جمال الأشياء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

 جمال الأشياء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

جمال الأشياء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

أكتب إليك من بلاد بعيدة سافرت إليها مضطرا منذ أكثر من شهرين‏,‏ وآمل أن تنتهي مهمتي فيها على خير وأرجع إلى بلدي وأصدقائي وأهلي وكل حياتي السابقة في أقرب وقت إن شاء الله‏,‏ فأما أنا فإنني لست بغريب عليك لأنك تعرفني عن قرب فإذا كنت في حاجة إلى أن أقدم نفسي لأحد فلقرأئك الذين يتابعون هذا الباب ولهم أقول إنني طبيب وأستاذ بإحدى كليات الطب العريقة في بلادنا‏.‏ بدأت حياتي العملية حين تخرجت في نفس الكلية وعمري‏21‏ عاما‏,‏ ثم واصلت دراساتي العليا فحصلت علي دبلوم الجراحة وبدأت أستعد للحصول على الماجستير ثم الدكتوراه‏,‏ وفي هذه الفترة تعرفت على الإنسانة التي سيقدر لي أن ترتبط بها حياتي إلى النهاية وتبادلنا أعمق المشاعر والأحاسيس ‏..‏ وبدأت أخطط للارتباط بها‏,‏ وقضاء بقية العمر إلى جوارها وكأي طبيب شاب في مقتبل حياته بدأت الرحلة من نقطة الصفر ‏..‏ وكان مرتبي وقتها لا يزيد على‏27‏ جنيها‏ ..‏ فأثثنا عشا صغيرا بسيطا احتوانا وعوضنا بدفئه وصدق المشاعر داخله عن بساطة حياتنا وبعد حصولي على الماجستير ‏..‏ تمكنت من استئجار شقة متواضعة في أعماق حي القلعة الشعبي لم يكن إيجارها يزيد على ثلاثة جنيهات في الشهر‏,‏ وبدأ الرزق القليل يأتي إلي‏,‏ كالقطرات ومع ذلك فلقد كان له قيمة كبيرة وكنت أسعد به كثيرا‏..‏ وكذلك زوجتي‏.


وحصلت على الدكتوراه وترقيت مدرسا ثم أستاذا مساعدا ثم أستاذا ورئيس قسم وأنا أمارس عملي في هذه العيادة الشعبية المتواضعة وأعالج المرضي مقابل رسم زهيد لا يتجاوز بضعة جنيهات وبالمجان في كثير من الأحيان لمن يقدرون حتى على دفعها‏,‏ إلى جانب عملي بالكلية ولقد كان من الممكن أن تمضي مسيرتي العملية والعلمية كطبيب وجراح‏ إلى النهاية لولا أن شهدت حياتي الشخصية منعطفا مهما هيج أحزاني وأثار تأملاتي ودفعني للتحول إلى طريق آخر‏.‏
فلقد كان لزوجتي الحبيبة شقيقة صغري كنت اعتبرها بمثابة ابنة لي إلى جوار بناتي من زوجتي ..‏ ثم مضت السنون وكبرت الشقيقة الصغرى وتزوجت وحملت فلم تمض شهور على حملها حتى أصيبت بالمرض اللعين في الصدر‏,‏ وفزعنا جميعا لما أصابها‏ ..‏ وهرعت بها إلى زملائي الأطباء الذين تخصصوا في هذا المرض‏.,‏ وأشاروا علينا بضرورة أن تتخلص شقيقة زوجتي من حملها لكي تزداد فرص نجاتها وشفائها من المرض‏,‏ وعرضنا عليها ذلك فرفضته بإصرار عنيد وتمسكت بحملها مهما كانت العواقب‏,‏ وتشاورت مع زوجتي في الأمر طويلا وكنت بمثابة ولي أمر لهذه الشقيقة وانتهينا إلى موافقتها على رغبتها بالرغم من المخاطر عسي الله أن يكشف عنها الضر ويسعدها برؤية أول وليد لها‏,‏ ووضعت الشقيقة الصغرى مولودها بسلام وسعدت به سعادة وأملت في أن تترفق بها الأيام وتتيح لها فسحة من العمر تقوم خلالها بتربيته غير أن المرض اللعين كان قد تمكن منها فلم تمض شهور حتى رحلت عن الحياة مبكيا عليها من كل من عرفها‏ ..‏ وكان أول قرار لنا أنا وزوجتي بعد رحيلها المحزن هو أن نضم الوليد الذي خلفته وراءها إلى حضانتنا لينشأ بين بناتنا كابن آخر لنا‏.

وأثار مرض شقيقة زوجتي أحزاني وتأملاتي في نفس الوقت‏..‏ فتساءلت ما هذا المرض اللعين الذي لا يمهل ضحيته وقتا طويلا ولا يكاد يفلح معه علاج شاف في ذلك الوقت من أين يأتي‏.‏ وكيف يمكن اكتشافه مبكرا ومقاومته‏,‏ وانتهيت من تساؤلاتي وتأملاتي إلى قرار مصيري بالنسبة لي وهو أن أتخصص في الكشف عن هذا المرض وفي تشخيصه في وقت مبكر لكي يسهل علاجه والانتصار عليه‏,‏ وبدأت أقرأ كل شيء عن هذا المرض اللعين‏ ..‏ وأحضر كل ما يعقد عنه من ندوات ومؤتمرات في مصر‏,‏ وأسافر كل سنة لحضور عدد من المؤتمرات التي تركز علي اكتشافات الأدوية وسبل علاج هذا المرض‏..‏
وخلال ذلك فوجئت بإصابة زوجتي الحبيبة بنفس المرض في الثدي‏,‏ لكنه كان من حسن حظنا أن اكتشفناه في وقت مبكر بعد أن تعلمنا الدرس الأليم من مرض شقيقتها‏ ..‏ وبعد أن تعمقت أنا في دراسة المرض وكيفية الكشف عنه فكان أن من الله عليها بالشفاء منه تماما‏..‏ وفي ذلك الوقت خطرت لي فكرة إنشاء وحدة تتخصص في تشخيص الأورام والكشف عن دلالاتها‏,‏ لتساعد المرضي على اكتشاف المرض في بدايته وبما يسمح بنجاح العلاج معه‏.‏ وتقدمت بفكرتي إلى الكلية التي أعمل بها‏..‏ ونلت الموافقة على إنشائها‏.‏ وبدأت جهودي لإنشائها وجمع التبرعات لها حتى وفقني الله وبمعاونة عدد كبير من الفضلاء من أهل الخير في إنشاء الوحدة‏ ..‏ وخلال سنوات أصبحت هذه الوحدة هي الوحدة الأم لعدد كبير من الوحدات المماثلة ساعدت في إنشائها في كليات الطب الأخرى ولم أفكر طوال ذلك في أن أحول هذا الجهد إلى نشاط خاص لي أو أن أنشيء وحدة مماثلة لحسابي لتدر علي عائدا ماليا كبيرا‏,‏ وإنما صرفت كل جهدي لتدعيم وحدة كلية الطب وتقديم العون للزملاء الذين يرغبون في إنشاء وحدات مماثلة في كلياتهم‏ ..‏ وفي حضور المؤتمرات العلمية المحلية والعالمية حول هذا المرض.


أما على المستوي الشخصي فلقد كانت حياتي العائلية سعيدة وبهيجة‏ ..‏ فشريكة عمري هي الحنان كله والرقة كلها والبسمة التي لا تغيب عن الوجه والواحة التي أهجع إليها وأجد لديها كل الحب والعطاء والوفاء‏ ..‏ وبناتي يتقدمن في التعليم وينثرن حولي أربح حبهن ودفء مشاعرهن وإيناس صحبتهن‏ ..‏ وتفوقهن الدراسي‏ ..‏ والتزامهن الأخلاقي وعوادي الأيام التي لا تخلو منها حياة تمر بنا كغيرنا من البشر لكنها لا تنال من سعادتنا ورضائنا وابتهاجنا بدنيانا الخاصة‏..‏ فلقد أديت أنا وزوجتي مثلا فريضة الحج منذ سنوات وبعد عودتنا من الأراضي المباركة‏ ..‏ فوجئنا بإصابة زوجتي بانفجار في القولون لم نعرف سببه حتى الآن‏,‏ وقضت بالمستشفي شهورا طويلة تم خلالها نقل عشرة أكياس من الدم لها‏ ..‏ ثم من الله عليها بالشفاء وعادت إلي بيتنا باسمة راضية عهدها دائما وبعد سنوات من هذه المحنة اكتشفنا إصابتها بفيروس سي اللعين وعرفنا انه قد أنتقل إليها من أحد أكياس الدم الملوثة‏,‏ ومع ذلك فلقد ظلت زوجتي تحيا حياتها راضية وسعيدة وتنشر السعادة والبهجة‏,‏ في حياتنا وكانت سعادتها طاغية بزواج الابنة الكبرى‏..‏ ثم الوسطي ‏..‏ ثم بمجيء الأحفاد‏..‏ كما كانت سعادتها عارمة أيضا بتقدم الابن الوحيد لنا في مراحل العمر والدراسة وبلوغه مرحلة الدراسة الجامعية‏, ‏وهو بالطبع الوليد الذي احتضنته زوجتي وحدبت عليه بعد رحيل أمه شقيقتها الصغرى .

 

ومضت بنا الأيام وبعد أكثر من‏30‏ عاما من ممارستي للطب في العيادة الشعبية وفقني الله منذ ست سنوات فقط في افتتاح عيادة ملائمة بوسط المدينة مازلت أسدد أقساطها حتى الآن ولم تغير العيادة الجديدة من أوضاعي المالية كثيرا‏ ..‏ فلقد عشت حياتي دائما مستورا بفضل من الله وأجد دائما ما احتاج إليه لمتطلبات حياتي وحياة أسرتي وزواج البنات وأسفاري الخ‏,‏ ولكن بلا فائض مادي كبير وثروة خاصة سوى ثروة حب الأسرة والأهل والأصدقاء والزملاء ‏..‏ وهي التي لا تقدر بمال‏.‏
ثم شهدت حالة زوجتي الصحية تطورا جديدا اضطرنا للسفر إلى أوربا لبضعة أسابيع طلبا للعلاج فقد هاجمها المرض اللعين مرة أخرى في مكان آخر‏.‏ ورجعنا وقد استقرت حالتها وعادت هي لممارسة أمومتها مع الجميع ابتداء من زوجها إلى بناتها إلي أزواجهن إلي الأهل والأقارب‏ ..‏ ومنذ حوالي ‏6‏ شهور كنت في البيت عقب سهرة عائلية ممتعة مع البنات ‏..‏ امتدت حتى اقترب الفجر ‏..‏ ودخلت فراشي استعدادا للنوم‏ ..‏ لكن زوجتي أصرت على انتظار أذان الفجر لتؤدي الفريضة قبل النوم وفرشت السجادة بجوار الفراش وجلست عليها تنتظر الأذان‏..‏ وتحدثني لتصرف عني النوم وتقول لي من حين لآخر ألن تصلي الفجر؟
فأطمئنها إلى أني أريح جسدي فقط وأغمض عيني للاسترخاء لكني مستيقظ وسوف أصلي الفجر معها حين يحين وقته إن شاء الله وأغمضت عيني من جديد‏..‏ فإذا بي أسمع صوتها فجأة يستغيث بي ‏..‏ ونهضت مفزوعا إليها فإذا بها يرحمها الله ويحسن مثوبتها تحتضر وتودع الحياة في لحظات بلا ألم ولا أية معاناة بالرغم مما كانت تعانيه من أمراض وغابت ابتسامة هذه السيدة الطيبة المؤمنة الصبور من حياتنا للأبد وشعرت بان حياتي قد انتهت برحيلها عن الحياة‏ ..‏ لكن الله سبحانه وتعالى ألهمني الصبر والسكينة‏,‏ وأعانني على أن أواصل حياتي من بعدها لكي أستكمل رسالتي مع الابنة الصغرى التي خطبت قبل رحيل الأم وتستعد للزواج‏ ..‏ ومع تلاميذي وأحبائي الذين ارتبطت بهم خلال رحلة العمر‏.

وأحاطني الأحباء والزملاء بعطفهم وحاولوا التخفيف عني‏,‏ وبدأت أتكيف بعض الشيء مع حياة غابت عنها شريكة العمر الوفية للأبد ومضت شهور ثم شعرت ذات يوم بصداع رهيب ومتصل فطلبت من أحد زملائي قياس ضغط الدم فوجدته مرتفعا بشدة‏,‏ ودخلت المستشفي لبضعة أيام لضبط ضغط دمي وإجراء بعض التحاليل في المستشفي وصاحبني في المستشفي بالطبع اقرب الأصدقاء إلى روحي وأقدمهم وهو زميل لي في نشاط الجمعية الدولية التي أنشأناها لأطباء تشخيص الأورام فإذا به يفاجئني بعد بضعة أيام بما رأى إنه لا يجوز كتمانه عني فلقد شك هذا الصديق في بعض أعراض حالتي‏ ..‏ فطلب سرا إجراء بعض الفحوص الإضافية لي‏ ..‏ واطلع على نتائجها بعيدا عني‏ ..‏ فإذا بها تكشف له عن إصابتي بنفس المرض الذي كرست حياتي للكشف المبكر عنه ومساعدة المرضي علي الشفاء منه‏!‏
وصارحني صديقي بذلك وهو مشفق علي ففوجيء بابتسامتي العريضة تزداد اتساعا وفوجئ بي أتقبل الخبر بكل هدوء ورضا وأقول له ضاحكا إن طباخ السم لابد أن يذوقهم 

ولا عجب في ذلك فلقد ظللت حوالي العشرين عاما أطالب مرضاي بالثبات ورباطة الجأش أمام المرض‏ ..‏ وأقول لهم إن الإيمان بالله سبحانه وتعالي والثقة به والتفاؤل والروح المعنوية العالية والأمل هو الطريق الأمثل للشفاء من هذا المرض إلي جانب العلاج والأخذ بالأسباب‏,‏ فلا غرابة إذن أن اعتمد أنا أيضا على سلاح الإيمان والتفاؤل والأمل في مقاومة هذا المرض‏ ..‏ وأنا الآن أتلقى العلاج في أحد المراكز المتخصصة في أقصي الجنوب بالولايات المتحدة‏ ..‏ وقد جئت إليه على نفقة الجامعة‏.‏ التي أنتمي إليها لأن النوع الذي أصبت به من المرض لا يتوافر علاجه حاليا إلا في أمريكا وأوربا بسبب ندرته وصعوبة الجراحة التي يتطلبها بعد العلاج ولست حزينا لمرضي الذي امتحنت به لأنني اعرف الكثير والكثير عن الابتلاء واختبارات الحياة لكني مشفق علي ابنتي الصغرى التي اصطحبتها معي ‏..‏ والتي اعترض مرضي وسفري للعلاج‏,‏ مشروعها للزواج وأجله بعض الوقت‏.‏
كما أنني مشفق عليها كذلك من عناء خدمتي‏ ..‏ والسهر علي في الغربة ولقد كتبت هذه الرسالة لكي أؤكد لك أن روحي المعنوية عالية وفي السماء بفضل إيماني بالله سبحانه وتعالي وثقتي في رحمته وتمسكي بروح التفاؤل والأمل دائما‏,‏ ولأقول لك إن علاجي يتقدم باطراد وأنه قد تجمع حولي عدد من الأطباء المصريين الشبان الذين يدرسون بكلية الطب التي أعالج في مستشفاها حاليا ومعظمهم من تلاميذي‏,‏ وهم يحيطونني بحبهم واهتمامهم ‏..‏ وأرجو الله سبحانه وتعالي أن يجمع بيننا ذات يوم قريب وكلانا في صحة وعافية لأكشف لك عن شخصيتي ان لم تكن قد عرفتها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏


ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

أكاد أن أكون قد عرفتك أيها الصديق الغالي فإذا صح ظني فيك فأنت ذلك الإنسان الفاضل الذي عرفت فيه سماحة النفس والقلب والضمير والذي وهبه الله سبحانه وتعالي القدرة علي العطاء للآخرين بلا حدود ومنحه نعمة القبول لديهم فما يكاد يعرفه أحد أو يقترب منه حتى يصبح وكأنه من خاصة أصدقائه الحميمين‏..‏
فإذا كنت هذا الإنسان الكريم وأنت غالبا كذلك ـ فلعلي أقول لك إنني ما رأيتك مرة إلا وتذكرت أبيات الشعر الجميلة التي عارض بها الإمام أحمد بن حنبل أستاذه الأمام الشافعي رضي الله عنهما‏..‏حين قال الإمام الشافعي ذات يوم في تواضع الأتقياء‏:‏
أحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سويا في البضاعة
فما أن سمع الإمام ابن حنبل هذه الأبيات حتي أنشد يخاطبه علي البعد‏:‏
تحب الصالحين وأنت منهم‏.‏
عساهم أن ينالوا بك شفاعة
وتكره من تجارته المعاصي
حماك الله من تلك البضاعة
ولا غرابة في ذلك لأنك بالفعل من الصالحين الذين يكرهون من تجارته المعاصي‏,‏ ولأن الأمر كذلك ومثلك يا سيدي لا يخزيه الله أبدا ولا يتخلي عنه ان شاء الله ولست في حاجة يا صديقي لأن أحدثك عن اختبارات الحياة التي ينبغي لنا أن نقبل بها راضين راجين من الله سبحانه وتعالي ان يعيننا علي الصمود لها واجتيازها بسلام‏..‏ ولا أنت في حاجة لأن أحدثك عن حكمة الابتلاء‏..‏ أو عن الأجر الموفور الذي يثيب به الله سبحانه وتعالي المبتلين عن بلائهم فيرفع بوخزة الشوك التي تصيبهم من درجاتهم عنده ‏..‏ او يمحو بها من سيئاتهم كما أنبأنا بذلك الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه‏..‏
فإذا كان ثمة ما يقال في هذا الشأن فهو أن محنة المرض إنما تعين الإنسان غالبا علي أن يراجع حياته وأولوياته وأهدافه وعلي أن يتبصر حقائق الأمور ويدرك قيمة الأشياء إدراكا أعمق يفرق معه بين ما يستحق منه ان يحرص عليه ويتمسك به وبين ما لا يستحق أن يأسي عليه أو يبدد العمر الثمين في السعي إليه‏,‏ حتى ولو كان قد بدا له من قبل شديد الأهمية‏,‏ أو كانت له قيمة كبري لدي الغير‏.‏ وهذا هو الجانب الآخر للمرض الذي يعيننا علي الفهم الأفضل للحياة والمؤسف حقا هو أننا لا ندرك قيمة الأشياء جيدا في أغلب الأحيان إلا حين تعترضنا المحن وتهاجمنا الآلام‏,‏ فنتلفت حولنا حينذاك مندهشين ونكتشف روعة الحياة التي غفلنا عنها سنوات طوالا من قبل‏,‏ علي حد تعبير الجدة العجوز في الرواية النرويجية الشهيرة عالم صوفيا‏,‏ او نكتشف مع الأديب البرازيلي باولو كويلو إن الحياة مكونة من عجائب صغيرة وكبيرة وانه لاشيء ممل فيها علي الإطلاق لأن كل شيء في الحياة يتغير ولأن الملل ليس جزءا منها وإنما يجيء من نظرتنا نحن للأمور فنتمنى مع الأديب الكولومبي جاريك جارسيا ماركيز كما قال في رسالته التي بثها علي الإنترنت بعد أن اشتد عليه المرض‏,‏ لو أن الله قد وهبنا قطعة أخري من الحياة علي حد تعبيره الفريد‏,‏ اذن لاستمتعنا خلالها بكل الأشياء الصغيرة والجليلة التي شغلنا سباق الفئران اللاهث وراء أهدافنا من قبل عن الالتفات إليها أو إدراك قيمتها‏..‏
ومع إنني أتصور أنك لم تحرم نفسك من متع الحياة البريئة من قبل وأنك قد نعمت بالحب الصادق والجو العائلي الدافيء‏ ..‏ ونعمة الصداقة وعطر المودة للآخرين ومودتهم لك بفضل روحك السمحة وحبك الفطري للغير‏,‏ إلا أنني أتصور كذلك أنك سوف تحتاج بالضرورة لأن تعيد صياغة حياتك من جديد بعد عودتك السالمة وتمام شفائك من مرضك بإذن الله بحيث تزيد من مساحة المتع الروحية والإنسانية البريئة ومساحة التأمل‏ ..‏ واستجلاء جمال الأشياء والأماكن والبشر فيها وتقلل بعض الشيء من مساحة اللهاث الدائم وراء الأهداف ‏..‏ والانشغال المستمر بما يبدد طاقة المرء ويكاد يفسد عليه روحه ولك في ذكرياتك الجميلة عن شريكة العمر الوفية ما سوف يعوضك لبعض الشيء عن غيابها عنك وعن حياتك‏.‏
ولك أيضا في زهراتك الثلاث وأحفادك منهن وابنك الوحيد الذي نهل من حبك وعطفك وحنانك طوال رحلة السنين ما سوف يملأ حياتك بالحب والدفء والجمال‏,‏ ناهيك عن عشرات الأصدقاء والمحبين والمريدين الذين يحفظون لك الود ويسعدون بصحبتك والاقتراب منك‏.‏
فاستعن بإيمانك العميق بالله سبحانه وتعالي وبحسن ظنك به وبروح التفاؤل التي طالما بثثتها في نفوس مرضاك علي الصمود لهذا الاختبار الجديد واجتيازه بسلام‏..‏ ولسوف يكون النصر حليفك في هذه المعركة بإذن الله ولسوف ترجع إلى بلدك وأهلك ومحبيك صحيحا معافى بإذن من إذا أراد شيئا قال له كن فيكون‏..‏ لتثري الحياة من حولك بكل ما هو نبيل وجميل وتواصل عطاءك المخلص دوما للآخرين بإذن الله‏.‏

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات