الصورة الحقيقية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

 الصورة الحقيقية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الصورة الحقيقية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الإنسان يحتاج من حين لآخر إلى من يضعه أمام مرآة لا تكذبه فتعكس صورته الحقيقية وليست تلك التي يتوهمها عن نفسه أو يظهر بها أمام الآخرين‏

عبد الوهاب مطاوع

لن أبدأ رسالتي بأن أقول إنني لم أكن أتصور أنه سوف يجيء يوم أكتب لك فيه كما يقول كثيرون ممن يرسلون إليك بمشاكلهم‏..‏ وإنما سأقول لك إنني فكرت عشرات المرات من قبل في أن أكتب لك لا طلبا لحل مشكلتي‏,‏ وإنما لكي أتخفف مما تحمله نفسي من هموم‏..‏
فأنا فتاة نشأت يتيمة الأب والأم في زمن خلت فيه قلوب بعض البشر من الرحمة‏..‏ ليس كل الناس ولكن بعضهم فمازال في الدنيا الرحماء‏,‏ لكن أقداري شاءت لي التعامل مع غيرهم في كثير من الأحيان‏.‏
ولقد وجدت نفسي أعيش مع أخ يكبرني بثمانية أعوام وأخت تصغرني بثلاث سنوات‏..‏ وأخي هو المسئول عنا‏..‏ وهو رجلنا الذي نستند إليه وننتظر منه الحماية والعطف والحنان‏,‏ ولكن لا أتذكر على العكس من ذلك إنه قد قال لي أو لأختي ذات يوم كلمة حب أو حنان واحدة‏,‏ وإنما كان دائما قاسيا علينا وجافا معنا وكلما حدثته عن حاجتنا للعطف والحنان منه ونحن لا نعرف لنا أبا أو شقيقا غيره كان يسخر مني ويقول لي كيف أعطيكما الحب والحنان وأنا لم أتذوقهما من قبل‏!..‏


كما لا أتذكر يوما من الأيام أنه رجع إلينا ومعه قطعة قماش حتى ولو كانت بالية ليقدمها لأختي في مناسبة عيد أو غيره من المناسبات وإنما كنا نعتمد على ما يعطيه لنا الأقارب من ملابسهم المستعملة‏,‏ مع أن له دخلا يوميا لا بأس به وهو إنسان متعلم ويعي جيدا أنه مسئول عني وعن أختي‏..‏ لكن التضحية توهب ولا تطلب كما قرأت لك في بعض ردودك‏..‏ وهناك من يضحي من أجل الآخرين‏,‏ وهناك من يضحي بالآخرين من أجل نفسه‏,‏ وأخي للأسف من النوع الثاني‏..‏ وكان ولايزال أنانيا يحب دائما أن يعتمد علي الغير في شئون حياته‏.‏
فمضت حياتنا معه طوال السنوات الماضية في سلسلة من الإهانات والضرب والسب ولعن أمنا‏,‏ التي لا تستحق منه إلا الدعاء لها بالرحمة‏.‏ ولم يكن يهدأ لها بال وهي على قيد الحياة إلا حين تطمئن على عودة شقيقنا واستقراره في فراشه‏..‏ فهل تستحق الأم التي حملت ابنها تسعة أشهر أن يلعنها الابن وهي بين يدي ربها ؟‏!‏

ولقد مضت بنا الأيام بخيرها وشرها إلى أن تخرجت والتحقت بإحدى الوظائف واستغنيت والحمد لله عن الملابس المستعملة‏..‏ وتعودت مع أختي بفضل من الله أن نكون مع الناس وللناس فلم نرث الأنانية عن شقيقنا وإنما تعودنا على العطاء ولو كان قليلا وعلى الاعتراف للآخرين بالجميل ولو كان بسيطا‏.
لكن المشكلة يا سيدي هي أن أخي يزداد سوءا معنا يوما بعد يوم ونظراته إلينا تزداد حدة وقسوة ولا أدري لماذا مع أنه مع الآخرين في منتهي الرقة وأمام الأهل يبدو في صورة  مختلفة تماما‏,‏ ولو كان يتلطف بنا عشر تلطفه مع الآخرين لكنا قد عشنا في غاية السعادة‏.‏

إنني لا أدري لماذا كل هذه القسوة من أقرب الناس إلينا‏..‏ والغرباء يتعاملون معنا بكل رقة‏.‏

وكل صديقاتي يقلن لي‏:‏ أصبري‏..‏ ولسوف يكون لك بإذن الله بيت وزوج وأولاد‏,‏ وسيعوضك ربك عن كل سنوات العذاب‏,‏ لكنه حتى لو تحقق ذلك فلسوف ينغص على سعادتي تفكيري في أختي وفيما تلقاه من قسوة وهوان مع أخي‏..‏ فكيف حتى ولو تحقق هذا الحل السعيد أدعها وحدها تحت رحمة من لم يرحمها صغيرة ولا كبيرة ؟


إن سؤالي إليك في ختام رسالتي هو‏:‏ من لليتيم يا سيدي إذا قسا عليه أقرب الناس إليه‏..‏ ولم يرق له قلبه ؟
ألم يقل الله سبحانه وتعالي فأما اليتيم فلا تقهر‏.‏
أنني أرجوك أن تكتب لكل من يجد نفسه مسئولا عن يتيم مغلوب علي أمره أن يتقي الله فيه ويتذكر قوله سبحانه وتعالي:
واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
وقوله‏:‏ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏.‏
وأرجوك أن تذكر الناس بأن لهذا العالم ربا قويا يقول للشيء كن فيكون وقادرا على أن يبدل الأوضاع ويحمي الضعيف ويقهر القوي المفتري بقوته على الضعفاء‏,‏ كما أرجو أن يستجيب الله لدعائي ويتصفح أخي الجريدة ولو لمرة واحدة في حياته فيقرأ رسالتي هذه وكلماتك الحكيمة له فتمس قلبه فتحرك الجانب الإنساني فيه وترقق قلبه علي شقيقتيه‏..‏ وشكرا لك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.


ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

إذا كان شقيقك لا يتصفح الصحف فلا بأس بأن ينبهه أحد إلى قراءة رسالتك المؤلمة هذه‏,‏ لكي يري فيها صورة نفسه الحقيقية ويستبشعها‏..‏ فلا شك أنه ليس مما يسعده بنفسه أن يراها في صورة الأخ الأكبر الذي لم يرحم يتم شقيقتيه ولا ضعفهما وإنما قسا عليهما بدلا من أن يترفق بهما‏,‏ وضاق بمسئوليته الإنسانية عنهما بدلا من أن ينهض بها راضيا ومستبشرا بما سوف يناله من خير عميم وأجر عظيم وجزاء وفاقا لقيامه بها‏.‏
والإنسان يحتاج من حين لآخر إلى من يضعه أمام مرآة لا تكذبه فتعكس صورته الحقيقية وليست تلك التي يتوهمها عن نفسه أو يظهر بها أمام الآخرين‏.‏
ولاشك في أن الصورة الخارجية لشقيقك أمام الأهل والآخرين هي صورة الأخ الأكبر الذي اختارت له أقداره أن يكون الأب الرحيم لشقيقتيه اليتيمتين والمسئول الأول عنهما‏..‏ وهي صورة تبعث علي الاحترام وتثير التعاطف ويستفيد منها صاحبها معنويا بين الأهل والآخرين بقدر ما يتكبده من عناء بسببها‏.‏
ولقد كان من الممكن أن يكون المظهر كالمخبر‏..‏ ويكون شقيقك هذا ممن قال عنهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ من وضع يده علي رأس يتيم رحمه‏..‏ كتب الله له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة لولا أنه قد ضيع معظم أجره عن كفالته لأختيه بقسوته عليهما وإهانته لهما وضيقه بمسئوليته عنهما‏.‏
وبعض من تضعهم أقدارهم في موضع المسئولية عن أخوتهم اليتامي يسخطون علي أقدارهم أن حملتهم هذه  المسئولية وقد كانوا يرجون لأنفسهم أن ينطلقوا في الحياة كالطير الشريد الذي لا تثقله القيود‏,‏ ويخلطون في ضيقهم بهذه المسئولية الإنسانية بين الأسباب والنتائج‏,‏ فينفسون عن ضيقهم بمسئوليتهم بالضيق برموزها وهم للأسف هؤلاء الأخوة الحيارى اليتامى الذين لم يختاروا لأنفسهم اليتم ولا لشقيقهم الأكبر المسئولية عنهم‏..‏ وإنما هم ضحايا لأقدارهم كما هو ضحية لها‏,‏ ولقد شرفه ربه بالمسئولية عنهم فلم يحسن رعاية هذه المسئولية ولم يدرك شرفها ولا أثرها الإيجابي العميق في حياته‏,‏ فلقد كرمه الأهل والأقربون لحمله هذه المسئولية‏..‏ وفتحت أمامه أبواب لم تكن لتفتح لو لم تكن في عنقه تلك الأمانة‏..‏ وعفي عن أخطائه وتجاوزاته عما لم يكن يعفي عنه لولا تقدير الآخرين لثقل مسئوليته‏.‏ ونجا هو نفسه من عثرات وكبوات لم يكن لينجو منها لو لم تكن السماء قد ترفقت به رعاية لمن يعتمدون عليه في حياتهم فكيف يضيق عاقل بما يشرفه به ربه ؟ وكيف تسول له نفسه أن يقسو علي ودائع السماء لديه وقد وعده ربه بالجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة ان هو أحسن رعايتها‏..‏ ورعي حدود ربه فيها ؟


إن بعض أسباب عنائك أنت وشقيقتك وأمثالكما‏,‏ هو أن من يتحمل هذه المسئولية يواجه دائما من جانب الأخوة الضعفاء بالانكسار النفسي أمامه‏..‏ فلا يعاتبونه على عدوان إذا اعتدي عليهم‏..‏ ولا يشكون من إساءة إذا أساء إليهم‏..‏ فيغريه ذلك للأسف بالتمادي‏..‏ وانتهاك حقوقهم وتمييز النفس دونهم‏..‏ وهذا هو تفسيري لما أشرت إليه في رسالتك من أنانية شقيقك في تعامله معكما‏..‏
والاعتراف بالجميل لا ينبغي له أن يعني الإنكسار النفسي‏والتنازل عن الحقوق وأهمها حق التعامل الكريم والإنساني معكما دون تجن أو عدوان‏.‏
فإذا كان الأمس هو ذكري اليوم والغد هو حلمه كما يقول الشاعر جبران خليل جبران
فإن حلم اليوم بالنسبة لك ولشقيقتك هو أن يمسح الغد القادم كل الأحزان ويهييء لكما ما تستحقان من سعادة وكرامة وأمان ولكي يتحقق ذلك بإذن الله فإنه من المفيد لكما إلا تكتفيا بعد الآن بالشكوى الباكية للصديقات من قسوة الأخ أو سوء معاملته‏,‏ مع كبت المشاعر والآراء في مواجهته‏,‏ وإنما يجدر بكما أن تجتازا حاجز الرهبة والانكسار في تعاملكما مع شقيقكما إلي التعامل الطبيعي الذي يسمح لكما بمعاتبته دون صدام معه إذا أساء إليكما‏..‏ ومناقشته في أسباب سوء معاملته لكما إذا تمادي فيها‏,‏ ومطالبته بأن يحدد لكما ما ينكره عليكما لكي تجتنباه وتعيشوا معا في كرامة وسلام‏,‏ وما يريده منكما لتجتهدا في الالتزام به‏.‏ فهكذا ينبغي أن تكون علاقة الأخوة ببعضهم بعضا‏..‏ عتابا وحوارا ومناقشة ودية‏..‏ وليست كبتا وأنينا وعجزا عن الحوار‏..‏ ولاشك في أنه سوف يستجيب للحوار معكما تدريجيا ويغير من معاملته القاسية لكما لأنه في النهاية شقيقكما الذي لا غناء لكما عنه ولا حياة له بدونكما مهما تراءي له غير ذلك‏,‏ ولا بأس عند الضرورة بالاحتكام للأهل وتدخلهم بينكم غير أني آمل في ألا تحتاجا إلي ذلك‏..‏ كما أرجو أن أقرأ لك في القريب العاجل رسالة أخري تطمئنيني بها علي تحسن الأحوال إن شاء الله‏.‏

  *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

                       كتبها من مصدرها وأعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات