنون بشيء مما يملكون علي فلذات أكبادهم ولو تحملوا هم العناء في سبيل ذلك‏,‏ غير أنك يا سيدتي تربطين ربطا متعسفا بين تقاعس أبيك عن الوفاء بمسئولياته الأبوية تجاهك عند زواجك‏,‏ وبين حرمانك من الحب القديم وتحقيق أحلام السعادة مع أول من نبض قلبك بالحب له في سن الصبا‏,‏ ويغيب عنك في غمرة ذلك‏,‏ أمر شديد الأهمية هو أن موقف أبيك المادي في مشروع الارتباط بينك وبين خطيبك الأول لم يكن وحده المسئول عن انهيار الحلم وتبدد آمال السعادة المرجوة‏,‏ ذلك أن الحلم لم يتهاو على صخرة أبيك المادية وحدها‏,‏ وإنما تحطم في الحقيقة علي صخرة أخرى هي رفض خطيبك الأول أن يتحمل أية تضحيات مادية في سبيل الفوز بك‏..‏ ولو كانت هذه التضحيات غير عادلة وعلى صخرة تقاعسه هو الآخر عن الاستمساك بك والدفاع عن الحب الذي جمع بينكما ولو تحمل هو في سبيل ذلك العناء كما يفعل المحبون الصادقون في حبهم وفي رغبتهم في أن يسكنوا إلى من يحبونهم‏..‏ فلقد يسخط هؤلاء على مادية الأب الذي لا يريد أن يتحمل مسئولياته العادلة تجاه أبنائه‏,‏ ولقد ينقمون عليه قلة مروءته وشهامته‏,‏ لكنهم أبدا لا يتخلون عمن أحبوهم ولا ينصرفون عنهم بلا ندم لمثل هذا السبب المادي الرخيص‏..‏ وإنما يدافعون عن حبهم الصادق ضد الظروف غير المواتية‏..‏ ويعوضون بأريحيتهم أو تضحياتهم ما قصرت عنه همة الآباء أو مروءتهم‏,‏ وهو نفس ما فعله زوجك الحالي الذي يهيم بك حبا كأنما قد خلت الدنيا من كل النساء سواك‏.‏ وهكذا فعل أيضا زوجا شقيقتيك حين قبلا بتعويض تقصير والدك في حق بناته واستمسكا بفتاتيهما للنهاية وفازا معهما بالسعادة والأمان‏,‏ فلماذا لم يفعل ذلك فتاك الأول‏..‏ والذي يضطرب القلب الآن بعد السنوات الطويلة حين ترينه في زيارة عائلية؟

ولماذا ينحصر لومك الباطني على حرمانك مما تتصورينه السعادة الموءودة والأحلام المنهارة على أبيك وحده ولا يمتد معه كما يقضي العدل بذلك إلى فتاك الذي تخلى عنك عند أول اختبار حقيقي لصدق المشاعر‏..‏ وجدية الاختيار؟ وكيف يهفو القلب إلى من لم يبذل قطرة عرق واحدة في سبيل الاحتفاظ بك وقضاء بقية العمر إلى جوارك كما يفعل الصادقون في حبهم‏..‏ في كل العصور والأزمان؟ إنك في حقيقة الأمر لا تشعرين بالحنين إلى هذا الحب القديم في حد ذاته وإنما إلى براءة المشاعر وهي تخفق بنبض الحب لأول مرة في حياتك‏,‏ وإلى أحاسيس ابنة العشرين التي يضطرب نبضها حين تلتقي عينها بعيني فتاها في نظرة مختلسة وغير ذلك من اللفتات العاطفية والذكريات الدافئة التي أارتبطت في مخيلتك بهذه المرحلة الجميلة من مراحل العمر‏..‏ لهذا فأنت تحنين إلى صباك وبواكير شبابك في حقيقة الأمر‏,‏ وليس إلى شخص بذاته‏..‏ وهكذا نفعل جميعا حين نأسى على الماضي الذي انقضى وراح وننعى على الحاضر الذي يذكرنا بتقدمنا في مراحل العمر واقترابنا من غاية الحياة‏,‏ وما تعتبرينه الحب الأول في حياتك وربما الوحيد لم يكن أكثر من عاطفة غير مكتملة لم تصهرها نيران التجارب والاختبارات واختلاف وجهات النظر وتعارض الإرادات واختلاف الرؤى وتضاد المصالح‏,‏ وغير ذلك من الاختبارات التي يمتحن بها صدق المشاعر‏..‏ فيصمد الحقيقي منها‏..‏ وتذرو رياح الأيام ما كان موهوما وغير صادق من الأحاسيس‏.‏ ولعلك لو كنت قد تزوجت من فتاك الأول لما صمد حبك أمام مثل هذه الاختبارات الجادة‏,‏ ولربما كنت قد شقيت بعشرته ورجوت لنفسك النجاة منها بعد فوات الأوان‏.‏ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون صدق الله العظيم‏..‏ ولأنه سبحانه وتعالى يعلم ونحن جاهلون بأن من واجبنا تجاه أنفسنا دائما أن نرضى بحسن اختيار الله لنا ونسعد به‏..‏ ولا نهفو إلى غيره لكيلا نجني من أحلامنا المستحيلة الحسرة وتشوش الخاطر‏..‏ وقلق النفس‏..‏ وكدر الحياة‏..‏ وإغفال الشكر على الموجود تعلقا بالمفقود‏,‏ ولكيلا نقع في خطأ المقارنة الظالمة بين خيال موشى دائما بالورود‏..‏ وواقع يخلو عادة من جاذبية الخيال‏,‏ وقديما قال أحد الصالحين في موقف مماثل‏:‏ إن الحب الحلال حلال‏..‏ والحب الحرام حرام‏..‏ وأن الأفضل دائما لنا هو إطفاء الشرارة قبل أن يندلع الحريق ويتعذر علينا السيطرة عليه وإخماده‏.‏ ومن أهم السبل لتحقيق ذلك تجنب اللقاء ولو كان بريئا‏..‏ والخلوة ولو جاءت عرضا‏..‏ والنظرات المختلسة ولو لم يلحظها أحد‏..‏ والمصالح المشتركة التي قد تجمعنا برموز الماضي ولو كانت مشروعة‏.‏ وذلك سدا للذرائع وإغلاقا لأبواب الضعف البشري ودفاعا عن السعادة المتاحة لنا وحماية لها من التشوش والاضطراب‏.‏

رابط رسالة صوت الرعد


 

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات