رائحة العطر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 رائحة العطر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995 كتاب أقنعة الحب السبعة

رائحة العطر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


    من أجمل ما قرأت مؤخرا لأحد علماء السلوكيات .. عبارة يقول فيها : "لا تتخذ أي قرار مصيري فى حياتك إلا إذا درت حول التل دورة كاملة!".

    وتفسير هذه العبارة هو أن كل مشكلة مصيرية تواجه الإنسان إنما تنتصب أمامه كالتل المرتفع ولن يتأتى له أن يتخذ بشأنها القرار الصحيح .. إذا اكتفى بتأمل جانب التل المطل عليه وحده وإنما لابد من أن يدور حول هذا التل دورة كاملة لكي يرى كل جوانبه الأخرى ويوازن بينها وتكتمل له كل معالم الصورة فيكون قراره اقرب إلى الصواب منه لو كان قد اتخذه وهو لم يرى من التل إلا جانبا واحدا ناهيك عما تتيحه له هذه الدورة من مهلة كافية للتروى والتفكير الهادئ قبل اتخاذ اى قرار.

   عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة



قرأت رسالة "التحليل النهائي" للسيدة التي خانها زوجها ولا تجد سببا لخيانته وتسألك لماذا يخون الرجل زوجته التي تحيطه بكل ما يدعوه للوفاء والإخلاص, وأريد أن أروي لها قصتي لعلها تجد فيها ما يفيدها فى تجربتها, فأنا سيدة خريجة لإحدى الكليات النظرية, وتزوجت بعد قصة حب دامت أكثر من خمس سنوات, وأنجبت بنتين وولدا وعشت فى هدوء مع زوجي المحب الحنون وهو إنسان مستقيم الطبع لا يعرف المراوغة ونعمنا بالسعادة الصافية والحب العميق المتبادل .. فزوجي هو حبي الأول والأخير, وأنا فتاة أحلامه التي كافح سنين طويلة ليجتمع شمله معها كما أنى على قدر لا بأس به من الجمال والمظهر الحسن.

    ولأن أسرتي من إحدى محافظات الجنوب وأنا أقيم مع زوجي فى القاهرة حيث يعمل فلقد كنت أسافر إلى بلدتي كل شهر أو شهرين حسبما تسمح لى الظروف لأزور أمي التي أصبحت وحيدة بعد سفر شقيقي للخارج للحصول على الدكتوراه فأقيم معها يوما أو يومين ثم ارجع لحياتي وزوجي وأسرتي.

 

    ومضت حياتنا على هذا النحو خمسة عشر عاما أو تزيد, ثم مرضت أمي مرضا شديدا استدعى أن أكون إلى جوارها, فتركت زوجي وأبنائي وأقمت معها لرعايتها فى مرضها شهرا ونصف الشهر ثم توفيت أمي إلى رحمة ربها واضطررت للاستمرار فى بيت الأسرة فترة العزاء وحتى ذكرى الأربعين فطالت بذلك غيبتي عن زوجي وأولادي حوالي ثلاثة شهور.

    وكان زوجي يجئ لزيارتي فى بيت أمي من حين إلى آخر فيبيت ليلته وحيدا فى بيت أسرتي لازدحام البيت بالأقارب والزوار ثم يرجع إلى عمله فى اليوم التالي.

    وقبل حلول موعد الذكرى بأيام اتصلت ببيتي تليفونيا للاطمئنان على زوجي والأبناء كعادتي.. فلم أجد أبنائي فى البيت وعلمت من زوجي أنهم يقضون بضعة أيام عقب انتهاء الدراسة لدى عمتهم التي تقيم فى إحدى ضواحي القاهرة وأن الشغالة قد تركت البيت منذ فترة وتعجبت مما سمعت لعلمي بأن زوجي لا يطيق ابتعاد أبنائه عنه .. ولا يحتمل الحياة وحيدا, كما تعجبت أكثر لترك الشغالة للعمل فى بيتنا وهى مطلقة شابة وفى حاجة لمرتبها ولم تكن تشكو من شئ خلال عملها معنا.. ولم تفكر من قبل فى ترك العمل لدينا.. ولم استرح لكل ذلك ونهشتني الوساوس والشكوك فى زوجي لأول مرة منذ زواجنا.. ولم أدر ماذا أفعل فذكرى الأربعين بعد خمسة أيام ويستحيل أن اترك بيت أمي قبلها فلم انم ليلتها وفى الصباح حزمت أمري وأبلغت أقاربي أنى احتاج للسفر إلى القاهرة لأمر هام وسأعود قبل موعد الذكرى.

 

    وسافرت للقاهرة دون إبلاغ زوجي بذلك ووصلت إلى بيتي فرأيت سيارة زوجي أمام البيت فى نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يكون فيه فى عمله .. فترددت فى الصعود إلى مسكني إشفاقا على نفسي من أن أفاجأ بما لا يحتمل رؤيته.. وظللت واقفة فى مكاني أراقب العمارة التي أقيم فيها حتى رأيت زوجي يغادرها ويركب سيارته ويمضى بها فاستجمعت إرادتي وصعدت إلى شقتي فما أن فتحتها حتى شممت رائحة عطر أعرفه جيدا تفوح من المكان .. وتذكرته على الفور فهو عطر كان قد جاءني هديه ولم تعجبني رائحته النفاذة فأعطيته للشغالة التي تعمل عندنا لتتجمل به لزوجها ولم تكن قد طلقت منه وقتها وجريت فى الشقة كالمجنونة أفتش فى أرجائها.. فلم أجد أحدا لكنى وجدت على الكمودينو بجوار فراشي, نفس زجاجة العطر اللعينة التي أهديتها من قبل للشغالة .. ووجدت أيضا قميص نوم غريبا فى الحمام! فمادت الأرض بى وشعرت بدوخة وغثيان وبمشاعر غريبة .. وبكراهية هائلة لزوجي .. وأجهشت بالبكاء واستغرقت فيه.. فلم أدر إلا وزوجي واقف أمامي وهو فى حالة ذهول واضطراب والخجل الشديد يرتسم على وجهه.. ويسألني أسئلة لا معنى لها فصرخت فى وجهه بما رأيت فلم يستطيع تبرير وجود زجاجة العطر وقميص النوم وراح ينكر بلا وعى ويتلعثم ويتعثر فى الكلام بطريقة واضحة.. ولا يكاد ينطق بجملة واحدة مفيدة.. وإنما مجرد كلمات متقطعة.. وغير مترابطة.. ولا تفيد شيئا إلا الإنكار فطلبت منه الطلاق ودخلت غرفة الأبناء وأغلقتها على نفسي من الداخل وظللت طوال الليل أبكى حتى طلع الصباح..

 

 وتأكدت من أن زوجي قد غادر غرفة النوم ودخل الحمام ففتحت الباب بحرص وخرجت من الشقة عائدة إلى بيت أمي دون أن أراه أو يراني.

    ورجعت إلى بيت الأسرة وأنا أبكى .. وكل من يراني يواسيني فى رحيل أمي وهو لا يعرف إنني لا أبكى رحيل أمي وحدها.. وإنما رحيل الحب والوفاء والسعادة عن حياتي أيضا.

    ووجدت نفسي أواجه هذا السؤال المرير: ماذا أفعل مع هذا الزوج الخائن؟

    وفى اليوم التالي جاء زوجي إلى بيت أمي ليحضر ذكرى الأربعين فرأيته منكسرا ويتحاشى التقاء عيوننا, وانتهز أول فرصة اختلى بى فيها وأخذني بين ذراعيه وبكى وكانت المرة الأولى التي أرى فيها دموعه.. فدفعته عني برفق وتركت له الغرفة وخرجت, وفى الصباح التالي طلب مني إغلاق شقة والدتي والعودة معه إلى بيتنا لنتفاهم هناك على كل شئ.. ورفض السفر بدوني فرجعت معه ووجدت أولادي فى انتظاري بشقتي وكان لقاؤهم بي حارا وجميلا, وفى مسكننا حاول زوجي مرة أخرى أن يضمني إليه.. وأجهش بالبكاء بصوت عال ولكن دون اعتراف بما فعل .. فتركته وابتعدت عنه وأفكاري ومشاعري متضاربة وغريبة.. أراجع حياتي معه فأجده كان طوال 15 عاما مثالا للزوج المحب الحنون السخي فى عطائه النفسي والعاطفي والمادي لى والأب المثالي لأبنائه علاوة على حبي الشديد له, ثم أستعيد ما فعل وما صدمني به صدمة هائلة فتثور ثائرتي وأحس بالجرح العميق لحبي وكرامتي.

 

 ورغم غضبى الشديد وحيرتي فلقد شعرت بأن شيئا ما فى داخلي يود أن يسامحه على ما فعل لكن كرامتي تأبى علي ذلك!

    وأخيرا وبعد حيرة شديدة اهتديت لقرار هو أن أصلي لله وادعوه أن يهديني للصواب ففعلت.. واجتنبت زوجي وحرصت على الابتعاد عنه بضعة أيام.. وكلما مضى يوم أجد ذلك "الشئ" اللعين بداخلي يعود ويحثني على أن أسامحه واقبل ندمه الصامت بل ويلتمس له بعض "العذر" وليس كله فيما فعل رغم بشاعته فى الضعف البشرى اللعين.. وفى انه قد فعل ما فعل بسبب ابتعادي عنه ثلاثة شهور طويلة لم تسمح لنا الظروف خلالها بالالتقاء كزوجين محبين.

    وخلال صراعي مع نفسي جاءني زوجي وطلب مني إذا كنت قد كرهته نهائيا أن أصارحه بذلك مؤكدا لى إنه لا يستطيع الحياة بدوني.. فلم أجبه بشئ.. لكني حزمت أمري بيني وبين نفسي وقررت ألا أضحي به أو أهدم بيتي أو أسرتي وأشقي أبنائي من أجل غلطة وحيدة ارتكبها زوجي مهما كانت مؤلمة.. وأملت فى أن تداوي الأيام جراحي, واستأنفت حياتي مع زوجي وأنا راغبة فى الصفح والاستمرار معه وظللت أعواما بعد ذلك وأنا أعاني من آثار هذا الجرح حتى التأم تماما.. ونسيته ونسيت هذه الواقعة تماما فلم أشر إليها معه قط ولم يتطرق إليها من قريب او بعيد طوال السنوات الماضية فكأنما سقطت هذه التجربة من ذاكرتي إلى غياهب النسيان طوال السنوات الماضية, حتى تذكرتها وأنا اقرأ رسالة تلك الزوجة واسترجعت تفاصيلها لكن بلا مرارة أو ضيق فكأنما قد حدثت لإنسانة أخرى غيري..


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:  

    يقولون إن الأصل فى وصف الغضب الشديد عادة "بالغضب الأعمى" هو انه يعمى بصيرة الإنسان عن كل شئ آخر حوله ويحصر كل تفكيره ومشاعره فى الموقف الذي استثار غضبه فيتخذ الإنسان من القرارات والتصرفات الانفعالية ما يتعامل به مع الموقف وحده ويغفل أو تغيب عنه خلال سورة الغضب ظروف واعتبارات أخرى كانت جديرة بمراعاتها لو كانت قد أتيحت له فرصة التفكير المنطقي الهادئ فى الأمر كله.

    لهذا قيل بحق أن الغضب الشديد عدو التفكير السديد.

    وقال برناردشو أن الغضب ريح هوجاء تطفئ شمعة العقل! وأكاد أضيف إلى عبارته البليغة هذه..والقلب أيضا!

 

    وأحسب يا سيدتي أن ما أنقذ زواجك وسعادتك من الانهيار عندما حدثت تلك الواقعة القديمة هو أنك لم تستسلمي لقرار الغضب التلقائي الذي اتخذته فى ثورة انفعالك حين رأيت ما رأيت فى شقتك, وإنما أعطيت نفسك فرصة عادلة للتفكير الموضوعي الهادئ فى علاقتك بزوجك فأتاح لك هذا التفكير الهادئ مراجعة النفس وتأمل هذه الواقعة على ضوء ماضيه معك وعلاقتك الطويلة به فانتهيت من المراجعة إلى اعتبار ما وقع منه ضعفا عابرا وليس أصيلا فى شخصيته.. ووجدت فيما أحاط به من ظروف وملابسات كغيابك عنه ثلاثة شهور بعض "ما يفسر" لك أسباب هذا الضعف وإن كان لا يبرره بالطبع, فملت للتجاوز عن خطيئته وألح عليك ذلك الشئ الذى بداخلك للعفو عنه, وما كان ذلك "الشئ" إلا الحب القديم والعظيم الذي تحملينه له والذي صمد لهذه العاصفة ونجا منها, وما شجعك على الرجاء فيه.. وفى أن يكون ندمه على ما بدر منه صادقا.. سوى تاريخه القديم معك ورصيده السابق لديك..

    وهذا هو الفارق الهام, بين خطأ الإنسان حين تكون الاستقامة الخلقية هي طابع شخصيته ثم تذل قدمه ذات مرة إلى هاوية الضعف البشرى فيندم على ما فعل, ونتجاوز نحن بعد حين عن غضبنا منه, وبين خطأ الإنسان المتكرر حين تكون النزوة والاستهتار الخلقي هما طابع شخصيته فيدمن الخطأ وطلب العفو عنه كل حين, ويعجب لنا عندما نضيق ذرعا به وبأخطائه المتتالية ونرفض الصفح عنه.

    وقد أثبتت لك تجربة السنين يا سيدتي انك قد تسامحت مع من كان يستحق منك هذا التسامح فعلا فمضت حياتكما بعد ذلك هادئة مطمئنة معطرة بعطر الحب والوفاء والعرفان.

    ومن حقك أن ترضى عن اختيارك للعفو عنه وتفضيلك للاستمرار معه ولمصلحة أبنائك على المدى البعيد.. لو تخيلت الآن فقط عمق الهوة التي كان من الممكن أن يجرفك إليها قرار الغضب وحده لو لم ينتصر قرار الحب ويذكرك برصيده القديم لديك ويهديك إلى الرجاء فيه.

    ولا يتأتى ذلك غالبا إلا للمنصفين وأصحاب القلوب الحكيمة الذين لا يهدرون كل ما قدمه لهم الآخرون من قبل عند أول خطأ أو تصرف لا يلقى منهم قبولهم, ولا يتصرفون فى ذلك بمنطق الخرافة العربية القديمة التي تزعم انه كانت هناك سلحفاة تضع تسعا وتسعين بيضة كلها سلاحف جيدة ثم تضع بيضة فتفقس حية تلتهم التسعة والتسعين كلهم!

    فى حين يفعل ذلك للأسف بعض شركاء الحياة مع شركائهم فينسون لهم كل شئ عند أول خطأ.. أو خلاف.. أو منعطف لا يتفق مع رغباتهم فكأنما قد التهم خطؤه أو تصرفه الأخير التسعة والتسعين التى قدمها لهم كلها.

 

    ومن أجمل ما قرأت مؤخرا لأحد علماء السلوكيات.. عبارة يقول فيها: لا تتخذ أي قرار مصيري فى حياتك إلا إذا درت حول التل دورة كاملة!

    وتفسير هذه العبارة هو أن كل مشكلة مصيرية تواجه الإنسان إنما تنتصب أمامه كالتل المرتفع ولن يتأتى له أن يتخذ بشأنها القرار الصحيح.. إذا اكتفى بتأمل جانب التل المطل عليه وحده وإنما لابد من أن يدور حول هذا التل دورة كاملة لكي يرى كل جوانبه الأخرى ويوازن بينها وتكتمل له كل معالم الصورة فيكون قراره اقرب إلى الصواب منه لو كان قد اتخذه وهو لم يرى من التل إلا جانبا واحدا ناهيك عما تتيحه له هذه الدورة من مهلة كافية للتروى والتفكير الهادئ قبل اتخاذ اى قرار.

    والمؤكد انك قد درت حول التل دورة كاملة أتاحت لك رؤية الجوانب الأخرى فى زوجك.. وحياتك.. وأبنائك فاتخذت قرارك على ضوء ذلك كله ولم تندمي عليه ونصيحتك لكاتبة رسالة "التحليل النهائي" مشكورة ومأجورة.

 

    أما سؤالك عن ضعف الرجل وهل يصل به إلى هذا الحد.. وهل يمكن حقا أن يحب الرجل زوجته ثم يقدم على خيانتها, فإنك تفتحين به بابا لحديث شائك طويل ليس هذا مجاله وان كنت قد أجبت عن جانب من هذا التساؤل فى ردى على رسالة التحليل النهائي.. وعلى اية حال وتجنبا للحرج فأنى أقول لك كما قلت من قبل إن الدين هو اكبر عاصم للإنسان ضد الخطيئة.. وأن الحب هو اكبر عاصم له ضد الخيانة.. وبعد ذلك أقول لك إن ضعف الرجل يختلف فى الشرق والغرب وفى كل مكان عن ضعف المرأة, مع التسليم دائما بأن لكل قاعدة استثناء فى كلا الجنسين.. فالمرأة إذا ضعفت فإنها تضعف غالبا استجابة لنداء الحب وحده.. أما الرجل إذا ضعف فإنه قد يضعف استجابة لنداء الحب.. وقد يضعف أيضا استجابة لنداء الغريزة المتوحشة التى لم يردعها عاصم من دين.. وصادفت ظروفا وإغراءات يسرت الاستجابة لندائها.

    وبعض الرجال- لابد ان نعترف بذلك- يتعاملون فى ذلك مع نداء هذه الغريزة كما يتعاملون مع غريزة الطعام الذى يقيم الأود ويمنع الهلاك جوعا, ويفصلون فى تعاملهم معها بين "حبهم" لمن يحبون وبين تلبيتهم لندائها عند الضرورة أو فى نزوة عارضة.

    وهو خطأ نفسي وعاطفي ووجداني وأخلاقي غريب, لأنه يفصل بين وظيفتين لا فاصل بينهما فى الحقيقة عند الأسوياء والناضجين عاطفيا وإنسانيا وخلقيا.. ناهيك عما يحمله من تعارض مخيف مع نواهي الدين وأوامره.. ويكفى هذا الحد من الحديث فى الأمر الشائك .. وشكرا.



 نشرت عام 1995 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام

راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات