التحليل النهائي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
ليس هناك تجربة يعيشها الإنسان ولا يستفيد منها
شيئا صغر أم كبر ، فإن لم تكن " خبرة السعادة " هي جائزته فيها ..
فلقد عرف على الأقل "بخبرة الألم والتجربة " من لا يصلحون له .. ولابد
أن يعينه ذلك بشكل أو بآخر فى بحثه العادل المشروع عن الصالح المنشود .
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة في الثلاثينات
من العمر .. جامعية وخريجة إحدى كليات القمة كما يقولون عنها .. تزوجت وعمري ثلاثة
وعشرون عاما من مدرس بالمرحلة الابتدائية يكبرني ببضع سنوات وبعد عام من الزواج
اكتشفت " الكارثة الكبرى " التي تنتظرني وهى أن زوجي غير قادر على
الإنجاب نهائيا .. و لن أزعم لك يا سيدي أن ذلك لم يصدمني أو لم يؤثر فى كما قد
تزعم بعض السيدات فى مواقف مماثلة وإنما سأكون صادقة معك ومع نفسي فأقول لك إن هذا
الخبر قد زلزلني وحطمني تماما ، ليس لأنني كنت أحلم فقط بأن أكون أما منذ صباي
وإنما أيضا لأني أحب كل الأطفال ولا تخلو حقيبة يدي أبدا من بعض الحلوى لهم وقد
كنت أحلم بأن تكون لى أسرة كبيرة تضم ثلاثة أو أربعة أطفال لأنه لا عم لى و لا خال
، لكن هكذا شاءت إرادة الله ، فلم أيأس ولم أتوان و لم أقصر في خدمة زوجي
وواجباتي معه في كل موقف بل ورحت أؤكد للجميع وفى كل مناسبة أنني المسئولة عن هذه "
المصيبة " وذلك لكي أدفع عن زوجي الحرج والإحساس بأي نقص ، ورحت أستمع
باهتمام إلى نصيحة كل صديقة وكل جارة تقدم لى خبرتها فى التغلب على مشكلة عدم
الإنجاب بل وأكتب اسم طبيب أمراض النساء الذي تنصحني به شاكرة .. وأتظاهر بنيتي فى
الذهاب إليه أمام الصديقة .. ولا أفعل ذلك بالطبع . وعشت حياتي مع زوجي فى هدوء
رغم مرات الخلاف البسيط القليلة بيننا والتي كنت أفضل فيها العودة إلى بيت أسرتي
حتى تهدأ النفوس وأستجيب لرجاء زوجي فى العودة حين يجيئني مصالحا بلا تردد ، وأيضا
رغم فترات وحدتي الطويلة فى شقتي من الخامسة مساء كل يوم وهو موعد عودتي من عملي
إلى منتصف الليل ، وهو موعد رجوع زوجي من عمله الإضافي حيث يعمل فترتين .
وخلال ذلك لم نكن نقصر فى طلب العلاج والذهاب إلى الأطباء ، ثم
شاء القدر بعد ست سنوات من الزواج _ أن يظهر فى حياتنا أمل جديد فقد ذهبنا إلى
طبيب أعطانا الأمل فى أن يثمر العلاج ثماره المرجوة هذه المرة ، وأعطانا علاجا
مكثفا لمدة أربعة شهور نفذناه بدقة فلم يثمر النتيجة المرجوة .. فكررنا العلاج
المكثف لأربعة شهور أخرى ولم يتحسن الموقف أيضا ، فكررنا العلاج لأربعة شهور ثالثة
.. وصارحنا الطبيب بأنه الأمل الأخير لنا وأنه لن يستطيع _ إذا لم يحقق النتيجة
المرجوة .. أن يفعل أى شىء آخر وتمسكنا نحن بهذا الأمل الأخير حتى النهاية ..
وتناولنا العلاج المكثف بحرص شديد وأمل لا ينقطع فى رحمة الله وانتهينا منه بسلام
وتحدد لنا يوم 8 ديسمبر الماضي للذهاب إلى الطبيب لإجراء التحليل النهائي لخصوبة
زوجي بعد آخر دورات العلاج .. و خفق قلبي بشدة خوفا مما قد يكشف عنه هذا التحليل
النهائي وحزمت أمري بغير تردد وصارحت أقرب صديقاتي بأنه كيفما جاءت نتيجة التحليل
الذى يتوقف عليه آخر أمل لنا فى الإنجاب ، فإن مشاعري تجاه زوجي لن تتغير ولن
تتبدل وسأرضى بحياتي وبما شاءته لى الأقدار بغير سخط .
و فى اليوم السابق لإجراء هذا التحليل خرجت من البيت للذهاب
إلى عملي كالمعتاد صباح كل يوم .. ووقفت فى انتظار سيارة العمل التى تنقلني إليه
فتأخرت السيارة طويلا على غير العادة .. وبعد ساعة ثقيلة يئست من الانتظار وهممت
بركوب المواصلات العامة لكنى زهدت فى ذلك فجأة وسألت نفسي لماذا أتحمل عناء
المواصلات العامة طوال هذه المسافة الطويلة إلى العمل وقررت فجأة عدم الذهاب للعمل
والحصول على إجازة عارضة ذلك اليوم وعذري فى تخلف السيارة مقبول ، ورجعت إلى شقتي
لأمضى اليوم فى بيتي وأقوم ببعض الواجبات المنزلية الإضافية فأدرت المفتاح فى باب
الشقة بهدوء وفتحته بهدوء فإذا بى أرى زوجي العزيز الذي صبرت على عشرته كل هذه
السنوات يجلس فى الصالة ليس فوق مقعد أو فوتيل ولكن فوق " حجر " سيدة لا
أعرفها ولم أرها من قبل فى حياتي !
وقفت مذهولة لما أرى وعاجزة تماما عن النطق والحركة للحظات
فإذا به يسألني فى برود عن سبب عودتي .. وإذا بى أجيبه وأنا لا أدرى بما أقول بأن
عربة العمل لم تحضر ، ثم درت حول نفسي دورة كاملة لا أعرف لماذا واتجهت بتلقائية
إلى غرفة النوم .. لا أعرف أيضا لماذا ربما لكي أرى هل تغير فيها شىء عما كانت
عليه حين تركتها منذ ساعة ، ثم عدت للصالة بعد لحظات فلم أجد السيدة الغريبة التي
كانت بالصالة منذ لحظات ، ووجدت زوجي يقول لى فى هدوء مفتعل وكأنما يعرفني بشىء
عابر لا يستحق الحديث عنه طويلا : هذه مدام ........ خطيبة أخي !
فلم أسمع منه كلمة أخرى وخرجت على الفور من شقتي وركبت سيارة
أجرة إلى أهلي ودموعي تهطل لا إراديا ، ورويت لهم ما حدث وانتابتني نوبة
هذيان وانهرت انهيارا تاما لم أدر معه ماذا حدث لى بعد ذلك ولا أذكر منه سوى مشهد
الطبيب وهو يحقنني بحقنة مهدئة فى بيت أسرتي .. وصمم أهلي على استرداد منقولاتي من
شقة زوجي فى نفس اليوم ونفذوا ما أرادوا .. وتمنيت فى ذهولي وصدمتي لو أن زوجي كان
قد حاول إنكار الواقعة أمام أهلي أو تصويرها لهم تصويرا مخففا لكنه للأسف لم يفعل
أو لم يعرف كيف يفعل .. فاكتفى بالصمت العاجز عن كل تبرير .
وضاعت يا سيدي سنوات العذاب والصبر على الحرمان من الأطفال بلا
طائل ولا عزاء .. ونهشتني الأفكار والتساؤلات الملحة فحرمتني من النوم وراحة البال
ورحت أسأل نفسي عن كل لحظة لماذا يخونني زوجي مع سيدة أخرى بعد كل ما قدمت إليه من
معروف وعشرة طيبة ؟ وكيف هان عليه أن يفعل ذلك فى مسكن الزوجية الذى ينبغي أن
يصونه بغض النظر عن أى اعتبارات أخرى ؟ ولماذا يفعل ذلك وأنا لم أقصر فى حقوقه
الزوجية لحظة واحدة وحرصت عليه دائما وعلى مشاعره إلى حد اتهام نفسي بالمسئولية عن
عدم الإنجاب رعاية له .. هل فعل ذلك لأنه يحبني ؟ كيف يكون الأمر كذلك و قد كان
يؤكد دائما تمسكه بى و حرصه على استعادتي فى مرات الخلاف القليلة التي شهدتها
حياتنا .. إذن فلماذا يصدمني فى مشاعري وأنوثتي بهذه الطريقة المهينة المزرية ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لا
يستطيع الإنسان مهما فعل أن يمنع الآخرين من الإساءة إليه إذا تحركت نوازع الغدر
والشر فى أعماقهم .. ولا غرابة فى ذلك يا سيدتي ، فأفعال الآخرين لا تقع فى نطاق
سيطرتنا ولا نملك أن نخضعها لإرادتنا مهما أجهدنا أنفسنا فى محاولة ذلك ، ومهما
كان حجم العطاء الذي نقدمه لهم ، إذ أننا حتى لو كنا نستطيع أن نأسرهم بمعاملتنا
الطيبة وعطائنا الصادق لهم فى كثير من الأحيان ، فإن نزعات النفس البشرية الغامضة
كثيرة أيضا يا سيدتي .. وغرائزنا وأهواؤنا الجامحة وحوش ضارية تتلوى داخلنا تريد
أن تحطم القيود الأخلاقية والدينية التي نكبلها بها لتنطلق فى الحياة كما تنطلق
الوحوش فى الغابة ، فإذا وهنت هذه القيود لدى البعض أو ضعفت درجة سيطرتهم على وحوش
الغرائز والأهواء فى أعماقهم ، انطلقت من مكامنها تسعى إلى كل ما يحقق لها رغباتها
دون توقف كثير أو قليل أمام القيم الأخلاقية أو أمام حقوق الآخرين علينا وواجباتنا
تجاههم ، والإنسان يسأل فى النهاية عما يفعل هو وليس عما ارتكبه الآخرون ضده من
خيانة أو غدر أو تصرفات خسيسة .. وليس مما يسىء إلينا فى نظر أنفسنا وأنظار
المنصفين أيضا أن نتعرض أحيانا لشىء من ذلك فالجريمة عار مرتكبها لا عار ضحيتها ..
والسارق أحق بأن يشعر بالمهانة من المسروق ، لأنه هو الذى ارتكب عملا شائنا يفقده
اعتباره لدى الآخرين وليس الضحية .
لهذا
فلست أرى لك الاستسلام لهذا الإحساس المؤلم بالمهانة والهوان "والكرامة
المبعثرة" .. لمجرد أن زوجك لم يحفظ لك عهدك .. ولم يقدر لك عطاءك المخلص له
ولا إنكارك لنفسك من أجله واحتراما لمشاعره .. فكرامتك مصونة وفى حرز حريز نسجت
خيوطه من أخلاقياتك ومثالياتك والتزاماتك الخلقية .. ورؤيتك الخيرة للحياة ، أما
غدر الغادرين .. فعارهم وحدهم ولو آذى مشاعرنا وألحق بنا أقصى الألم . وكل ما
يملكه المرء فى مواجهة إساءة الآخرين له هو أن يدفع الإساءة الجارحة عن نفسه وأن
يرفض السكوت عليها أو التسامح معها ، وأن يتخذ ممن أساء إليه موقفا عادلا ترضى به
نفسه وكرامته .. وهذا ما تفعلينه الآن بالتحديد.. ولا لوم عليك فيه ولا جناح، فنحن
قد نطالب الزوج أو الزوجة بالتسامح مع الإساءة حتى ولو كانت جارحة وحتى لو تكررت
مرة ومرات ، أملا فى الإصلاح وحرصا على استمرار مظلة الأسرة ، وإشفاقا على الأبناء
من أن يدفعوا ثمنا باهظا لمغالاة الإنسان فى الاعتزاز بكرامته ورفضه الصفح عن
الإساءة ، و ليس هناك مبرر نبيل للصفح والنسيان عن كل ذلك إلا هذا المبرر وحده ،
فلأي مبرر إذن يمكن أن يطالبك أحد بالصفح والتسامح إذا لم تدفعك إليهما دوافعك
العاطفية الذاتية وحدها ؟ إن الحب والوفاء والعطاء والعطف المتبادل والعشرة الطيبة
هى المبرر الوحيد لاستمرار الحياة الزوجية بين الزوجين لم تشأ لهما الأقدار أن
ينجبا أطفالا ، فإذا انتفى المبرر لم يكن لاستمرار مثل هذه الحياة أي معنى سام ولا
هدف نبيل ، ولا لوم على من لا يجد سعادته فيها إذا تخلص منها فى هدوء وبحث عن
أمانه وسلامه النفسى فى حياة أخرى . لهذا فلست ألومك فى موقفك من زوجك بعد هذا
المشهد المؤلم الذي صدمت به فى مسكن الزوجية .. وبعد كل ما قدمت له من عطاء نفسي
وعاطفي بلغ بك حد إنكار الذات والرضا باتهامها ظلما بالمسئولية عن الحرمان من
الإنجاب رعاية لمشاعره ..
ولك
أن تتمسكي بهذا الموقف حتى النهاية إذا شئت .. ولك أن تتنازلي عنه إذا شفيت نفسك
مما عانت ورغبت فى استئناف الحياة مع زوجك إذا صدق ندمه على ما فعل وقدم لك
الترضية الكافية التى تضمد جراحك .. أما الأسباب التي قد تدفع رجلا لأن يفعل ما
فعل زوجك وقد توافرت له كل أسباب الرضا بحياته معك والاكتفاء بك والتي تتساءلين
عنها بمرارة وحيرة .. فالحديث يطول عنها أيضا وكلها مما لا يقبله العقل أو المنطق
.. والقاعدة هي أن الحب الحقيقي هو العاصم للرجل والمرأة ضد الخيانة بالقلب والفكر
وإن الالتزام الخلقي والديني هو العاصم الأكبر لأي منهما ضد الخيانة بالفعل
والتصرفات ، فإذا غاب هذا وذاك .. فقد تقع الخيانة أحيانا لأسباب مختلفة فقد تكون
ضعفا بشريا صادف إغراء خارجيا قويا لم يستطع الصمود أمامه ، وقد تكون نزوة طارئة
غاب فيها العقل والالتزام واستسلم الإنسان فيها لغرائزه ورغبته الغامضة فى اصطناع
الإحساس بالجدارة وبأنه مرغوب من الآخرين وموضع رغبتهم واهتمامهم .
وقد
تكون فى بعض الأحيان رغبة خفية فى التعويض النفسي وإثبات الكفاءة و" الرجولة
" خاصة إذا أحاطت بهذه الرجولة بعض الشبهات فتكون " المغامرة " فى
هذه الحالة محاولة لا شعورية من جانب الإنسان لنفى هذه الشبهات عنها فى نظره هو
أولا ، وفى أنظار الآخرين .. كما قد تكون كذلك رغبة فى تعويض النفس عما تفتقده فى حياتها
المشروعة من بعض النواقص العاطفية أو البيولوجية أو الإنسانية ، مهما كان مظهر هذه
الحياة خلابا ومتكاملا فى أنظار الآخرين ، وقد تكون .. وقد تكون .. و قد تكون
......إلخ .
وليس
يعينك كثيرا أن تعرفي دوافع زوجك لأن يفعل ما فعل إلا إذا كانت بعض هذه الدوافع تتعلق
بك أنت ، وترغبين فى تحري الأسباب والاستفادة من الأخطاء فى المستقبل .
أما
دوافعه الذاتية المعلنة والخفية فلن تفيدك فى شىء إلا فى فهمها وفى اكتساب خبرة
جديدة بالنفس البشرية ونزعاتها المختلفة .. والفهم قد يؤدى إلى التماس الأعذار
والصفح بعد حين .. وهذا كله متروك لك وحدك لتقدريه وفقا لظروفك واعتباراتك الشخصية
وحدها .
وفى كل الأحوال فليست هناك تجربة يعيشها الإنسان ولا يستفيد منها شيئا صغر أم كبر ، فإن لم تكن " خبرة السعادة " هي جائزته فيها .. فلقد عرف على الأقل "بخبرة الألم والتجربة " من لا يصلحون له .. ولابد أن يعينه ذلك بشكل أو بآخر فى بحثه العادل المشروع عن الصالح المنشود .
*نشرت سنة 1995 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر