الحلم الغامض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الحلم الغامض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الحلم الغامض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الإنسان يحتاج إلى من يعتمدون عليه فى حياتهم كما يحتاجون هم إليه..وكلما إتسعت دائرة من يتطلعون إلينا أحسسنا بأن حياتنا لها قيمة ومعنى .. والشجرة المثمرة لا تشكو الوحدة أبدا لأن هناك دائما من ينتظرون ثمارها ويستظلون بظلها..أما الشجرة الجرداء فمن ذا الذى يستظل بظلها وهى لا ظل لها أصلا.. وأصحاب القلوب الحكيمة ممن حرموا من الإنجاب يعوضون ما حرموا منه برعاية أبناء إخوتهم وأقاربهم ..وأبناء الضعفاء من حولهم ...فإن لم يكتفوا بذلك تحملوا مسئولية رعاية طفل أو أطفال محرومين ...فأفادوا هؤلاء المحرومين وأفادوا أنفسهم وأفادوا الحياة.

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة


أرجو أن تقرأ رسالتي هذه وأن تهتم بالرد عليها لأني أكتبها إليك بدموعي, فأنا سيدة فى السابعة والثلاثين من عمري, وقد بدأت قصتي منذ سنوات طويلة حين كنت طالبة بالمعهد العالي للتمريض,وأحببت مهندسا شابا يكبرني بخمسة عشر عاما .. وارتبطت به نهائيا, وقررت ألا أكون لغيره, لكن لأن حبيبي من هؤلاء الأشخاص العقلاء جدا جدا الذين يفكرون فى كل قرار ألف مرة قبل اتخاذه, فقد تأخر قرار زواجنا عشر سنوات كاملة, وتمت الخطبة وكنت قد تخرجت وسافرت وحيدة للعمل بإحدى الدول العربية 4 سنوات اشتريت خلالها كل ما ترغب فية فتاة للزواج, وعدت لمن اختاره قلبي, ففاجأني بأنه قد أجرى بعض التحليلات وتبين له أنه لا ينجب. ودارت بى الدنيا حين علمت بذلك لأني منذ صغرى شديدة التعلق بالأطفال وشديدة اللهفة عليهم .. وبعد تفكير طويل ومعاناة استسلمت لإرادة الله وتزوجنا وعشنا فى سعادة بالغة .. ووجدت فى حياتي معه كل ما تمنيته فى زوجي ,فهو متدين وعاقل ومهذب, وطوال هذه السنين كان الأمل فى إنجاب طفل يراودني من حين إلى آخر كحلم غامض لا أعرف تفاصيله ولا كيف يمكن أن يتحقق.

 

وقادني هذا الأمل الغامض إلى دفع زوجي لمواصلة إجراء التحليلات له ولى أيضا, على أمل أن يأذن الله بالشفاء ونتوج سعادتنا بطفل جميل .. وفى سبيل هذا الحلم سافرنا إلى أمريكا حيث يقيم أخي, وعرضنا نفسينا على أكبر الأطباء وأجرينا عشرات الفحوص والتحليلات .. فإذا بالأطباء هناك يفاجئونني بحقيقة مذهلة هي أنى لا يمكن أن أنجب_أنا وليس هو كما كان الحال فى البداية_وبأني أعانى مما يطلق عليه سن اليأس المبكر الذى يأتي لمن كانت فى مثل حالتي النادرة فى سن الثلاثين من عمرها .. ويعنى ذلك استحالة الإنجاب إلا بمعجزة من الله سبحانه وتعالى .. فقررت أن أتحمل قدري وأن أشغل نفسي عن التفكير فى الأطفال بالمشاركة فى النشاطات الاجتماعية, فذهبت إلى أكثر من جمعية خيرية وتبرعت بنقود وملابس للأطفال اليتامى .. لكن كل ذلك لم يشبع حنينى إلى أن يكون لى طفل صغير ينادينى"ماما".

 

أما زوجي الحبيب فلأن أباه قد توفى وهو مازال طالبا بالجامعة وترك له 6 أشقاء كان أكبرهم وقتها فى الخامسة عشرة من عمره وأصغرهم جنينا فى بطن أمه, فلقد مارس إحساس الأبوة معهم حتى شبع منه وزهد فيه .. فعرف مشاكل المدارس والمصاريف وكل شئ .. وكان الأب والأخ لأخوته حتى تعلموا وتخرجوا جميعا وأصبح أصغرهم_الذى لم يعرف له منذ ولادته أبا سوى شقيقه الأكبر ونشأ يناديه "بابا"_ مهندسا زراعيا, لهذا فقد أحس زوجي بعد تخرج أصغر إخوته أنه قد أدى رسالته فى رعاية إخوته وأن له أن يهدأ ويستريح .. واتجه إلى الله وأدى فريضة الحج. ومن رحمة ربى أنه لا يفكر فى الأطفال .. بل ويخيل إلى أنه يحمد الله فى أعماقه على أنه لم ينجب.

 

لكن الحلم الغامض لم يفارقني أبدا يا سيدي فظل يرادونى من حين إلى آخر, وبعد بحث جاد علمت أن هناك أماكن للقطاء واليتامى .. وأنى أستطع أن أتبنى طفلا منهم .. فتعلق أملى فى إشباع أمومتي بحضانة طفل من هؤلاء الأطفال. ولأني أعرف أن التبني حرام؟, فقد ذهبت إلى إحدى دور هؤلاء اللقطاء وقابلت المسولين فيها, وعرفت منهم أنى أستطيع أن أحتضن طفلا على أن يظل محتفظا باسمه المستعار المسموح له فى الدار .. ثم اصطحبني المسئول بعد الحديث لرؤيتهم فوقفت مذهولة وأنا أرى حولي كل هذه البراعم الجميلة وكل هذه البراءة التى لا تعرف من أين جاءت ولا أين ستذهب .. فانفجر فى داخلي ينبوع عذب من الحب والحنان واللهفة على هؤلاء الأطفال .. وخرجت وأنا لا أرى الطريق .. وكدت اصطدم بسيارتي أكثر من مرة .. لأني لا أرى الطريق من وراء غلالة الدموع التى تغطى عيني وتنهمر بغزارة على فستاني .. ودخلت بيتي وأنا لا أتخيل لنفسي حياة بغير هؤلاء الأطفال .. وأتخيل ما سوف يحدث من تغيرات فى بيتنا الصامت والحياة التى سوف تدب فيه .. والعناء اللذيذ الذى سوف أتحمله سعيدة فى إعداد طعامه ونظافته وملابسه وألعابه وكيف سأربيه .. وكيف سأعلمه دينه وآداب التعامل وكيف سأشكو من متاعبه لصديقاتي وقلبي يزغرد سرا فرحا بها...فإذا بزوجي الذى يحكم العقل فى كل شئ يرفض الفكرة من أساسها.ويبرر الرفض بأن المتبنى حرام, مع أنى سألتزم بما يقضى به ديني فى ذلك, وبأنه بعد أعوام قليلة سوف يصل إلى سن الستين وسيحتاج إلى كل رعايتي وحبي وحناني, وأن هذا الطفل سوف يأخذني منه مع أنى والله العظيم سيدة بيت ممتازة وأستطيع أن أجمع بين رعاية طفل ورعاية زوجي بغير أن أقصر فى حق شريك حياتي .. أما آخر مبرراته فهو أن هذا الطفل سوف يتعقد حين يكبر ويخرج إلى الحياة ويعرف أنه ليس ابننا.

 



 

ولكاتبه هذه الرسالة أقول:

رعاية طفل محروم من عدم إدعائه أى عدم نسبته إلينا فى الأوراق الرسمية حتى ولو كان لقيطا أمر يدعو إليه الدين ويشجع عليه أما عن حكمة تحريم إدعائه فهى معروفه ولا مجال هنا لإسترجاعها كاملة لكن أبسط أسبابها أن إدعاء غير أبناء الظهور والبطون يجعل منهم محارم لمن ليسوا محارم لهم فى الحقيقة, وحلائل لمن يمكن أن يكونوا محارم لهم فى الحقيقة .. مما يحلّ حرام ويحرم حلالا .. فبنسبته لك مثلا يصبح محرما لك ولشقيقاتك ولشقيقات زوجك, فى حين أنه فى الحقيقة ليس محرما لكن جميعا, وأنت جميعا تحللن له فى أى مرحلة من العمر. وفى نفس الوقت فإن إدعاءه لك يجعله حلالا لمن يمكن أن تكون أخته أو خالته أو عمته إعتمادا على نسبته إليكما وهو فى الواقع محرم عليهن جميعا وهكذا .. فضلا عن أنه يؤدى إلى إختلاط الأنساب وحرمان من لهم حقوق شرعية فى الميراث مما يوغر صدورهم عليه ويحفزهم ضده...إلخ. وتجنبا لكل هذه المحاذير فلقد أمرنا الله بأن ندعوهم لآبائهم .. فإن لم نعلمهم فأولياؤنا وربائبنا وأبناؤنا بالتربية والرعاية والفضل .. ولا أطيل فى هذه النقطة لأنها معلومة ومعروفه .. ويبقى بعد ذلك أن أقول لك أن من حقك أن تشبعي أمومتك فى رعاية طفل محروم بغير نسبته لك ولزوجك, ومن واجب زوجك العاقل المنصف ألا يتجاهل احتياجك الإنساني هذا .. ولعل الأنسب لك هو أن تحتضني طفلة صغيرة تبعث فى حياتكما أنغاما سعيدة جميلة, وتجعل لحياتكما قيمة وهدفا ومعنى ولا شك أن زوجك لن يعارض طويلا فى أن يحقق لك هذه الرغبة الإنسانية خاصة إذا حاول أن يكون بعيد النظر وهو العاقل الأريب دائما.

 

فيرى ماذا يمكن أن تصنعه هذه الطفلة فى حياتكما بعد رحلة السنين وحين تخلدان إلى وحدتكما وتحتاجان إلى من لا تشغله عنكما مشاغل الحياة .. وإلى من يهتم بأمركما وتهتمان بأمره .. ومن يجدد إهتمامكما بالحياة والمستقبل .. فالإنسان يا سيدتي يحتاج دائما إلى من يعتمدون عليه فى حياتهم تماما كما يحتاجون هم إليه .. وكلما اتسعت دائرة من يتطلعون إلينا أحسسنا بأن حياتنا لها قيمة ومعنى, وبأننا نعيش لأكثر من طعامنا وشرابنا .. فلماذا يريد زوجك ألا يكون لحياته معنى سوى عنده وعندك فقط .. ولماذا لا يريد أن يحكم على نفسه بالحبس الانفرادي فى شيخوخته, وفى مقدوره أن ينجو منه بإرادته الخيرة .. إن الشجرة المثمرة لا تشكو الوحدة أبدا لأن هناك دائما من ينتظرون ثمارها ويستظلون بظلها .. أما الشجرة الجرداء فمن ذا الذي يستظل بظلها .. وهى لا ظل لها أصلا! وأصحاب القلوب الحكيمة ممن حرموا من الإنجاب يعوضون ما حرموا منه برعاية أبناء إخوتهم وأقاربهم .. وأبناء الضعفاء من حولهم ..ويهتمون بتوسيع دائرة ظلهم على من حولهم...فإن لم يكتفوا بذلك فعلوا ما تفكرين فيه وتحملوا مسئولية رعاية طفل أو أطفال محرومين .. فأفادوا هؤلاء المحرومين وأفادوا أنفسهم وأفادوا الحياة وهناك من يفضلون التكفل برعاية طفل مع بقائه فى قرية الأطفال أو الملجأ أو الاهتمام بأمره وزيارته فى مواعيد دورية وممارسة مسئولية الأبوة معه فى اتخاذ القرارات التى تحدد مستقبله فى الدراسة والعمل, باعتباره راعية والمسئول عنه, ولا جدال فى أن ما ينتظره طفلا ينشأ فى رعاية أبوين بديلين مثلكما أفضل بكثير مما ينتظره إذا شب فى ملجأ للأيتام, ولا محل للجدال فى هذه النقطة .. ولا شك فى أن إبنة بديلة لكما سوف تلبى لكما معا احتياجات إنسانية عميقة فى الحاضر والمستقبل بإذن الله وتسعدان معا بأحفادكما منها.

 

فكيف إذن يرضى لك زوجك المحب المتدين بأن تتلهفي شوقاً إلى طفل محروم وفى استطاعته واستطاعتك تحقيق هذه الرغبة بغير مخالفة تعاليم ديننا..إنني لا أتصوره يرفض الفكرة فى الحقيقة كما يبدو لك, وإنما أتصوره كعادته فى إطالة التفكير ألف مرة فى كل الأمور .. يقلب الأمر على جميع جوانبه فى داخله قبل أن يعلن قراره بالموافقة, وكل رجائي له ألا يحتاج إلى 10 سنوات أخرى قبل أن يحزم أمره ويعلن قراره كما فعل من قبل فى قرار الزواج .. وشكرا له مقدما!


 

نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1990

شارك في الاعداد / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات