أحلام المدينة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996


أحلام المدينة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996 

أحلام المدينة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996

إن الله سبحانه تعالى قد سن لنا الزواج على أن يبدأه طرفاه بنية أن يكون علاقة أبدية ورابطة لا تنفصم .. فإذا اصطدمت هذه العلاقة فيما بعد بما يحول دون استمرارها كان لطرفيها أن يتحللا منها بغير إثم بعد ان يستنفدا كل وسائل الإصلاح .

أما أن يبدأ أحد الطرفين هذه العلاقة وفى نيته أن تكون مؤقتة أو لغرض  معين تستنفد بعده مبرراتها فليس ذلك من الزواج الصحيح ولا من الالتزام الديني والخلقي في شئ.

عبد الوهاب مطاوع


أنا شاب أبلغ من العمر 36 عاما ..  نشأت ابنا وحيدا لأبوين طیبین ثم توفى أبي وعمري 18 عاما، فاشتبكت مع أهله في العديد من المشاكل بشأن میراثي عنه من قطعة أرض زراعية  حتى استرددته بالكامل منهم، وأدى انشغالی بهذه المشاكل إلى تأخري في التخرج في كلیتی حتى بلغت من العمر 28 عاما . ثم شاء الله أن ترحل أمي عن الحياة بعد تسلمي لميراثي بفترة قصيرة .. فوجدت نفسي وحيدا تماما في الدنيا، ومع انقطاع صلاتی بأهل أبي بسبب مشاكل الميراث تزايد إحساسی بالوحدة، وشعرت برغبة في العزلة فانتقلت للإقامة الدائمة في المزرعة وبعت شقة أبي بالمدينة القريبة منها ، وتفرغت للعناية بالأرض وحققت نتائج طيبة وشئ من النجاح في هذا المجال .


ومضت الأيام ثم بدأت أفكر في الزواج، وراودني الحلم القديم في أن أتزوج من فتاة جامعية مثقفة جميلة من أسرة طيبة تعوضني عما عانيته من الوحدة ومن حرمان من الأهل وأن أنجب أطفالا أربيهم وأعلمهم في أفضل الظروف الممكنة، لكني وجدت تحقيق ذلك الحلم يتطلب إمكانيات كبيرة لم تتوافر لي وقتها لأنني قد بعت شقة المدينة واستثمرت ثمنها في تطوير الأرض الزراعية .. كما أني سأحتاج إلى مبلغ كبير لتكاليف الزواج والأثاث وشراء سيارة أتنقل بها بين المدينة والمزرعة ، فقررت تأجيل فكرة الزواج إلى أن أصبح قادرا على توفير كل هذه الاحتياجات، لكن كيف أحتمل حياة الوحدة خلال فترة الانتظار .. ولقد اقترح علي أحد الأشخاص الذين يعملون معي أن أتزوج من فتاة ريفية من بنات القرية التي أقيم فيها لترعاني وتقوم على خدمتي وترعی أعمالي خلال غيابي بالمدينة . 

ولاقت فكرة الزواج هوى في نفسي، ولكن بشرط أن يكون زواجا مؤقتا أو لمرحلة محددة من العمر، استكمل بعدها تحقيق أحلامي القديمة، ورأيت أنني مادمت أريده زواجا مؤقتا فلابد أن يكون زواجا بغير قيود أي بغير أطفال لكي أستطيع التخلص منه متى أشاء بلا تبعات أو خسائر كبيرة وأصبح السؤال هو .. وأين هي هذه الفتاة الريفية صغيرة السن التي تقبل الزواج مني على شرط ألا تنجب أطفالا .. وكيف أبرر رغبتي هذه لأهلها ؟ فهداني تفكيري إلى البحث عن فتاة صالحة للزواج وعاقر في نفس الوقت لأتزوجها وتحدثت في ذلك مع بعض عمال المزرعة كأنها فكرة تراودني ولا اعقد عليها آمال كبيرة ، ثم نسيت الأمر كله في غمار انشغالي بعملي وحیاتی، فإذا بأحد العاملين بالمزرعة بعد ستة شهور من هذا الحديث يرشح لي فتاة عمرها 20 سنة ، سبق لها أن تزوجت وعمرها 15 عاما ودام زواجها 4 سنوات ثم طلقت من زوجها لعدم الإنجاب، ورجعت للإقامة مع أبيها وأخوتها الكثيرين.


ورأيتها فوجدتها صغيرة السن وعلى قدر من الجمال .. وقدر آخر من التعليم البسيط .. وتبدو طيبة وسوف تعيش بلا تذمر أو مطالب معي في المزرعة .. فتحمست للفكرة ، وطلبت يدها من أبيها الذي رحب بذلك كثيرا ووجدها فرصة للتخلص من عبئها .. ولم يسألني أسئلة كثيرة واتفقنا على كل شي، فاصطحبتها مع والدها إلى أطباء المدينة للكشف عليها وإجراء الفحوص والتحاليل اللازمة للتأكد من عدم قدرتها على الانجاب، فأبلغني الجميع في حزن أنها عاقر للأسف ولن تنجب بسبب الزواج المبكر في سن صغيرة وبسبب عدم تلقيها  للرعاية الطبية اللازمة في الوقت المناسب.

ولم يكن في ذلك شيء جديد بالنسبة للأب أو الفتاة، ومع ذلك فقد اكتأب الأب وتنهد قائلا، ربنا موجود، ودمعت الفتاة واحنت رأسها في انكسار. 

أما أنا فقد ازددت اطمئنانا إلى أن الأمور تمضي في الطريق السليم .. وتظاهرت بأن ما سمعت لن يغير من عزمي على الزواج منها .. وشعرت بامتنان الأب والفتاة واحترامها الكبير لي.. ولم يمض أسبوعان حتى كانت الفتاة في بيتي ولم أتكلف الكثير ولم يعرف أحد في مدينتي بأمر هذا الزواج ولا حتى أهل أمي الذين تربطني بهم صلات قوية .. 


ومضت بنا الأيام هادئة ووجدت زوجتي مطيعة ومريحة وملبية لكل مطالبي، ولم أتردد عند أول بادرة عصيان من جانبها في أن اذكرها بأنه لولاي لما كانت تعيش الآن في هذا النعيم ولكانت تعيش في بيت أبيها بلا عمل سوی خدمة إخوتها وبلا أمل لها إلا في وجبة طعام واحدة يوميا كما كان الحال في بيت أهلها ! واعترف لك أنني قد فعلت ذلك وبقسوة معها فلم تتكرر هذه البادرة بعد ذلك أبدا ومضت بنا الحياة هادئة ومريحة ورضيت عن حياتي من هذه الناحية وبدأت أغادر المزرعة من حين لآخر لأقيم في المدينة القريبة التي نشأت فيها بعض الوقت، فكانت زوجتي وبفضل خبرتها السابقة في العمل الزراعي ، تنفذ خلال غیابی کل  تعلیماتی بدقة متناهية، فتحسنت الأحوال في العمل أكثر وأكثر، واستطعت أن أشتري سيارة جيدة وبحثت بعد فترة عن شقة مناسبة في المدينة ووجدتها وأثثتها بأثاث بسيط وسارت الأمور كما خططت لها منذ البداية .. فلم يمض وقت آخر حتى كنت قد عثرت على الفتاة الجامعية ابنة المدينة .. والأسرة المحترمة  التي أرغب في أن أستكمل معها رحلة الحياة.


 وتفاهمنا سريعا حول كل شي، فعشت أيامي في المدينة في سعادة بالغة حتى کنت لا أتذكر فتاة المزرعة إلا كلما ذهبت إلى هناك، وحين ارجع إليها مهما طالت غيبتي في المدينة لا أجد منها إلا كل الحب والترحاب كما أجدها لا تسألني عن شيء وإنما تقدم لي تقريرا مفصلا عن سير العمل وکل ما جرى خلال غیابی . وتمت خطبتي إلى فتاة المدينة. وبدأت في تجهيز الشقة للزواج. وأنا في تخطيطي أن أعالج مشكلة الزواج الآخر في الوقت المناسب، ونجحت خلال هذه الفترة في صرف نظر خطيبتي وأسرتها عن فكرة زيارة المزرعة والتعرف على الأحوال فيها حتى لا تنتهي الزيارة بكارثة عائلية وينكشف السر .

ومضت الأيام وأنا لا أفكر جديا في إنهاء زواجي الآخر بدعوى أن الوقت لم يحن لذلك بعد إلى أن رجعت إلى المزرعة منذ 3 شهور فإذا بي أجد زوجتي التي لم أر في عيونها طوال خمس سنوات سوى الابتسام حتى ظننت أنه لا شيء في الوجود كله يمكن أن يضايقها , فإذا بی أجدها تبكي وتشكو من ألم شديد لم تشعر به من قبل وتنتظرني بفارغ الصبر منذ أيام لأعرضها على الطبيب واصطحبتها على الفور إلى أحد الأطباء فإذا به يفاجئني وهو مبتسم وسعيد بأن زوجتي حامل ! .. حامل ؟ نعم حامل  .. وقد كررنا التحاليل واعدناها مرات ومرات  وأكدت كلها أنها حامل في شهرين وبأن صحة الجنين على ما يرام والحمد الله.

ياربي، بعد 5 سنوات من الزواج أين إذن حكاية العقم التي أغرتني بالزواج منها ؟ .. وكيف حدث هذا، وماذا سيكون أثره على خططي وترتیباتي.

 لقد تغيرت حياتي بعد هذا التطور الخطير تغييرا تاما .. ووجدت نفسي أقضى فترات طويلة في المزرعة .. ليس اهتماما بالطفل المنتظر فقط وإنما أيضا لأن التفكير يكاد يقتلني ويشل إرادتي، فضلا عن عجزي عن مواجهة خطيبتي وأهلها، ولولا خوفي من أن يتوصل أحدهم  إلى طريق المزرعة ويأتي ليستفسر عن سر انقطاعي عنهم لما غادرتها يوما واحدا .. فأصبحت أقضي أسبوعين بالمزرعة ثم اذهب للمدينة لمدة يومين وارجع متعللا بظروف العمل وقد رجعت إلى المزرعة ذات مرة فإذا بزوجتي تطلب مني أول طب لها منذ زواجي بها وهو أن تدعو أمها للإقامة معها خلال غيابي وحتى موعد الولادة وقد فكرت وقتها في أن اكتب لك لأسألك هل يكون من المناسب أن اطلب منها ألا تستمر في حملها هذا على أن أطلقها وأعطيها ما يكفيها لحياة كريمة وأنهي الأمر عند هذا الحد وأبدأ حياة جديدة في المدينة؟ 

لكني لم افعل ذلك لأنني شعرت بان هذا الطلب سيكون أول طلب لي منها ترفضه زوجتي منذ بدء الزواج، كما أن حيرتي  قد اشتدت في الفترة الأخيرة ، فقد تغيرت زوجتي وازدادت جمالا ونضارة كأنما قد استعادت ثقتها بنفسها بعد  الحمل، وإن كانت معاملتها وطاعتها لى لم تتغير أبدا كما انه من ناحية أخرى لم تطاوعني نفسي على مصارحتها بهذا الطلب لأنها قد بكت يوم تأكدنا من حملها وقالت لي انه حلم لم تكن تظن أن الدنيا سوف تسمح لها بتحقيقه ولا تفسيرعندها لهذه المعجزة سوى أن الله راض عنها لطاعتها لي ولرضاي عنها .. فقد سمعت في الراديو أن الزوجة التي يرضى عنها زوجها يرضي عنها ربها ويحقق لها ما تتمناه. وهي لم تتمن علي ربها شيئا سوى هذه الأمنية الغالية ! فكيف كنت استطيع أن أصدمها في هذه الحال بطلب التخلص من الطفل؟

لقد فكرت في أن أهجر المدينة وما بها وأتقبل الأمر الواقع وأعيش في المزرعة مع زوجتي وطفلي أو أطفالي القادمين .. لكن هل تراني استطيع أن أواصل رحلة الحياة معها حتى النهاية العمر ؟


إنني لا أتكلم معها مطلقا إلا في شئون البيت والعمل وبصيغة الأوامر دانما. كما أن الفارق الثقافي والعلمي بيننا كبير .. وأتساءل دائما هل تربي أطفالي هذه الأم الريفية وأنا الجامعي الذي اعتاد حياة المدينة ويتحدث اللغات الأجنبية ويستخدم الكمبيوتر .. إنني أصدقك القول إنني لم أكن أتخيل ذلك أبدا . ولم أتخيل أيضا أن يعيش أبناني هذه الحياة، كما أنني لا أحب زوجتي وإنما احترمها واعطف عليها وتأسرني براءتها التي لم أجد لها مثيلا في المدينة. ومازالت في مخيلتي أحلام الحياة في المدينة التي خططت لها مع خطيبتي التي أحبها وتحبني وأجد معها مستقبلي .. واخشی كثيرا من افتضاح أمري أمامها وأمام أسرتها وأمام عائلتي أيضا فماذا أفعل يا سيدي .. وما هو الحل المعقول الذي تنصحني به ؟


ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إنك يا صديقي لا تحب فتاة المدينة هذه حبا حقيقيا أو لشخصها كما تتوهم، وإنما تحب فيها غالبا أحلام الحياة التي تتصورها لائقة بك وبأطفالك في المستقبل، ولو كنت قد أحببتها حقا لما خدعتها بالتقدم إليها كشاب أعزب لم يسبق له الزواج .. ولما استدرجتها للارتباط بك وأنت زوج لغيرها .. بل ولا عجزت أيضا بعد حين عن أن تعترف بين يديها بخديعتك لها راجيا منها أن تتجاوز عنها وأنت واصل الارتباط بك فيكون لها حينئذ حق الاختيار.. ولا عجب فيما أقول لك إننا لا نخدع من نحبهم حبا حقيقيا ولا نجد أية غضاضة في أن نعترف لهم بخطايانا وأخطائنا لا أملا فقط في صفحهم وإنما ولاءً أيضا بحقهم علينا في ألا نخدعهم سواء صفحوا عما فعلنا بهم أم لم يصفحوا.


وعلى ضوء هذه الحقيقة دعني أقول لك إن حبك لفتاة المدينة ليس هو المشكلة الحقيقية التي تواجهها الآن وإنما مشكلة الاقتناع بحياتك مع زوجتك الريفية الطيبة هذه ومشكلة التخلي عن أحلام الحياة الراقية التي تتصور خطا أنها لا تتحقق لك إلا في المدينة.. ومع فتاة جامعية على وجه التحديد .. وليس يعنيني هنا أن أناقش أفكارك عن الحياة في المدينة أو القرية، لكنه يعنيني حقا ألا تضاعف من أخطائك في حق إنسانة طيبة بريئة لم تقدم لك منذ عرفتها سوى الحب والإخلاص والعشرة الطيبة .. فلقد أخطأت في حق هذه الفتاة منذ البداية حين تزوجتها بنية أن يكون زواجك منها مؤقتا أو لمرحلة معينة من العمر تستبدلها بعدها حين تتحسن أحوالك المادية بالزوجة الجامعية اللائقة بك، وهذا في حد ذاته خطأ أخلاقي كبير وخطيئة دينية أيضا، لأن الله سبحانه تعالى قد سن لنا سنة الزواج على أن يبدأه طرفاه بنية أن يكون علاقة أبدية ورابطة لا تنفصم فإذا اصطدمت هذه العلاقة فيما بعد بما يحول دون استمرارها كان لطرفيها أن يتحللا منها بغير إثم بعد ان يستنفدا كل وسائل الإصلاح .

أما أن يبدأ أحد الطرفين هذه العلاقة وفى نيته أن تكون مؤقتة أو لغرض  معين تستنفد بعده مبرراتها فليس ذلك من الزواج الصحيح ولا من الالتزام الديني والخلقي في شئ.

فإذا أضفنا إلى ذلك انك قد استغللت فقر وبؤس هذه الفتاة الجميلة وظروفها المؤلمة كمطلقة لعدم الإنجاب وتزوجتها لعقمها وضعفها.. وفي تخطيطك أن تتخلص منها حين يتحقق لك الحلم القديم وتعثر على الفتاة اللائقة بك وبأطفال المستقبل فإن مسئوليتك الأخلاقية عن هذا الاختيار تتضاعف بغض النظر عن إذا كان الاختيار ملائما لك من البداية أو غير ملائم .

لقد أسرفت يا صديقي في التخطيط والتدبير، وأنت تتوهم أنك تملك كل الخيوط في يدك وتستطيع في أية لحظة أن تطوي صفحة هذه الزوجة من حياتك وتنتقل إلى مرحلة جديدة لامعة منها .. فأراد الله سبحانه وتعالی أن يذكرك بأنه وحده الذي يمتلك كل الخيوط ولا أحد سواه جل شأنه.. وأذن لهذه الفتاة الصغيرة التي اخترتها  أنت لعقمها أن تحمل منك وأنت مطمئن تماما إلى استحالة أن يتحقق ذلك فيفسد خططك وترتيباتك

 " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" .. صدق الله العظيم .. لكنك بدلا من أن  تستوعب الإشارة وتنهض لتصحيح الأوضاع .. تتساءل : هل استطيع مواصلة حياتي مع هذه الزوجة إلى النهاية وهل هذه هي الأم التي تربي أطفالي ؟.. وهل ينشا أطفالي في الريف وأنا الذي اعتدت حياة المدينة .. الخ ؟.

وردي على كل هذه التساؤلات التي لا معنى لها هو أن معنى الإشارة الإلهية التي تلقيتها ولم تستوعبها بعد.. هو أنه قد قضي الأمر الذي فيه تستفتون، ولم يعد هناك مجال للتردد والاختيار بعد أن حملت زوجتك منك، ولم تعد علاقتك بها مؤقتة.. حتى ولو انفصلت عنها، كما أن حياة المدينة، التي تتحدث عنها ليست أملا في حد ذاتها لأي إنسان حکیم لأن المهم هو الحياة السعيدة مع من يحسنون عشرتنا ويهيئون لنا أسباب الأمان وراحة البال سواء أكانت هذه الحياة في المدينة أو الريف أو في الصحراء فإذا كنت قد تجاوزت في البداية عن الفوارق الاجتماعية والثقافية بينك وبينها فلأن هذا التجاوز كان وقتها لصالحك ولصالح خطتك فلا يحق لك الآن وقد حقق لها الله أمل الحمل أن تتحدث عن هذه الفوارق نفسها كمبرر وحيد للانفصال، إذ لو كان لهذه الفوارق كل هذا الأثر حقا في حياتك لحال دون استمرار الزواج والعشرة الطيبة بينكما طوال السنوات الخمس الماضية ولحال أيضا عن استمتاعك بهذه الزوجة المطيعة الطيبة التي تنفذ تعليماتك بدقة متناهية وترعى مصالحك بإخلاص عظیم خلال غيابك في المدينة !


والمشكلة الحقيقية هي أننا لا نتحدث عن مثل هذه الفوارق إلا حين تتحسن أحوالنا المالية ونتطلع إلى حياة أرقى وأفضل مع أخرى، مع أنه لم يجبرنا أحد في البداية على الارتباط بمن نشعر بالاستعلاء الاجتماعي والثقافي عليهم ولا ذنب لهؤلاء الذين اخترناهم فی تخطيطنا المحكم لحياتنا ولا في اعتبارنا لهم من متطلبات مرحلة معينة من العمر خاصة وأننا نحن الذين سعينا إليهم بأقدامنا وبملء إرادتنا .. وربما نكون قد أغريناهم علی ارتباط بما منحنا الله من إمكانيات مادية وليس من العدل أن نقول لهم بعد ذلك أن مهمتكم في حياتنا قد انتهت عند هذا الحد وأن لنا أن نتطلع لمن هم أفضل منكم.


نعم قد تكون هذه الزوجة غير ملائمة لك اجتماعيا وعائليا.. لكنك اخترتها وارتبطت بها وحملت منك ولم يعد هناك مجال للتراجع إلا بخسائر إنسانية مؤلمة ترتبط بمصير هذا الطفل المنتظر.. وفي الوقت نفسه الذي تستطيع فيه ان تتفادى هذه الخسائر إذا تخليت عن أحلامك السابقة  وغيرت نظرتك إلى هذه الزوجة من زوجة مؤقتة إلى زوجة  دائمة ومن خادمة بيت المزرعة ووكيلة عن صاحبها في رعاية أعماله وأسيرة فضل له يمن به عليها عند كل بادرة اختلاف إلى زوجة كاملة يتحدث إليها زوجها في كل شئون الحياة وبلهجة الشريك مع شريكه وليس بصيغة الأوامر وحدها وبإحساس من يراها أهلا لمعاشرته ولأن تكون أما لأطفاله وليس بإحساس من يستكثر عليها كل ذلك ولغير سبب سوى ضعفها وريفيتها وظروفها الاجتماعية

فإذا كنت تسألني هل تستطيع هذه الفتاة أن تكون أما لأطفالك وأنت الذي تتحدث اللغات الأجنبية وتستخدم الكمبيوتر، فإني أقول لك انه رغم أهمية التقارب الثقافي والاجتماعي بين الأبوين في تنشئة الأطفال والوفاق الزوجی ، إلا أنه ما أكثر الناجحين والنابغين والفضلاء أيضا الذين تربوا في أحضان أمهات أميات، كان لهن من الحكمة الفطرية ومن الوازع الديني العميق ما أعانهن على تنشية أطفالهن التنشئة الأخلاقية السليمة تحت إشراف الآباء.

وبهذا المفهوم فإنك تستطيع إذا أردت الحياة مع هذه الزوجة الطيبة أن تعوض نقص تعليمها بعلمك أنت وفضلك ، وتستطيع كذلك أن تساعد ملكاتها وقدراتها الفطرية على الانطلاق وتعويض ما ينقصها من خبرات ومعارف حين تبدأ في التعامل معها كزوجة حقيقية وليس كتابع أمين، وما أسرع ما سوف تستجيب زوجتك لكل ما تطلبه منها وتلقنه إياها من خبرات ومعارف ، وما أسهل أيضا أن تنقل زوجتك هذه إلى المدينة إذا كانت حياة المدينة تمثل لك كل هذه الأهمية .


فإذا كنت تتحدث كثيرا عن هذا الفارق التعليمي والثقافي، فإني أؤكد لك أن كثيرين أيضا يتمنون أن تجود عليهم الحياة بزوجة طيبة ومطيعة ودائمة الابتسام وتؤمن بأن طاعة  زوجها من طاعة ربها وأنهم على استعداد لأن يتنازلوا عما يجيدون من لغات أجنبية إذا كان هذا هو القربان الوحيد للحياة الزوجية السعيدة المستقرة، فلا تتبطر على ما وهبك الله تعالى من أسباب السعادة حتى وإن شكوت النقص في بعض الجوانب. وتحمل تبعات اختيارك برضا وشجاعة .. ولا تتعامل مع الحياة وكإنك محبوب الأقدار الذي ينبغي له أن يحصل دائما على الحد الأقصى من كل الأشياء لأن الحياة لا تكتمل أسبابها لأحد ولو كان من المحظوظين.


والحكمة الحقيقية هي أن يكون الإنسان قادرا على التمييز بين ما يستحق أن يتمسك به ويدافع عنه وما لا يستحق النضال من أجله كمثل هذا الحلم غير المضمون بالحياة الراقية السعيدة مع فتاة لم تختبرها الأيام بعد ولا تستطيع أن تجزم الآن بأنك سوف تكون سعيدا معها وهل ستنجب لك هؤلاء الأطفال السعداء أم لن تنجب وهل ستحسن تربيتهم .. ام ستعجز عن تلك.. لان كل ذلك في علم الغيب.

وليس من الفطنة أن تغفل عما بين يديك من أسباب جريا وراء أحلام غير مضمونة التحقيق في المستقبل .

كما أن "رؤية الأشياء الصغيرة بصيرة" كما يقول لنا الحكيم الصيني لو - تسو، فكيف بالأشياء الكبيرة في حياتك التي تغفل عنها الآن وتتطلع إلى ما لا تضمن أن يحقق لك السعادة.

فاذا كنت تقول لي انك لا تحب زوجتك هذه  وإنما تحترمها وتعطف عليها وتأسرك براءتها التي لم تجد لها مثيلا في المدينة . فلماذا راوغت طويلا في إنهاء علاقتك بها قبل الحمل رغم تقدمك لخطبة غيرها ؟.

إنه ليس الخوف فقط من افتضاح أمرك أمام خطيبتك وأهلها وأهلك وحده الذي تعانيه الآن، لكنه الخوف أيضا من أن تفقد حياتك الآمنة مع هذه الفتاة الأمينة الطيبة التي حملت في أحشائها ثمرة القلب .. وحققت لك حلم الأبوة بالرغم من كل احتياطاتك السابقة. إن من المؤكد أن لها نصيبا كبيرا في قلبك لكنك مازلت غير مقتنع بحياتك البسيطة معها وتستنكف آن تعترف لها بمكانتها من قلبك..

فتخلص من أوهام الاستعلاء الاجتماعي والثقافي على هذه الزوجة بجدارتها بأن تكون زوجتك أمام الجميع لأنك قد جعلت منها شريكا كاملا لك بالفعل حين تزوجتها وحين منحتها اسمك واعتذر لخطيبتك عن عدم مواصلة المشوار معها بما يتاح لك من أسباب وأعذار ... وسواء استجبت لنصيحتي لك أو لم تستجب فاختر لحياتك في النهاية ما تشاء.. ولكن لا تطلب من هذه الزوجة أبدا أن تتخلص من حملها.. ولا تغرها بذلك ولا تتحمل إثم هذا الطلب أمام الله .


فإن شئت أن تواصل حياتك معها على أسس جديدة وسليمة فبها نعمت وان لم تشأ وغلبت على أمرك أوهام الحياة الراقية في المدينة فافعل ما يمليه عليك ضميرك بهذا الشأن .. ولكن لا تفكر أبدا في أن تطلب من زوجتك هذه أن تتخلص من طفلها لان ذلك ليس من حقك ولأنه من حق هذه الفتاة الطيبة أن تصبح أما. وان تسعد بامومتها وبطفلها سواء عرفت لها قدرها وواصلت حياتك معها أو لم تفعل .. والسلام.

رابط رسالة أحلام الحقيقة " الجزء الثاني من الرسالة"

*نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر عام 1996

كتبها من مصدرها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات