بئر الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
أنا مدرسة بإحدى قرى محافظة
الغربية, حاصلة على مؤهل عالِ وتزوجت من زميل لي بعد قصة حب مثالية كلها إخلاص
واحترام .. وقد تزوجنا ومجموع دخلنا 60 جنيهاً هو 30جنيهاً وأنا 30, وعشنا فترة
عسل استمرت 3 شهور حتى زارنا أهل زوجي في القرية التي نعيش فيها, واكتشفت أننا مطالبون
برد تكاليف الزواج التي اقترضها زوجي وتمثل ثمن الجهاز.. فبدأنا رحلة الحرمان
باقتطاع 15جنيهاً كل شهر من دخلنا وزاد الأمر سوءاً أننا كنا ندفع 15جنيهاً كل شهر
إيجاراً للشقة التي نعيش فيها, فجاءت لجنة تقدير الإيجارات سامحها الله وقامت برفع
الإيجار إلى 25 جنيهاً.
ولك أن تتخيل حياة عروسين
جامعيين في أجمل فترات العمر بعشرين جنيهاً كل شهر.
كانت حياة بلا طعام .. ولا
أي ترفيه .. لكننا عشناها ولم نفقد حبنا ولا أملنا في المستقبل ثم رزقت بطفلي ..
وزادت مرتباتنا حتى بلغ 140جنيهاً, لكن الحياة نفسها كانت قد التهبت ولم تعد تصلح
معها أيه مرتبات عادية كمرتباتنا .. ففجأة اكتشفت أني قد أصبحت أفقر إخوتي بلا
استثناء, لأنهم جميعاً خرجوا للعمل في الخارج ولم تتح لي هذه الفرصة, هكذا انقسم
الإخوة إلى فقراء وأثرياء وأصبح كل إنسان مشغولاً بنفسه, وإن تذكرنا أحد ببدله
لطفلي أحفظها للعيد.. أو بعض الملابس القديمة لاستعمال الطفل في البيت .. والحياة
جافة يا سيدي .. وكل يوم كاليوم السابق ولا أمل في أي تقدم, والمشكلة ليست فقط في
ذلك لكن المشكلة الأخطر هي أنني أصبحت فجأة أكره زوجي بلا أي سبب سوى لأنه فقير
"ولأننا فقراء" لقد ضغطت الحياة على أعصابي فتحول الحب إلى كراهية ..
وأصبحت أنظر إليه وأتساءل كيف أصبحت لا أطيق هذا الرجل المثالي الذي أحببته ذات
يوم؟.. وكيف أصبحت أشعر معه بالبؤس والفقر؟ .. إنني لا أحتمل شبح الكراهية وأحاول
أن أشعر نفسي بأي نوع من الرضا أو السعادة فلا أستطيع وإنني أتساءل .. هل يمكن
فعلاً أن يتبخر كل هذا الحب بسبب الماديات؟
إنني نحيفة جدا وعصبية
للغاية وعمري 32سنه وأحس أني سأبلغ الخمسين على هذه الحال من الحرمان فماذا أفعل
مع نفسي, إن زوجي يقول لي ثقي في الله وأن الأمل في الله كبير.. وهو غالباً نفس ما
ستقوله لي في ردك .. وأنا أقول لك _مقدماً_ونعم بالله لكني لا أكتب لك من أجل ذلك
.. وإنما أكتب لك لكي تنشر قصتي لتعرف كل مقبله على الحب والزواج أن الحب وحده لا
يقيم بيتاً .. ولا يربي أطفالاً.. ولكي تفكر كل فتاة قبل أن تقرر أن تتزوج زميلاً
لها لا موارد له ولا إمكانيات سوى راتبه.. فتجربتي خير دليل على أن الحب لن يعيش
إذا أصطدم بالماديات .. والسلام.
ولكاتبة هــذه الرسالة أقـــول:
إن مشكلتك يا سيدتي ليست في
أنك أنت وزوجك وطفل صغير يعيشون في قرية صغيرة بدخل قدره 140جنيهاً , لكن مشكلتك
الحقيقة ومن كلماتك أنت هي أنك "نحيفة جدا عصبية للغاية" أي أن مشكلتك
هي أنك ضيقة الصدر بكل شئ .. سوداوية النظرة وشديدة الحسرة لأن إخوتك قد أصبحوا
"أثرياء" وأنت فقيرة ولأنك شديدة الانشغال بحالهم وبمقارنة حالك بهم ..
لذلك فأنت تأكلين نفسك بدلاً من أن تأكلي طعامك , تماماً كما تبدأ المعدة في التهام
نفسها إذا طال منها الجوع, وأنت تزدادين نحافة وعصبية مع كل يوم.. وسيستمر حالك
هكذا حتى لو زاد دخلك وتحسنت أحوالك, لأن أجهزة استقبالك الداخلية للأشياء تحتاج
إلي تغيير قبل كل شئ ولن ترضي أبداً .. إلا إذا تغيرت أنت من الداخل أولاً, فعندها
فقط سوف تسترجعين حبك لزوجك الصابر على ما ابتلاه به الزمن..سوف تسترجعين إحساسك
بطعم الحياة .. فالسعادة إحساس داخلي قبل أي شئ آخر.
أما رسالتك إلى بنات جنسك
فإني أترك تقييمها لهن لكني أقول لك إنك بذلك تحكمين حكماً جائراً بأن السعادة حكر
على الأثرياء وحدهم وأنه ليس من حق البسطاء أن يتزوجوا وأن يحبوا وأن يستشعروا دفء
المشاركة والحياة الزوجية .. وفي ذلك أنت مخطئة إلى النهاية يا سيدتي , فالمال رغم
أهميته في تيسير الحياة ليس كافياً وحده لصنع السعادة لأنه قد يشترى أشياء كثيرة
لكنه لا يستطيع أن يشتري الحب الصادق , ولا الإخلاص ولا الرضا ولا الحنان. ناهيك
عن الصحة وراحة البال "وبئر الحرمان" الحقيقة هي أن يخسر الإنسان سلامة
النفس , وأن يعايش الكراهية حتى تجاه أقرب الناس إليه وتجاه البشر, وليس معنى ذلك
أني أدعوك للاقتناع بحالك الذي يرضي كثيرين غيرك وإنما أدعوك للخروج من هذا الموقف
السوداوي تجاه الدنيا .. إلى موقف الحركة والسعي لزيادة دخلك بأي نشاط إضافي, ومن
موقف البغض لكل شئ .. إلى تلمس أشياء عديدة تستحق أن نحبها وأن نرضى عنها مهما
كانت أوضاعنا, ومن مواقف الكراهية لزوجك لمجرد أنه فقير .. إلى استعادة حبك له
لأنه طيب ومثالي كما تعترفين أنت نفسك أيتها "الجاحدة".
كما أدعوك للوقوف إلى جانبه
وهو يبني حياته ومشاركته هذا البناء, وكل إنسان يبدأ صغيراً ثم يكبر وهذه
سنة الحياة ولا مبدل لها..
وهكذا فعل إخوتك أنفسهم
الذين تنفسين عليهم ما تعتبرينه ثراء وما أدراك أنهم قد حققوا السعادة .. أو أن
الدنيا قد صفت لهم من كل الآلام؟ .. لقد كنت أتصور أنك ستطالبين بزيادة المرتبات
وفتح أبواب الأمل أمام الشباب .. ومطاردة الفساد الذي يسمح برفع إيجار شقتك
البسيطة بدلاً من أن يقره, أما أن تطالبي الفتيات جميعاً بأن يقاطعن الشباب وألا
يتزوجن إلا من أصحاب المال .. لو كانوا من أبناء الأفاعي فهذا هو التناقض الغريب
حقاً.
وبهذه المناسبة فلقد قرأت هذا الأسبوع دعاء لأحد الحكماء يقول فيه: يا رب امنحني القدرة على تحمل ما لا يمكن تغييره والشجاعة لتغيير ما ينبغي تغييره..والحكمة للتفريق بينهما.. ألهمك الله "القدرة" و"الشجاعة" و"الحكمة" ..مع تحياتي.
رابط رسالة أدب الحياة تعقيبا على هذه الرسالة
شارك في الاعداد / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر