البوح الجميل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

 البوح الجميل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

البوح الجميل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

إذا كان الصمت أو الكتمان بمعنى عدم الشكوى من أقدارنا يضاعف من الأجر عند الابتلاء فان البوح بمثل هذه الكلمات المعطرة بعطر الإيمان والرضا بالقضاء.. والصبر الجميل على عوادي الأيام، لما يضاعف أيضا في ظني من هذا الأجر، ويرشح صاحبه لنيل جوائز الصابرين الشاكرين.

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة

كنت قد عاهدت نفسي ألا أقلب صفحات الماضي حتى لا تتجدد أشجاني .. ولكي يكون أجري عند ربي كاملا غير منقوص, لكن بعض كلمات رسالة جمال الأشياء التي نشرت منذ أسبوعين قد دفعتني للخروج عن صمتي والبوح لك بهذه الكلمات: فأنا سيدة في الثانية والأربعين من عمري اختصني الله سبحانه وتعالى بأكثر من اختبار في النفس والصحة والقدرة.
فأما اختبار الصحة فلقد بدأ منذ ستة عشر عاما وبعد زواجي بفترة قصيرة حين بدأت أشكو من بعض الأعراض المؤلمة.. وترددت على عدد من الأطباء إلى أن ذهبت إلى الطبيب الكبير كاتب رسالة جمال الأشياء فاكتشف إصابتي بالمرض الملعون .. وبدأت رحلة العلاج وتم استئصال الثديين, ثم تم استئصال الرحم ولم يكن قد مضى على زواجي سوى ثلاث سنوات فقط.. ثم توالت عمليات الاستئصال بعد ذلك لأن المرض الملعون كان قد امتد إلى عصب الجسم, ثم أشار علي كاتب الرسالة بالسعي للسفر للعلاج في الخارج لأن هذا النوع من المرض يعالج بنجاح أكبر هناك, ولم تكن لي حيلة في ذلك لكن زوج أختي جزاه الله عني كل خير بذل مجهودا كبيرا حتى حصل لي على الموافقة على سفري للعلاج في الخارج بعد أن تفاقمت حالتي وأصبت بشلل نصفي وبفقدان مؤقت للذاكرة وأصابني الهزال الشديد حتى بلغ وزني46 كيلو جراما ولم أعد أستطيع تحمل العلاج الكيماوي.. وأصبحت أشعر أنني بقايا امرأة وأم وزوجة.

وسافرت بالفعل وعولجت لفترة في الخارج ورجعت إلى بلدي ومضت الأيام بعد ذلك ما بين التحسن.. والانتكاس ثم التحسن النسبي وهكذا .

وأما الاختبار في النفس فهو أن الله سبحانه وتعالى قد وهبني طفلا مريضا بمرض نفسي نتيجة لما عاناه في طفولته وظروف ولادته من عدم الاهتمام به والانشغال عنه بظروف مرضي, فكانت النتيجة أن أصيب بهذا المرض وراحت تعاوده نوباته المحزنة من حين لآخر. وأما الاختبار في القدرة.. فلقد حدث حين ضغط أهل زوجي سامحهم الله عليه بشدة لكي يتركني ويتزوج من غيري ومارسوا عليه في سبيل ذلك كل أنواع الضغط الممكنة والتي لا تخطر على قلب بشر, ولم يتوقف كربي عن ذلك وحده وإنما شاءت الأقدار أيضا أن يتعرض زوجي لحادث مروع دمر حياتنا الاقتصادية, وتدهورت بعده أحوالنا المادية بشدة حتى فقدت شقتي وأثاثي وممتلكاتي أكثر من مرة وفي ظروف متعددة لا مجال لذكرها هنا, واعتصمت إزاء كل هذه الاختبارات بإيماني بربي وصبري على قضائه وقدره, وكنت شديدة الثقة بالله سبحانه وتعالي أنه لن يخذلني ولن يتخلي عني.. ورددت دائما في أعماقي قوله تعاليالذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون, أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.

ورددت أيضا عند كل خسارة مادية لحقت بنا قوله تعالىمالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير
ورددت كلما اشتد ضغط أهل زوجي عليه لكي يتركني وينصرف عني قول الحق سبحانه: وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد .. فكانت النتيجة أن جاءتني جوائز السماء تترى على حد قولك في بعض ردودك.


فأما محنة الصحة فلقد جعلتني شديدة الاقتراب من ربي وساعدتني فترات المرض الطويلة على حفظ ثلثي القرآن والمواظبة على صلاة الفجر والصلاة في أوقاتها وصيام التطوع يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع إلى جانب الصيام في كل المناسبات الدينية, وأشعرني اقترابي الشديد من ربي بالشفافية والراحة النفسية والاطمئنان حتى لأشعر أنني ما دعوت ربي في شيء إلا واستجاب لي سبحانه وتعالى .. وفضلا عن ذلك فلقد تحقق لي ما يشبه المعجزة الإلهية.. وبلغت حدا من الشفاء من المرض اللعين يكاد أن يكون تاما بإذن ربي.. وحتى حين أصبت بجلطة منذ أسابيع فلقد تلطف بي ربي وتحسنت حالة الشلل في النصف الأيسر وحالة الثقل في اللسان اللتان خلفتهما هذه الجلطة ولا ينتقصني لتمام الشفاء بإذن الله سوى أن يستجيب الله سبحانه وتعالى لدعائي ودعائكم لي ويتم علي نعمته.

أما محنة النفس فلقد خفف الله عني كثيرا من بلائها وتحسنت حالة طفلي الصغير كثيرا وقلت النوبات النفسية التي كان يتعرض لها حتى كادت تنعدم والحمد لله بكرة وأصيلا.



وأشكر زوجي العظيم ستره الله في الدنيا وفي الآخرة كما سترني في دنياي وكان لي نعم العون ونعم الرفيق.
وأشكر زوج أختي الفاضل الذي لا أنسي له أبدا مواقفه الكريمة معي في الماضي والحاضر, كما أشكر أختي المتفانية والأم التي عوضني بها ربي فكانت نعم التعويض, وأشكر رجلا عظيما آخر هو رئيسي في العمل الذي وقف إلي جواري وقدر ظروفي حتى تجاوزت إحدى محن العمل الصعبة, وأشكر في النهاية كل الأطباء الذين عالجوني ولا يزالون يباشرون علاجي.. وأدعو للجميع بالصحة والسعادة والأمان في حياتهم والسلام عليكم ورحمة الله.

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:


إذا كان الصمت أو الكتمان بمعنى عدم الشكوى من أقدارنا يضاعف من الأجر عند الابتلاء فان البوح بمثل هذه الكلمات المعطرة بعطر الإيمان والرضا بالقضاء.. والصبر الجميل على عوادي الأيام, لما يضاعف أيضا في ظني من هذا الأجر, ويرشح صاحبه لنيل جوائز الصابرين الشاكرين.
ومثل هذا البوح الجميل الذي لا يقل فضلا عن الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا أنين, إنما يصدر دائما عن نفس جميلة راضية مؤمنة لم تتسمم بالمحن والآلام والاختبارات القاسية ولم تسكن المرارة أعماقها فتفسد عليها تذوقها للحياة, وتشغلها عن إدراك قيمة الأشياء.
ومثل هذه النفس الجميلة هي التي لا يشغلها الألم عن الشكر على النعم ولا يصرفها همها بنفسها عن تقدير المنحة التي تجني في أثناء كل محنة.
والمهم دائما هو ألا يشغلنا الحزن أو الجزع عن الاحتفاء بهذه المنحة والتعزي بها عما أصابنا.. والشكر عليها وما أكثر المنح التي رافقت محنتك يا سيدتي وخففت من أثرها عليك ولم يغب عنك شكر خالقك عليها, ومنها الزوج المحب الذي رفض كل ضغوط الأهل عليه لينصرف عنك إلي غيرك فصمد لها.. وواصل حدبه عليك ورعايته لك واعتزازه بك, ومنها الابن المثالي المتدين الذي يتمناه كل أبوين لنفسيهما.. والابن الآخر الذي يقترب من تمام الشفاء بإذن الله, والأخت المتفانية وزوجها الكريم والأهل الرحماء وزملاء العمل ورئيسه المتراحمون.. وفوق ذلك وكله هذا الدفء الإنساني الذي يجمع بين أفراد أسرتك, ويجمع بينك وبين كل من حولك..
أليست هذه كلها منح جليلة تستحق الاعتزاز بها والشكر عليها؟
لقد هبطت عليك بعض جوائز السماء لكي تخفف عنك بعض ما تعانيه وتثبت أقدامك وتؤكد لك قول الحق سبحانه وتعاليإنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب, لكن ما ينتظرك في عالم الغيب كثير وكثير أيضا بإذن الله.. فترقبي المزيد منها كل حين.. وشكرا لك على تمنياتك الطيبة لكاتب رسالة جمال الأشياء وللجميع.. والسلام.

 رابط رسالة جمال الأشياء

رابط رسالة المتمردة تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات