أحلام الحقيقة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996
حين يخاف الإنسان يخطئ النظر والتصرف، وتقدير الأمور تقديرها الصحيح .. وحين يتخلص من الخوف فإنه يرى ما لم يكن أن يراه من قبل ولا تخطئ سهامه أهدافها .. لأن اليد التي تطلقها قد تخلصت من ارتجافها وارتعاشها.
عبد الوهاب مطاوع
أنا يا سيدي كاتب رسالة أحلام المدينة، التي تفضلت
بنشرها في سبتمبر الماضي وكنت اروي لك فيها بصدق ما وجدت نفسي فيه من حيرة شديدة بين زوجتي الريفية
التي تزوجتها منذ سنوات بمزرعتي على
مشارف المدينة التي أعيش بها وترعی مصالحي بالمزرعة بإخلاص وتحسن عشرتي. وان خلت
حياتنا من الحوار. لأنني لم اعتبرها منذ تزوجتها سوي مرحلة مؤقتة من حياتي .. أستطيع
التخلص منها بلا خسائر في أي وقت، وبين أحلام المدينة التي راودتني في أن أتزوج بفتاة من فتياتها تلائمني في المستوى الاجتماعي والثقافي وتظهر معي في مجتمعاتها فلا أخجل منها أو
من سلوكياتها الساذجة .
وتقدمت لخطبة فتاة بالفعل، وأجلت لسبب غير مفهوم لي
حتى الآن التخلص من زوجة المزرعة حنی مضي على خطبتي حوالي عام فإذا بي أفاجأ بها
وقد حملت .. ودب جنيني في أحشائها .. فاشعر تجاهها بالعطف والتردد في إنهاء علاقتها بي ..وأتمزق بالحيرة بينها وبين فتاة المدينة التي تنتظرني
لإتمام الزواج منها. ولقد رددت على رسالتي
ونصحتني بالا أتخلى عن زوجتي الطيبة الوديعة !
التي تحبني وتخدمني وترعی مصالحي بإخلاص : مادامت حملت ثمرة زواجنا.. وان أتخلى عن أحلام المدينة , وأحاول تعويض ما افتقده
في زوجتي الريفية بتقريبها مني.. وتعليمها
السلوكيات الملائمة لزوجة شاب مثلي، بعد
أن لم يعد هناك مجال للاختيار بحملها مني، ومادمت لا أشكو منها شيئا إلا أنها ليست
من فتيات المدينة اللامعة، بل واعترف ولها على العكس من ذلك بحبها وحسن معاشرتها وحرصها
على طاعتي ورعايتي.
وأود
الآن يا سيدي أن اروي لك الفصل الآخر من قصتي بعد نشر الرسالة. فلقد كنت قبل نشرها
منهمكا في العمل في المزرعة ووجدتني اعفي زوجتي من بعض الأعمال الشاقة التي كانت
تحرص على القيام بها دائما كما وجدتني أيضا اهتم بها وبأهلها ربما للمرة الأولى منذ
تزوجتها، وإن كانت طريقة التعامل بيننا لم تتغير عما كانت عليه من قبل حيث لا
نتبادل الحديث إلا في شؤون المزرعة والعمل والبيت والحياة وحيث لا أجد منها إلا
الطاعة والاستجابة لكل ما اطلبه منها .. وفي خلال ذلك نشرت الرسالة حاملة كل
الأسرار التي حرصت على تكتمها ونجحت لي إخفائها بمهارة شديدة عن كل المحيطين بي
طوال خمس سنوات .. فإذا بی بدلا من أن انزعج لكشف المستور وقرب انكشاف السر
الكبير، أجد نفسي فجأة اشعر بارتياح غريب وكأنني قد تخلصت من عبء يثقل كاهلي.
وفي اليوم
التالي رن جرس التليفون في سكني فإذا بخطيبتي تبلغني برغبتها في أن تزورني الآن مع
بعض أهلها في شقتي، ولم أملك إلا الترحيب، وجاءت خطيبتي مع أهلها بعد قليل وبدأت الزيارة في هدوء كالهدوء
الذي يسبق العاصفة.
ثم تحدث
شقيقها معي بصراحة وهو يلوح لي بأهرام الجمعة في يده بأنهم يشكون في
تكون هذه القصة المنشورة هي قصتي. فإذا أردت أن انفی ذلك. فالسبيل الوحيد لإقناعهم
بغير ذلك هو أن انهض معهم الآن لزيارة المزرعة واستجلاء الحقيقة على الطبيعة فيها .
وسمعت ما
يقوله شقیق خطیبتی فوجدت نفسي أقول له وللجميع في هدوء غريب نعم إنها قصتي بالفعل
التي لم أجد في نفسي القدرة على مصارحتكم بها.
فکأنما كانت
عبارتي هذه هي الإشارة التي فنحت علي بعدها أبواب الجحيم .. فقالوا ما قالوه وحطموا
ما استطاعت أيديهم أن تحطمه ووجدت فتاتي الجميلة الرقيقة تعدد مساوئي التي تحملتها صابرة
خلال فترة
الخطبة لمجرد أنني عريس لقطة فقط لا غير، وحيث لا حب ولا يحزنون، وتقبلت كل ذلك بواقعية
وأنا اسأل نفسي ترى من الذي خدع الأخر فينا؟
ثم غادروا
البيت في النهاية وأنا جالس في مقعدي أشهد ما فعلوه واسمع ما قالوه، وعلى وجهی ظل
ابتسامة لا معنى لها، فأحسب أنهم قد غادروني وهم موقنون انه أصابني مس من الجنون.
تركت كل شيء
على حاله في شقتي التي شهدت هذه المعمعة ورجعت إلى المزرعة وأنا على حال لا اعرف
معها إذا كنت سعيدا أو حزينا، فكانت زوجتي التي كنت أظن أنها لا تشعر بشي هي من أحست
أني لست على طبيعتي وبأنني أعاني من شيء يشغل تفكري ويزعجني ورأيت في عينيها لهفة
علي لم أشهدها من قبل مع أني لم أكن قد غارتها سوى منذ بضع ساعات.
ومضي يومان وأنا مقيم بالمزرعة قررت بعدها أن
أتقبل الأمر الواقع كما هو مؤمنا بأن هناك إرادة عليا قد اختارت لي الطريق الذي
امضي إليه، ولابد انه هو الطريق الأصلح لي وبعد ان اتخذت هذا القرار رجع لي الإحساس
بالراحة الذي فارقني منذ التقيت بخطيبتي في بيتهاا، وسألت نفسي : ولماذا لا أعطي
زوجتي هذه الفرصة لتعبر عن نفسها وتحاول أن تكون الزوجة الحقيقية الوحيدة في حياتي
؟ .. ولماذا لا اتوقع لها ان تنجح في ذلك كما توقعته أنت في ردك علي رسالتي وكما
توقعه القراء الذين علقوا على الرسالة، وهى التي نجحت في كل ما طلبته منها خلال
السنوات الماضية؟
نعم .. لماذا
لا تنجح.. ولا تثبت نفسها وهي التي تبدو لي الآن بعد الحمل أفضل وأجمل ؟
وواصلت حياتي
معها في المزرعة على هذا الأساس الجديد، وبعد فترة قصيرة وجدت نفسي اصطحبها معي
إلى المدينة لزيارة أقارب والدتي بها لأول مرة منذ تزوجتها، فلا تسل عن فرحتها بذلك
ولا عن سعادتها بأبسط الأشياء التي قدمتها إليها .. ولا عن فيضان الشكر الحقيقي
الذي أغرقتني به وأسعدني كثيرا حتى وجدت نفسي بغير وعي أقارن بينها وبين الأخرى
التي كنت أتحير طويلا قبل الذهاب إليها في اختيار الهدية التي أقدمها لها .. وأتساءل
هل تنال رضا والدتها أم لا.
ومع إن اقارب والدتي لم يرحبوا بزوجتي الترحيب
الكافي للأسف، فإنني لم أهتم بذلك، ورجعت معها في المزرعة سعيدين. ومضت الأيام بنا
ونسيت أمر الأخرى و تناسينه وكلما نشرتم تعليقا لأحد القراء على قصتي يطالبني فيه
بألا أتخلى عن زوجتي هذه التي تحمل في أحشائها جنيني احمد الله على القرار الذي اتخذته بمواجهة الحقيقة
والكف عن الكذب والخداع والانقسام بين حياتين وفتاتين،
وشعرت بالفارق الكبير الذي اشعر به الآن بینی حاليا وبين الشخص الآخر الذي كنته
قبل انكشاف الحقيقة. فلقد وجدت نفسي إنسان مستريح البال. صادقا مع نفسه ومع الآخرين
وأنا من كنت استعذب الكذب قبل ذلك بل واشعر ببعض الفخر لو استطعت أن أحول موقفا أو
أمرا لصالحي ببعض الكذب .
كما شعرت أيضا بالفارق الكبير بين أن تكون إنسانا صريحا
وواضحا ولا تخاف من أحد أو من موقف معين وبين أن تكون كما كنت من قبل ملتفا منطويا
على سر كبير أتكتمه حتى عن اقرب الناس وأحاول بكل الجهد إخفاءه ..فعاهدت نفسي ألا
اكذب بعد الآن وألا أخشى شيئا أو أحدا والحمد لله الذي جعل لكل شئ ميقاتا معلوما وموعدا.
وخلال ذلك فوجئت بأحد أقارب خطيبتي السابقة يجئ إلي
المزرعة حاملا معه كل هدایاي لها إلى جانب رسالة شفوية منها تقول فيها إنها ترفض
أن تحتفظ بأي تذكار أو ذکري لإنسان مخادع عديم الإحساس مثلي ورغم أن ذلك قد أهاج
بعض انفعالي، إلا أنني تركت المرسال يمضي إلى سبيله وواصلت حياتي راضيا، واعتقد أنني
سوف أبدا مرحلة جديدة من حياتي خلال الفترة القادمة واعترف لك بأنني لم أتخل بعد
من أحلام المدينة والحياة فيها لأنني لم اعتد بعد على حياة المزرعة ولهذا فاني أفكر
في أن أعيد ترتيب شقتي بالمدينة وان اذهب للإقامة فيها مع زوجتي.
ولست أعرف هل ستقبل زوجتي أن تهجر المزرعة وهي
المكان المفضل لها كما تقول وهل لو قبلت سيريحني ذلك أم لا؟
لكني أعرف فقط أنني متمسك بزوجتي وأطفالي الذين
سيجيئون من عالم الغيب خلال أسابيع وسوف أحاول تعويض بعض الفروق الجوهرية بيني
وبينها وحتى لو أصبح صعبا بعد مجيء الأطفال وتفرغها لهم فلن يغير ذلك شيئا من خطتي
إذ لم أعد مهتما بأن تظهر معي زوجتي بمظهر اعتبره لائقا لأن الأمر الآن هو أن ترعی
أطفالنا وبيتنا وأسرتنا.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
والحقيقة ولو كانت
عارية من كل إغراء أفضل من اي خداع ولو كان واعدا بأجمل الجوائز. إذ ليس بعد عناء
مواجهة الحقيقة وتحمل تبعاتها بشجاعة ورضا، إلا التحرر من الخوف والكذب والخداع، وإلى
عودة الإحساس المفقود باحترام النفس
و الرضا عما يفعل الإنسان، ليس فقط لأنه يفعل ما يراه العدل والصواب، وإنما أيضا
لأنه يفعله في العلن وتحت ضوء الشمس وغير استخفاء به، واستخزاء منه.
ولقد فزت أنت
بالحرية النفسية التي يفقدها كل إنسان يتخفى بما يكره أن يعرفه عنه الآخرون، يكابد
سرا مكتوما يحرص على استمرار
كتمانه، وهذا هو سر إحساس الراحة الغريب الذي تشعر به الآن بعد کشف المستور ومواجهه
خطيبتك السابقة لك بما عرفته عنك وهذه الحرية النفسية نفسها هي التي يسرت لك أن
تصطحب زوجتك إلى المدينة لأول مرة منذ تزوجتها وان تقدمها لأقاربك حتى ولو لم يحسنوا استقبالها وهې أيضا التي
ستصحح كثيرا من وضع زوجتك في حياتك وسوف تغير الكثير والكثير من نظرتك إليها، ومن أسلوب
تعاملك معها، فحين يخاف الإنسان يخطئ النظر والتصرف، وتقدير الأمور تقديرها
الصحيح..
وحين يتخلص من
الخوف فإنه يرى ما لم يكن يراه من قبل ولا تخطئ سهامه أهدافها .. لأن اليد التي
تطلقها قد تخلصت من ارتجافها وارتعاشها.
فإذا كان لمخاض الحقيقة هذا من ضحايا . فلقد
كانت خطيبتك السابقة وأسرتها هم الضحية في قصتك هذه ولا لوم على خطيبتك حين هاجمتك
في جلسة المواجهة وعددت مساوئك، ولا لوم أيضا على أهلها فيما قالوا
أو حتى فيما
فعلوا، إذ ليس من حقنا أن نلوم ضحايانا إذا سخطوا علينا وحاولوا الثأر منا ونحن الذين
خدعناهم وعرضناهم لمثل هذه المحنة، وإنما من واجبنا أن نتقبل سخطهم .. بل وعقابهم
لنا أيضا كضريبة عادلة لما فعلناه بهم. ومثلنا في ذلك ، مثل من قال على لسان أديبنا
الكبير نجيب محفوظ: إن نجوت من العقاب فهي الرحمة وان نلت ما تستحق من عقوبة ..
فهو العدل.
ورغم ذلك كله..
ورغم تعرض خطيبتك السابقة للخداع من جانبك، وانهيار ارتباطها بك بلا ذنب جنته فلا
شك أنها قد كسبت أيضا بانكشاف الحقيقة أكثر مما لو كانت ستربح لو استمر خداعك لها
للنهاية .. وغاصت أقدامها في رمالك الناعمة أكثر وأكثر .. فلقد نجت من التورط في
الارتباط النهائي بك وأنت زوج لأخرى وعلى وشك أن تصبح أبا . لطفلها أو أطفالها ..
وإذا كانت قد عانت آلام الغدر والإحساس بالخديعة فهي الآلام التي تسبق خروج الحمى
من الجسم وتمهيدا لأن يسترد صحته وعافيته .. أما أحلام المدينة التي مازالت تراودك من حين لآخر وتدفعك للتفكير
في الانتقال إليها ليس المقصود بهذه الأحلام التي أنكرتها عليك في ردي على رسالتك
الأولى هو المكان الذي تعيش فيه. وإنما كان المقصود بها هو الأحلام التي تدفعك
للتخلي عن زوجتك التي تزوجتها بإرادتك وحملت في أحشائها ثمرة زواجك منها، لمجرد أنها
فتاة ريفية بسيطة وأنت ترغب في أن تتزوج ممن تراها لائقة للظهور معك في مجتمعات
المدينة. إذ لو لم تكن متزوجا بهذه الزوجة الريفية التي حملت بطفلك أو أطفالك لما
لامك أحد في أن ترغب لنفسك في زوجة مناسبة لك من فتيات المدينة أو غيرها .. وليس المهم، هو أين
تقيم أو تحيا حياتك وإنما المهم هو ألا تتخلى عن هذه الزوجة بعد أن حملت منك. ولمثل
هذا السبب وحده فلتطب لك الحياة اذن حيث
تشاء .. في المزرعة أو في المدينة مادمت سوف تتمسك بزوجتك هذه.. وتحرص عليها وترعى
معها أطفالك بإذن الله.
والإنسان يا صديقي لا يسعد بالمكان وإنما بالبشر
الذين يعيش بينهم ويشاركونه حياته ويتبادلون معه العطف والحب والاهتمام..
وليس أضل ممن
يرفض حسن اختيار الله له سبحانه وتعالى، ويسعى إلى غيره. ولقد كان استمرارك مع هذه
الزوجة الطيبة التي أحبتك بصدق ورعت مصالحك بإخلاص .. وتسعد سعادة طاغية بأبسط الأشياء وتغرقك بطوفان من الشكر عليها،
وأيضا من حسن اختيار الله لك سبحانه وتعالى، والدليل على ذلك هو إشارة السماء التي جاءتك بعد أن قر قرارك على التمسك
بها فإذا بك تعرف أنها تحمل لك في أحشائها طفلين وليس طفلا واحدا كأنما قد أراد
ربك أن يشعرك بفداحة الخسارة التي
كدت
أن تخسرها لو كنت قد واصلت الانقياد لأحلام المدينة، وتخلصت من زوجتك هذه لترتبط بمن
تراها لائقة بالظهور معك في المجتمعات..
والإنسان كما
يقول لنا الحكيم الفرنسي لاروشفوكو اقدر على خداع نفسه بغير ان يشعر بهذا الخداع
منه علي خداع الآخرين من غير أن يتنبهوا لخداعه.
وما كانت أحلام
المدينة التي دفعتك وأنت زوج لزوجة طيبة محبة تتظاهر أنت بأنها مرحلة مؤقتة تستطيع
التخلص منها في أي وقت. إلى خطبة فتاة أخرى يتوافر فيها مواصفات الزوجة التي ترغبها
إلا خداعا
للنفس قبل أن تكون خداعا لفتاة المدينة الضحية، لأنك في الحقيقة كنت مشدودا بخيوط رفيعة إلى هذه الفتاة الريفية التي تحبك وترفض أن تعترف لنقسك بذلك لأنها أقل منك في المستوي الاجتماعي والثقافي وإلا حاول أن تفسر لي سر تأجيلك التخلص منها عاما بعد عام وحتى بعد خطبتك لأخرى لأكثر من سنة..؟ لقد كنت تريدها يا صديقي كما تريدك لكنك رفضت الاعتراف بذلك إلى أن جاءك برهان ربك وتحرك الجنين في أحشائها، وانتهت القصة إلى ما انتهت إليه فالحمد لله على كل حال.. وليغفر لك ما كان من أمر من قبل والسلام.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر