القائمة الرئيسية

الصفحات

أدب الحياة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1985

أدب الحياة  .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1985 

 أدب الحياة  .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1985


إن النقود تذهب وتجئ .. أمـا الزوج المثالي المحب المخلص .. فـلو راح "لا قدر الله" فـلا شئ في الدنيا يعوضه .. لأن الرجل هو الذي يأتي بالنقود .. أمـا النقود فـمهما فعلت لا تستطيع أن تأتي بزوج محب .

عبد الوهاب مطاوع


أعرف أن رسالتي هذه سوف تدهشك بقدر ما أعرف أيضا أنها ستسعدك لأنها رسالة تختلف كثيرا عما يصلك من رسائل وعما أقرأه في بابك عن أصدقائي على الورق الذين أتفاعل معهم حزنا أحيانا وغضبا أحيان أخرى .. ودموعا تنساب مني بغير أن أشعر أحيانا ثالثة .

وكثيرا ما أفكر فى الكتابة إليك ثم تشغلني مشاغل الحياة .. إلا أن رسالة واحدة من هذه الرسائل دفعتني دفعا لأن أكتب وأرد عليها .. وهى الرسالة التى نشرتها بعنوان بئر الحرمان والتي تشكو فيها سيدة من قلة دخل زوجها حتى أنها كرهته مع أنه إنسان مثالي كما تقول وتعجبت وكدت أقول لها أتكرهين من أحببت من أجل نقود تذهب وتجئ؟ .

إنني على ثقة أن هناك أكثر من زوجة قالت بعد أن قرأت رسالتها أعطني زوجك المثالي المحب الحنون .. وخذي مال الدنيا كله .. وأستأذنك فى أن أرد عليها نيابة عنهن فأقول لها:

 

 إنني سيدة في الخامسة والثلاثين من عمري من أسرة كبيرة يشغل معظم أفرادها مراكز كبيرة ووصل بعضهم إلى كرسي الوزارة , وحين كنت فى السادسة عشرة من عمري أرادت أمي أن تزوجني لرجل رأته مع أبى وأعجبتها وسامته وشخصيته .. وحاولت إقناعي به بكل الطرق الممكنة فزادني ذلك إصرارا على الرفض لأني كنت متفوقة فى دراستي وراغبة فى استكمالها لكن أمي مضت فى الإجراءات .. وجاء هو مع أمه لزيارتنا زيارة تمهيدية قبل الخطبة .. فرفضت أن أدخل الصالون لأصافحه .. وأصررت على ذلك وأمي تحاول إقناعي إلى أن استجبت لها وقررت فيما بيني وبين نفسي أن أدخل إلى الصالون معتزمة أن أجعله يخرج من بيتنا ولا يفكر فى العودة إليه.

ودخلت الصالون لرؤيته .. ولا أعرف ماذا جرى لى حتى الآن ودخلت وأنا إنسانة وغادرت الصالون بعد عدة دقائق من الحديث معه وأنا إنسانة أخرى .. أن أمي تقول لي إن ما حدث هو النصيب .. وأنا أقول لا.. بل هو الحب.

 

فقد رأيت رجلا بكل ما تحمله الكلمة من معان .. ثقافة .. لباقة .. وأفقا واسعا .. ووسامة وشخصية .. وأصلا طيبا عريقا .. فأحببته من الدقائق الأولى وأحبني وتمت خطبتنا.. ونسيت من أجله طموحي ودراستي وكل الدنيا وعشت له وبه.

وعندما تزوجنا كان مرتبه 22جنيها وكان يملك 9 أفدنة وكانت وقتها ذات شأن والمستقبل أمامه مشرق , فعشنا بهذا المرتب الصغير أجمل أيام عمرنا .. ورزقنا الله بطفلتين أية فى الجمال ولم يزد المرتب كثيرا ليواجه متطلبات الحياة الجديدة .. وإيراد الأرض محدود للغاية فقرر زوجي أن يحقق أمل حياته وأن يكمل تعليمه ما بعد العالي على نفقته فباع بضعة أفدنة وسافر بثمنها إلى أوروبا ليكمل تعليمه, وبعد عامين من سفره سافرنا إليه أنا وبناتي . فعشنا معا أجمل سنين العمر ورأينا ما لم نره واستمتعنا بالحياة هناك مدة أربع سنوات كاملة كانت كلها رحلة من الهناء رغم قلة المورد .. وعدنا بعد كفاح مرير استطاع خلاله رجلي الحبيب أن يحقق ما يتمناه وأن يحصل على الدكتوراه التي اغترب من أجلها .. لكننا وجدنا الدنيا بعد عودتنا مختلفة عنها حين سافرنا . واكتشف زوجي أنه فقد وظيفته لأن المؤسسة التي كان يعمل بها قد حلت وأنه تحول إلى موظف بمصلحة حكومية لا علاقة لها بدراسته وشهادته العلمية الحكومية لأنه لم يكن فى الخدمة فى نهاية عام 1974 كما تنص اللوائح .. وكنت قد أنجبت بنتا أخرى وأصبح عدد أفراد أسرتي 5 وكل دخلنا من الوظيفة هو 95 جنيها بالإضافة إلى 50 جنيها من إيجار الأرض المتبقية , أي أنه تقريبا نفس دخل كاتبة رسالة بئر الحرمان التي كرهت زوجها بسبب قلة الدخل علما بأنها تعيش فى قرية صغيرة.. ونحن نعيش فى عاصمة إحدى المحافظات الأخرى .

 

فهل أنا ناقمة ثائرة مثل هذه الأخت ؟ أبدا والله فأنا والحمد لله سعيدة لأن في حياتي أشياء أخرى كثيرة أجمل من النقود.. فعندي زوج بالدنيا كلها ويجمعنا معا الحب والألفة والمودة وأشياء أخرى خاصة بنا  صغيرة وجميلة لا تعوضني عنها نقود الدنيا وعندي ثلاث بنات هن أية فى الجمال كبراهن على أبواب الجامعة وكل فرد منا يحب الأخر ويقدره وقد أفاء الله علينا من نعمه الكثير.. فنحن والحمد لله بصحة جيدة.. وبيتنا "مستور" دائما بستر إلهي .. له العجب فمعظم أفراد أسرتي أثرياء وإخوتي كلهم فى مراكز مرموقة ويحبونني ويحبون زوجي ويحترمونه ولم يحدث خلال 20 سنة أن غضب أحدهم منى أو من زوجي .. بل يلجأون إلينا دائما فى حل مشاكلهم مع بعضهم البعض فنا دائما واسطة خير بينهم ودائما يتم الصلح على أيدينا .. وبيتنا والحمد لله رغم أنه أقل البيوت دخلا بالنسبة لبيوتهم هو قبلتهم التى يشعرون بالراحة فيه .. وما من طعام أصنعه بيدي حتى يتهافتوا عليه بسعادة رغم بساطته .. و"ستره عجب " كما يقولون فكثيرا ما تحدث فى حياتنا أشياء صغيرة تملؤنا سعادة وحبا , فمثلا قد يكون رصيدنا فى الثلاجة صفرا وفجأة يأتينا الخير من حيث لا ندري .. وبمجرد أن تمتلئ الثلاجة يأتي الضيوف فنقوم بالواجب وزيادة وفرحة الدنيا لا تسعنا وأنا بأقل الأشياء أصنع سفرة رائعة.. وأجيد صنع كل شئ من الخبز الأفرنجى إلى التورتات وكل أنواع الحلوى والبسكويت إلى المحشى والكشرى أبو دقة , وكل فرد فى أسرتي وأخوتي يحبون طعامي ويستطيبونه .. وأنا من النوع الذى يصنع من الفسيخ شربات وهكذا سيدات كثيرات يدبرن أمورهن مع  الحياة بلا أنين ولا شكوى.

 


كما أريد أن أقول لها حاولي أن تجيدي صنع شئ بيديك وأن تستخدمي قدرتك فى تجميل حياتك إن لم يكن بهدف الاتجار فعلى الأقل للترويح عن نفسك وإضفاء لمسات عليها تخفف من جفاء الحياة .. واقتربي من زوجك وكوني رقيقة معه.. وتمسكي به فهو زوج مثالي فى زمن عز فيه الرجال , وأخيرا أقول لها ولك ولكل أصدقائي على الورق من قراء بريد الجمعة: أجمل تحياتي .. ولى طلب واحد فقط منكم أن " تمسكوا الخشب " وأنتم تقرأون رسالتي وأن تدعوا لى جميعا من قلوبكم أن يديم الله علينا نعمته.. وأن يحفظ لى زوجي حتى أخر لحظة من عمري .. فليس لدى ما أخشاه سوى أن يفرق بيننا هادم اللذات ومفرق الجماعات .. ولست أرجوا من دنياي سوى ..أعز الحبايب.. زوجي .. والسلام عليكم ورحمة الله.

 

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 

أحسست بعد قراءة هذه الرسالة أني غير قادر على التعليق عليها. إذ ماذا يمكن أن يخط قلمي أرق من هذه الكلمات الصادقة.. وأي نظرة أعمق للحياة يمكن أن أتوصل إليها بأفضل مما فعلت كاتبة هذه الرسالة.

لقد قرأت رسالتك يا سيدتي فتذكرت على الفور ما قال يوما الدكتور أحمد أمين من أن الأدب الراقي هو الذى تحس بعد قراءته أنك قد صرت إنسانا مختلفا عنك قبل أن تقرأه . وصدقيني أنى أحسست بسمو غريب داخلي بعد أن قرأت رسالتك هذه وأنى وجدت فيها إجابات لكثير من التساؤلات الحائرة لدى ووجدت فيها أيضا بعض السلوى وبعض العزاء. فرسالتك يا سيدتى قطعة من "أدب الحياة" الرفيع الذى لا يحتاج إلى شهادات جامعية لنتعلمه .. لأنه أدب الصدق مع النفس .. والفهم العميق لحقائق الحياة الأساسية ..وأرجو أن يصدقني قراء بريد الجمعة أنني لم أعالج صياغة هذه الرسالة بأكثر من إخفاء بعض ملامح شخصية كاتبتها بناء على رغبتها وإعادة ترتيب بعض أجزائها وأنى لم أبتدع هذه الصور الشاعرية الفريدة عن الأذن التى بلا "حلق" والعنق الذى بلا "قلادة" الخ..

وهيهات لى أن أفعل لو أردت  إنها صور أملتها عاطفة صادقة تغمر حياتها كلها بالحب الصادق ولا تبدعها سوى مثل هذه المشاعر..صحيح يا سيدتي كن جميلا ترى الوجود جميلا!!

صحيح أيضا أنه فى الحياة أشياء عديدة تستحق أن نحياها من أجلها وليس من بينها بكل تأكيد المال الذى لا يشترى حبا .. ولا يشفى مرضا ولا يعيد غائبا من غيبته..اذ كيف يمكن أن يرغم المال أحدا على أن يفجر ينابيع الحب بداخله بهذا الصدق.. وبهذه الفطرة العجيبة.

 

إنني أشكرك على رسالتك القيمة هذه التى أطلت على فبددت من نفسي وحشة ألمت بها وأنا أفتش بين مئات الرسائل لقراء بريد الجمعة عن رسالة تضيف إلى الإنسان خبرة جديدة تعينه على مواجهة الحياة .. أو تجربة إنسانية تعمق فهمه للدنيا فلم أجد بكل أسف..وإنما وجدت عشرات من الرسائل تحمل هموما عادية ومئات أخرى تحمل هموما غير حقيقية تذكرني دائما بقول إيليا أبو ماضي:

أيها الشاكى وما بك داء                    كيف تبدو إذا غدوت عليلا؟

كما وجدت بينها أيضا عشرات الرسائل التى تذكرني دائما بعظمة الفقيه إبراهيم ابن اسحق الحربي الذي عاش فى القرن الثالث الهجري وروى عنه الرواة "أنه عاش يعانى من صداع بأحد جانبي رأسه 45عاما لم يخبر به أحدا.. وأنه عاش بفرد عين 10 سنوات فلم يخبر بها أحدا" وأنه كان يقول أن الرجل الحق هو من أدخل همه على نفسه.. ولم يدخله على أسرته.

فبعض الناس يؤمنون بعكس ما أمن به إبراهيم ابن اسحق على طول الخط.

وبعضهم لا يرى فى الحياة إلا كل سواد.. وتغفل عينيه دائما عن رؤية جوانب حياته الجديرة بالرضا والسعادة.. ولا تقع إلا على ما ينقصها فقط من الجوانب الأخرى..

ودرس رسالتك الذى تعلمته هو أن ثروة الحياة الحقيقية هى فى الصحة وسلامة الأبناء وهذه العاطفة السامية الصادقة التى تربط بين الشريكين فتطبع كل جوانب حياتهما بالحب والسعادة وتفيض حبا للآخرين كما يفيض ماء النهر على جانبيه , فيخفف عن المرء هجير الحياة ويقنعه بأنه يملك الدنيا ولو لم يكن يملك منها شيئا .

ليحفظ الله عليك بناتك الجميلات .. وزوجك الرائع .. وحياتك الراضية السعيدة.. وأرجو أن يكون صدى طرقات يدى على خشب المكتب قد بلغ أسماعك طوال قراءتى الرسالة.. التى أدهشتني فعلا كما توقعت .. وأسعدتني أيضا .. ولكن أكثر مما توقعت!!

  رابط رسالة بئر الحرمان

رابط رسالة الورقة الصفراء تعقيبا من أحد القراء بعد نشرها ب 10 سنوات

  نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1985

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود