صوت الرعد .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

 صوت الرعد .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

صوت الرعد .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

صوت الرعد وإن كان مفزعا إلا أنه في نفس الوقت يكون بشيرا عادة بهطول المطر‏..‏ فالسماء ترعد‏..‏ ثم تمطر في النهاية أما الأب البخيل سامحه الله فإنه يرعد ولا يمطر‏..‏ ورعوده كلها صوتية فقط لا ترطب الأرض الجافة ولا تروي العطاشي‏,‏ فبئس ما اختار لنفسه وحياته وبئس ما صنعه بأبنائه فدفعهم جميعا للاغتراب النفسي عنه والبحث عن مصادر الحنان خارج دائرته‏.

عبد الوهاب مطاوع


أنا فتاة من أسرة مكونة من ستة أفراد ‏..‏ أبي الموظف السابق وبالمعاش حاليا‏,‏ وأمي الموظفة بإحدي الجهات الحكومية وأخي الكبير الذي يعمل مهندسا ومتزوج حاليا‏..‏ وأختي التي تليني وهي الآن معارة إلى إحدى الدول العربية ولم تتزوج بعد‏,‏ وأخي الثالث الذي يعمل كمحاسب بإحدى الشركات الخاصة وأنا أصغرهم وأعمل منذ تخرجي كسكرتيرة بإحدى الشركات الخاصة‏.

‏ هذه هي أسرتي التي نشأت فيها وأنا بعيدة كل البعد عنها بحساسيتي المفرطة ومشاعري المرهفة التي جعلتني أشبه بالمنعزلة عن أفرادها ولست أقصد بذلك أنني لا أتعامل معهم‏..‏ فأنا شديدة الارتباط بأخوتي فقد انشأتنا والدتي الحبيبة على الحب والارتباط ببعضنا البعض لكني بالرغم من ذلك أشعر أنني وحيدة وفي بيئة غريبة عني ولذلك فضلت العيش في عزلتي بسبب ما قاسيته من خلافات دائمة بين أبي وأمي سببها الأول والأخير هو المادة‏..

 فأبي سامحه الله ومنذ أن كنا صغارا ونحن نلمس فيه عشقه للمال وحرصه الشديد عليه حتي صار حبه الأول والأخير‏,‏ فهو لا يفكر في شيء سواه ويبخل علينا بكثير مما هو ضروري لحياتنا ومتاح في الوقت نفسه لغيرنا ممن هم أقل منا ماديا‏,‏ يبخل ونحن نعلم جيدا أنه يملك من المال ما يجعلنا غير محتاجين إلى شيء فمعاشه الكبير يتيح لنا الحياة الكريمة‏,‏ لكن والدتي ـ أطال الله عمرها ـ هي التي دوما تكمل لنا ما ينقصنا حتى صرنا رجالا وفتيات يحسد الآخرون آبانا علينا في حين لا يشعر هو بتلك النعمة التي أعطاها  الله له‏,‏ فأخي الأكبر كان يعمل منذ أن كان طالبا بالكلية ليسدد مصاريفه التي رفض أبي بالطبع أن يسددها له منذ التحاقه بالكلية وظل حتى تخرج وهو يعتمد على نفسه في نفقاته لكي يعفي من نفسه من ذل سؤال أبينا‏..‏ 

إذ كان يثور علينا عندما نطلب منه شيئا جديدا نلبسه أو شيئا نحتاج إليه أو حتى مصروفنا اليومي لنذهب إلى المدرسة أو إلى الكلية ويسبنا بصوت كالرعد يصيبنا بالرعب ويجعلنا نتقهقر من أمامه ولا نسأله شيئا ثانية وكانت أمي بارك الله لنا فيها هي التي تحنو علينا وتلبي طلباتنا بما تملكه من راتبها الصغير الذي يكفيها بالكاد مع دروسنا الخصوصية فترة الدراسة وأقساط ملابسنا التي نرتديها بجانب مساعدتها في نفقات البيت‏.‏

فأمي رغم راتبها الصغير تحاول بقدر جهدها إكمال ما ينقصنا في بيتنا وتجعله يبدو بالمظهر اللائق قليلا حرصا على مشاعرنا وحتى لا نشعر بأننا أقل من غيرنا‏..‏ فليس هناك شيء يتلف في البيت ويوافق أبي على إصلاحه حتى جفت حلوقنا من ترديد الكلام وأصبحنا نفضل السكوت ونحاول الاشتراك مع والدتنا بما نقدر عليه في ترميم ما يتلف أو إحضار شيء جديد ضروري للبيت‏..‏ وهكذا فإنه لا يترك لنا فرصة حتى لأن نتكفل بأنفسنا فكيف نفعل ذلك وكل ما في أيدينا من أموال ننفقها في البيت إنه يبتز أموالنا بطريقة غير مباشرة في نفقات ليست لأنفسنا ولكن للبيت ولا أستطيع إحضار شيء لنفسي وكذلك أمي رغم أنها موظفة ومنذ سنوات عديدة من جراء هذا الابتزاز غير المباشر‏.‏


والآن فقد انتهيت من دراستي وتمت خطبتي لأحد زملائي الذي ارتبطت به عاطفيا خلال الجامعة وكان هذا أعظم انتصار لي والسعادة الوحيدة التي طرأت على حياتي منذ ولادتي ومنذ أن ارتبطت بهذا الشاب أشعر نحوه ومع كل قسوة والدي بحنان عجيب يجعلني أشعر أنه ليس لي في الدنيا سواه وأدعو الله أن يتم ارتباطي به على خير حتى أخرج من هذا الجحيم الذي أعيشه مع أب بخيل يعشق المال أكثر من أي شيء آخر ويفضله حتى على فلذات أكباده‏..‏ والحمد لله فقد وهب الله لأخي الأكبر حياة مستقرة  بعد ان ذاق الذل واعتمد على نفسه وأختي المعارة إلى إحدى الدول العربية ومازالت بنتا لم تتزوج والحمد لله تكفلت بتكاليف زواجها وجهازها وليتك تشعر بإحساسها وهي ترى كل صديقاتها منعمات في بيوت آبائهم وهي قد كتبت عليها الظروف أن تسافر وهي بنت تعمل وتكدح من أجل أن تنفق على نفسها ولم يخش هو عليها قسوة الغربة وإنما شجعها لكي يخفف من أحماله‏!..‏ وأخي الثالث اعتمد على نفسه ولم يعد بحاجة إلى والدي‏,‏ أما أنا فلا أملك من الدنيا سوي وظيفتي التي انفق مرتبي القليل على احتفاظي بمظهر لائق أمام الناس وزملائي في العمل بقدر ما استطيع حتى أنني أصبحت لا أتناول وجبة واحدة في بيتنا وعندما أعود من عملي بعد يوم شاق أعمل فيه لمدة‏10‏ ساعات آرجع إلى البيت فلا أجد الاستقبال الذي يشجعني فأدخل إلى غرفتي وأنام بدون ان اتساءل عن أي شيء فقد أصبحت ساهمة أسير في الشوارع والطرقات أشعر بفقدان الوعي والاتزان والثقة في نفسي‏..‏ وأنا مقبلة على الزواج واحتاج إلى أن أشعر بمظهر لائق أمام أهل خطيبي الذين بالطبع لا يعلمون أن أبي يرفض أن ينفق مليما واحدا على جهازي وقد تكلمت مع أبي كثيرا وفي كل مرة لا أسمع منه إلا صوت الرعد يدوي في أذني بمزيج من السباب والشتائم تنهال على رأسي ورأس أمي المسكينة التي أنفقت كل ما معها علينا ولم يتبق لها شيء ولم تدخر رغم سنوات عمرها لنفسها جنيها واحدا لوقت ضيق أو حتى لتحقق أمنيتها بزيارة بيت الله الحرام‏,‏ لقد صارت المرارة التي أشعر بها في حلقي كالعلقم لا أستطيع تحملها أكثر من ذلك وأنا أرى كل بنات عائلتي تتزوجن وقام آباؤهن بمساعدتهن في زواجهن بما يشرفهن أمام أزواجهن وأشعر أنني وحيدة بلا أب حتى بت أكره نفسي وأكره حياتي ولا أسامح أبي أبدا وستظل هذه المرارة في قلبي ما حييت‏,‏ فما وجدته من أبي من قسوة جعلني أميل بمشاعري الطيبة كلها تجاه خطيبي الذي أصبح هو كل دنياي لو لم أكن قابلت هذا الشاب لكنت أصبحت مريضة نفسيا من أهوال حياتي‏.‏ أرجوك يا سيدي أن توجه إلى أبي كلمة قبل فوات الأوان‏..

 فلقد تقدم به العمر وأخشى أن يموت وهو مخطئ في حقنا وحق أمي المريضة‏.‏ فلا يترك لنا أنا وأخوتي سوى ميراث الحقد والكره‏..‏ أرجو أن تطلب منه أن يحنو علينا إذ فماذا يريد من الدنيا بعد أن أنعم الله عليه بكل ما يتمني‏.‏ وأعطاه أبناء يحسد عليهم وحقق ما كان يريد ولديه مال يكنزه وأبناؤه يحتاجون إليه‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

صوت الرعد وإن كان مفزعا إلا أنه في نفس الوقت يكون بشيرا عادة بهطول المطر‏..‏ فالسماء ترعد‏..‏ ثم تمطر في النهاية أما والدك سامحه الله فإنه يرعد ولا يمطر‏..‏ ورعوده كلها صوتية فقط لا ترطب الأرض الجافة ولا تروي العطاشي‏,‏ فبئس ما اختار لنفسه وحياته وبئس ما صنعه بأبنائه فدفعهم جميعا للاغتراب النفسي عنه والبحث عن مصادر الحنان خارج دائرته‏..‏
وكل ذلك من أجل متاع قليل لا يساوي في حد ذاته شروي نغير إن لك يكرسه المرء لإسعاد أبنائه وحفظ حرماتهم وكراماتهم وأعراضهم‏..‏ إنني أقول له ان الفرصة بالرغم من كل شيء لم تضع بعد ويستطيع إذا أراد ان يعين ابنته الشابة على أمرها ويحفظ عليها كرامتها أمام خطيبها وأصهارها‏..‏ فهل يرغب في ذلك حقا أم ترى أنه يصر إلى النهاية على أن يحصد ثمار ما غرسه من الحقد والمرارة في نفوس أقرب الناس إليه؟‏..‏ وأحقهم ببره ورعايته وعطفه ؟

  *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سنة 2002

                         راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات