الظلال الوارفة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الظلال الوارفة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الظلال الوارفة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

من لا ظلّ له يستظل به الآخرون لا تعني حياته أحدا غيره , فحياة المرء تكتسب قيمتها مما تمثله من خير ونفع وأمل مرجو . لهذا قال أحد الفلاسفة الرواقيين " إن الموت هو المصيبة الوحيدة التي لا تمسنا .. ففي حياتنا لا موت ..وحين يجيء لا تكون حياة " يقصد أنها لا تمسنا نحن لكنها تمسُّ من تمثل حياتنا قيمة ورجاء بالنسبة لهم , وكلما اتسعت دائرة من يمسهم غياب الإنسان عن الحياة ارتفعت قيمة حياته وسما معناها . 

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة


أثارت شجوني رسالة " الحلم الغامض " للسيدة التي حرمت من الإنجاب وتفكر في رعاية وليد يتيم لكن زوجها يعترض على ذلك , فقد عانيت من قبل مثل معاناتها لكني واجهتها بطريق آخر أرجو أن أضع تجربتي معه أمام هذه السيدة المعذبة ..فلقد تزوجت منذ 27 سنة وعشت حياة سعيدة هادئة مع زوج محب فاضل وعانيت من الحرمان من الأمومة وخضت رحلة العلاج بكل آمالها المحبطة وآلامها 7 سنوات كاملة ثم كففت عن المحاولة وسلمت أمري لله , وفكرت أن أشبع أمومتي المكتومة عن طريق رعاية طفل من أطفال دور الرعاية اللذين حرموا بغير جريرة من حنان الأسرة ووصموا بعار لا ذنب لهم فيه , وكان كل أملي أن أهب أحدهم بعضا من الحنان الدافق الذي ينوء بحمله قلبي ولا يجد من يتلقاه .. وأن يتردد في بيتي الصامت ذلك الصوت العذب الذي انتظرته طويلا وهو يضحك ويبكي ويصرخ ويطلب ويأمر ويرجو , وهكذا اخترت فعلا طفلا أحسّ به قلبي , وانقلب سكون بيتي إلى حياة وصخب وتعمق الحب والود والتعاطف بيني وبين زوجي أكثر وأكثر , وصمدنا للتحدي أمام ضغوط الأهل والأصدقاء الذين رفضوا الفكرة وحاولوا إثناءنا عنها .. وبعد 4 سنوات من الصمود قررنا أن نرد على هذا الضغط ردا عمليا هو أن نرعى طفلا آخر ليكون أخا للطفل الأول , واخترنا طفلا جديدا اكتشفه قلبي من بين عشرات من

أمثاله وانضم إلى بيتنا وأصبحنا أسرة صغيرة سعيدة متحابة من 4 أفراد تشغلنا هموم جديدة لذيذة كمواعيد التقديم للمدرسة ..والواجبات المنزلية .. وامتحان الشهر وملابس المدرسة .. وملابس الصيف والشتاء .. واختفى الصمت والسكون من بيتنا , ورفرفت طيور السعادة عليه دائما والحمد لله , والآن وأنا أجلس لأكتب إليك هذه الرسالة أصبح ابني الأكبر طالبا في كلية الهندسة وابني الأصغر طالبا في الثانوية العامة وربما تكون نتيجته قد ظهرت قبل أن تصل إليك هذه الرسالة وسوف يكون من الناجحين بإذن الله لأنه مجتهد ومتفوق , وكلاهما والحمد لله مهذب ومتدين , أما اختلاف اسم الأب في بطاقتيهما عن اسم أبيهما العظيم زوجي فهو أمر ثانوي ولا يلاحظه أحد . 

أما هما فلا يعرفان لهما أبا ولا أما سوانا ويملآن علينا الدنيا بهجة وسعادة وأحمد الله أن هداني إلى هذه الفكرة وعوّضني بها عن حرماني من الإنجاب .. وأشكر زوجي الحبيب كل يوم أن وافق عليها وساعدني على اجتياز محنة الحرمان من الإنجاب , وأناشد زوج هذه السيدة المحرومة ألا يقف ضد رغبتها في رعاية طفل صغير تفرغ فيه أمومتها الحبيسة وأن يتأكد أن ذلك سوف يكون بشيرا له بالخير والسعادة لأنه سيحمي طفلا محروما من غوائل الدنيا وسيوفر له سبل الحياة الكريمة السليمة التي تقدمه للمجتمع عضوا نافعا بدلا من أن ينتظره الضياع والفساد .. وشكرا .

  

ولكاتبة هذه الرسالة أقول : 

من لا ظلّ له يستظل به الآخرون لا تعني حياته أحدا غيره , فحياة المرء تكتسب قيمتها مما تمثله من خير ونفع وأمل مرجو . لهذا قال أحد الفلاسفة الرواقيين " إن الموت هو المصيبة الوحيدة التي لا تمسنا .. ففي حياتنا لا موت ..وحين يجيء لا تكون حياة " يقصد أنها لا تمسنا نحن لكنها تمسُّ من تمثل حياتنا قيمة ورجاء بالنسبة لهم , وكلما اتسعت دائرة من يمسهم غياب الإنسان عن الحياة ارتفعت قيمة حياته وسما معناها . 

وأنت يا سيدتي قد اخترت أن يكون لحياتك معنى أكثر مما تمثله لزوجك وأهلك فمددتِ ظلالك الوارفة على طفلين محرومين وسخوت عليهما بحنانك وعطفك وجميل رعايتك ..وقدمت للحياة إضافة جديدة تسهم في ترقيتها . لا غرابة إذن أن تحسي الرضا عن نفسك وفي أن تغرد طيور الحب في بيتك الصغير , ولا عجب في أن تستشعري السعادة في كل شيء حتى في هموم الأبناء التي يضيق بها آخرون , لأن النفس المحبّة للحياة وللآخرين تتلمس السعادة في أوهى الأشياء وتتذوقها وتستطيب مذاقها , والنفس المحبة لذاتها وحدها يصعب عليها أن تتذوق الجمال والسعادة حتى في أثمن الأشياء وأكثرها قيمة .. فشكراً لك على عطائك ..وشكرا لك على ندائك الإنساني لزوج كاتبة رسالة " الحلم الغامض " وأرجو أن يتفكر فيه طويلا .

 رابط رسالة الحلم الغامض

نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1990

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات