الشــهادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
لا شئ يثير ضيقى بالحياة أكثر من أن يتواجه شركاء الحياة أمام القضاء لإقرار العدل فيما بينهم، لأنى أؤمن بأن القضاء إنما قد جعل للفصل بين الغرباء وليس بين من تحابوا ذات يوم وتساكنوا وتشاركوا الحياة وتمازج عرقهم ودمهم فى سابق الأيام، فإن تحامق طرف وأصر على عناده فالأكرم للطرف الآخر أن يتنازل عن بعض حقه عن أن ينازع شريك حياته أمام الغرباء .
عبد الوهاب مطاوع
لظروف عائلية قاهرة .. اتجهت للتعليم الفني .. فحصلت على دبلوم التجارة منذ 18 عاما والتحقت بوظيفة في إحدى الوزارات لأعول نفسي وإخوتي الخمسة حتى تخرجوا جميعا .. فاستأنفت دراستي من جديد, وحصلت على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة والتهمت الكتب التهاما, فتخرجت في إحدى الكليات النظرية بتقدير عام جيد جدا .. والتحقت بالدراسات العليا للحصول على الماجستير.
وطوال سنوات الجامعة لم ألتفت لأي فتاة من زميلاتي, لأن شاغلي الوحيد كان النجاح والتفوق في الدراسة وفى العمل .. ثم انتبهت إليها فجأة وخفق قلبي بشدة حين رأيتها لأول مرة, وتعرفت عليها وتبادلنا الحديث فأحسست في كلماتها إعجابا بى وبتفوقي, فارتحت إليها ووجدت نفسي أحكى لها كل شئ عن حياتي, فإذا بها تصارحني بأنها أحبتني منذ اللحظة التي رأتني فيها بالجامعة, وأحسست بصدقها وأعربت لها عن رغبتي في التقدم لأسرتها .. وجاءتني بعد أيام لتبلغني بأن أباها يرحب باستقبالي وذهبت إليه .. وعرفت من حديثه أن له قصة كفاح مماثلة لقصتي, فارتحت إلى ذلك لأنه سيكون أكثر الناس تقديرا لكفاحي .. لكني فوجئت به يغالي في مطالبه التي أعجز معها عن تلبيتها, فاعتذرت له بخجل, وانصرفت أسفا على ضياع الحب الذي جاء بعد كل هذا الكفاح.
ومرت أيام كئيبة ثم فوجئت ذات يوم بفتاتي تزورني في بيت أسرتي وتؤكد لي تمسكها بى وتقسم بين يدي أنها لن تكون لغيري .. فدبت الحياة في روحي من جديد .. وقررت أن أغالب ظروفي وأتحدى المستحيل لكي ألبي مطالب أبيها, فأجلت الدراسات العليا وجمعت بين ثلاثة أعمال متناقضة لكي أجمع أكبر قدر ممكن من المال لأحقق به أحلامي .. فكنت أعمل في الوظيفة الحكومية من الساعة السابعة صباحا إلى الواحدة ظهراً, ثم أعمل مدرسا بمدرسة خاصة من الثانية حتى السابعة مساء, ثم أعمل عملا ثالثا من الثامنة مساء حتى منتصف الليل, ثم أدخل فراشي في الواحدة صباحا فأنام بلا حراك من شدة الإجهاد حتى السادسة صباحا. وهكذا كل يوم لمدة عامين كاملين حتى جمعت المبلغ وتمت الخطبة بالشكل الذي يرضى صهري.
وفى اليوم التالي للخطبة كنت قائما أصلي .. فقرأت قوله تعالى" ولسوف يعطيك ربك فترضى" فركعت وفى القيام من الركوع دعوت ربي أن يعطيني لأرضى وأرضي من حولي .. وقبل ربي دعوة عبده الصابر, فلم تمض أسابيع حتى كنت قد حصلت أنا وخطيبتي على عقد عمل كمدرسين فى إحدى الدول .. ووافق أبوها أن نعقد قراننا لنسافر إليها كزوجين .. وتزوجنا وسافرنا وعشنا أجمل أيام حياتنا .. وحملت زوجتي فى طفلي الأول, واستدعيت أمها لترعاها ورحبت بها كثيراً, لأني كنت أحبها, وأنجبنا طفلا جميلا, ثم بدأت المشاكل تعرف طريقها إلينا عندما بدأت حماتي تتدخل في حياتنا وتحرض زوجتي علي وعلى عدم المبيت معي في غرفة واحدة وتحملت كل ذلك إلى أن عدنا فى الأجازة الصيفية .. وكنت قد اشتريت شقة تمليك مناسبة واستبدلتها بأحسن منها حين توافرت لى الإمكانيات .. وانتهت الأجازة فرفضت أن نصحب الأم معنا بعد أن عانيت من تدخلها فى حياتنا الكثير .
وسافرت وحدي وتركت زوجتي فى القاهرة لتضع طفلها الثاني, فإذا بزوجتي تعود إلي بغير طفلي الأول بحجة أنها لا تستطيع رعاية الطفلين معا, ولأن الطفل الأول متعلق بأمها, وذلك رغم إرادتي, ومضت الأيام رغم ذلك, وألحت حماتي على زوجتي لكي تستقيل من عملها قبل أن ننهي مدة العقد ونعود معا, فاستقالت وعدنا لمصر, فرفض صهري أن يؤثث الشقة مع أنه قبض المهر الذي حدده كاملا, وحين ناقشته فى ذلك عيرني بكفاحي وبترددي عليه طالبا يد ابنته .. وأكد لى أن المهر حق للزوجة بغير أثاث.
وتعقدت الأمور بيننا, فمنعني من رؤية زوجتي وأبنائي .. وحاولت أن أوسط أحدا بيني وبينهم فرفض الجميع .. فاستجبت لنصيحة أحد أقاربه وأرسلت إلى زوجتي إنذارا _مجرد إنذار_ بالدخول فى طاعتي .. ففوجئت بثلاثة إنذارات عن ثلاث دعاوى قضائية ضدي مازالت منظورة بالمحاكم منذ عام 1987 حتى الآن .. وخلال هذه الفترة الطويلة لم أر أبنائي ولم يسمحوا لى بمقابلة زوجتي, وفعلت المستحيل لأرى أبنائي أو التقى بزوجتي لأذكرها بأيامنا الجميلة وحبنا القديم الذى كنت أهلك وأنا أعمل 15 ساعة كل يوم لأتَوجه بالزواج فحالوا بيني وبينها .. وحصلت على حكم برؤية أولادي, وتوجهت إلى بيت صهري لأراهم لأول مرة بعد عامين ويجئ الطفلان وأتقدم إليهما بلهفة الأب المحروم لأحتضنهما فيفزعان مني ويصرخان فى وجهي ويفران خائفين منى إلى أمها المختفية وراء باب مغلق عزوفا عن أن تراني .. وأحس بصدمة العمر كله وبوخزه ألم شديدة فى صدري .. وأصيح من ألمي فى وجه صهري :حسبي الله ونعم الوكيل فيك .. حسبي الله ونعم الوكيل .. وهنا فقط تخرج زوجتي من مكمنها غاضبة فتقول لى: كيف تجرؤ على سب أبي .. وأفهمها بهدوء أن ما قلت ليس سبا وأنه ورد عن السيدة عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه شئ أمسك بلحيته وقال حسبي الله ونعم الوكيل .. وانتهى اللقاء بغير طائل , وانتهت أجازتي وسافرت حزينا إلى مقر عملي واصطحبت معي أمي وشقيقتي لتؤنسا وحدتي وتخففا عنى سوء حياتي النفسية.
ولـــكــاتـــب هــــذه الـــرســـالــة أقـــــول:
أنني لو استعرت بلاغة الشعراء ونسجت أرق الكلمات مخاطبا زوجتك, فلا يجوز لكلماتي أن تؤثر فى قلبها كما ينبغي أن تفعل كلماتك الدامية هذه فى قلبها وعقلها على السواء, إذ ماذا يمكن أن يمس القلب أكثر من هذا التضرع الذى تتوجه به, والذى قد ينكره عليك آخرون .. وماذا يمكن أن يثير التأمل الحزين أكثر من هذا الحرص الحكيم على مستقبل طفلين لا ذنب لهما فى نوازع النفس البشرية عند الأبوين ولا فى خلافاتهما .. أو أكثر من هذا التحسب الحكيم من أن يجئ يوم_وسوف يجئ بالضرورة_ يلوم فيه الأبناء أبويهما أن مزقوهم بينهم ولم يوفروا لهم حياة طبيعية آمنة كحياة الآخرين من أمثالهم. لقد قلت من قبل أن أى مبررات يقدمها الأبوان لأبنائهم عن هدمهم لأسرهم, هى لغة غير مفهومة عند الأبناء الذين لا يتصورون سببا فى الحياة لحرمانهم من حياتهم الطبيعية بين الأبوين, لأنهم لا يفهمون اعتبارات السعادة الخاصة أو افتقاد الحب التى يبرر بها البعض تشريدهم.
ولا شئ يثير ضيقي بالحياة أكثر من أن يتواجه شركاء الحياة أمام القضاء لإقرار العدل بينهما. ولعلى قد ترددت فى نشر رسالتك لهذا السبب بالذات, لأني أؤمن بأن القضاء إنما قد جعل للفصل بين الغرباء وليس بين من تحابوا ذات يوم وتساكنوا وتشاركوا الحياة وتمازج عرقهم ودمهم فى سابق الأيام, فإذا تحامق طرف وأصر على عناده فالأكرم للطرف الآخر أن يتنازل عن بعض حقه عن أن ينازع شريك حياته أمام الغرباء, فإن فسدت الحياة وعز إصلاح ما فسد, فتسريح بإحسان أفضل كثيراً من الوقوف فى ساحات المحاكم .. ولاشك أنك تسرعت بالبدء فى المنازعة بالطريق القانوني, فكان الرد بثلاث قضايا ومنازعات مؤسفة, رأيت حظها من رسالتك احتراما للقيم الأسرية السامية, لكنى لن أطيل الحديث فى هذه النقطة لأننا فى مجال التوفيق ولسنا فى مجال الحساب .. وكلمتي لزوجتك هى أن تقرأ رسالتك مرات ومرات .. وأن تتذكر أن حساب الأبناء يوم الحساب لا يقتصر على الآباء وحدهم وإنما يمتد إلى الأمهات, ولعله فى بعض الأحيان يكون أشد قسوة معهن لأنهم ينتظرون منهن دائما التضحية من أجلهم بأكثر مما ينتظرونها من الآباء بحكم طبيعة الأم المعطاءة والمضحية .
فلتفكري طويلا يا سيدتي فى معنى أن يقبل رجل على نفسه أن يوجه لزوجته النداء المؤلم على الملأ, وأن يطلب شهادتهم يوم يكون الحساب, ولتحاولي أن تتفهمي مغزاه وتعرفي أننا فى النهاية ومهما بلغ شأننا أعزاء فقط على من يرغبون فينا بصدق .. ولكننا لا نساوى الكثير عند غيرهم .. فلنحرص إذن على من أحبونا ورغبوا فينا ولو نالنا منهم بعض الضرر, فالحياة لا تخلو من معاناة, لكن معاناتنا مع من يتمسك بنا أهون كثيراً من معاناتنا مع من لا يعينه قربنا أو ابتعادنا عنه .. فليكن الصفح الجميل من الطرفين معا ولتتوقفا معا عن التنازع أمام القضاء ولتعودا معا إلى روح الدين الذى نظم لنا حتى طريقة تناول الخلافات الزوجية, فأرضى بحكم من أهله وحكم من أهلها إن عجزنا نحن عن حل مشاكلنا بأنفسنا والسلام
رابط رسالة السهم لأخير مرسلة من كاتب الرسالة بعد سنة
نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1989
شارك في الاعداد / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر