الطرقات الثقيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
عبد الوهاب مطاوع
لست غريبا عليك فقد جئت إليك منذ
شهور ورويت لك قصتي باختصار .. وأريد الآن أن أواصل روایتها .. لتعرف ماذا
صنعت الأيام بی . وقبل أن أستطرد فيما حدث بعد مقابلتك الأخيرة أسترجع في خيالي
قصتي مع الحياة فأجدني دائما أبدا من البداية المبشرة بالأمل وأنا طالب بالثانوية
العامة وابن لعامل بسيط مرتبه اثنا عشر جنيها وكلى إرادة وإصرار على التفوق لأحصل
على مكافأة المتفوقين في الثانوية العامة وكانت 84 جنيها كاملة .. فشحذت إرادتي
الصلبة ودخلت الامتحان محملا بالآمال ودعوات الأهل فاجتزته وحصلت على مجموع 89% من
القسم العلمي .. وسعدت بي أسرتي البسيطة وتعلق أملي بالمكافأة الكبيرة التي سوف
أستعين بها على الدراسة الجامعية طوال السنة التالية ..
وبالرغم من أن مجموعی وقتها كان يؤهلني للالتحاق بإحدى الكليات
المرموقة إلا أني اخترت دراسة الحقوق لأني كنت أتمنى منذ طفولتي أن أعمل كمحام كما
أن ظروف أسرتي لم تكن تسمح لي بالمغالاة في الأحلام . فالتحقت بإحدى كليات
الحقوق وأمضيت عامي الأول فيها معتمدا تقريبا على مكافأة التفوق وما أكسبه من
العمل في الأجازات القصيرة حين أعود إلى بلدتي الصغيرة ونجحت بتفوق في العام الأول
فاستحققت مكافأة من الجامعة . وواصلت دراستي بتفوق حتى لا تنقطع عنى هذه المكافأة
التي أصبحت عمادي الأول في الحياة . وحصلت على الليسانس ولم أفكر في البحث عن
وظيفة وإنما قررت أن أعمل كمحام حر وبحثت عن محام كبير يقبل تدريبي في مكتبه فرحب
بي أكثر من واحد منهم لتفوقی واستقامتی . وأمضيت فترة التدريب بجدية، وبعد فترة
قصيرة حققت أمنيتي وعلقت على بيتنا القديم لافتة خشبية تحمل اسمي وأقبلت على عملي
بحماس ونشاط وحققت فيه نجاحا غريبا بالنسبة لزملائی، واستطعت خلال عدة سنوات أن
أحقق أكبر أحلامي وأتزوج حبيبة العمر التي راقبتها وهي طفلة صغيرة تلهو وأحببتها
في داخلي وهي في سن الصبا .. وتفاهمت عيوننا وهي في بداية سن الشباب وكانت نظراتها
الوادعة المشجعة أكبر عون لي على احتمال صعوبة الطريق فما أن استطعت توفير متطلبات
الزواج حتى تقدمت لها ... وتزوجنا وسط فرحة الأهل وسعدت بالحب والحنان وتفرغت لعملي
المهني وأعطيته كل وقتی وجهدي ، ومضت أيامنا سعيدة وأنجبت طفلا جميلا وادعا كأمه
.. وحبا الطفل على الأرض بعد شهور ثم تعلم الوقوف والمشي والجري وأصبح عمره عام
ونصف عام .. واقتربت الإجازة الصيفية من نهايتها فخرجت زوجتي مع ابننا تزور أهلها
وعادت
في المساء لكي تستعد معي للعام القضائي الجديد الذي سيبدأ بعد
غد بغسل ملابسی وکی قمصانی وبدلي . وفي اليوم التالي انشغلت بذلك .. بينما انشغلت
أنا بمقابلة بعض المتقاضين في غرفة المكتب بمنزلنا استعدادا لقضية ستنظر غدا ..
فطرقت زوجتي الباب طرقات خفيفة وخرجت إليها فطلبت مني التليفون في حياء لتخاطب
أسرتها وأعطيته لها وعدت إلى المتقاضين وانشغلت معهم في الحديث، فإذا بطرقات ثقيلة
متوالية على باب المكتب فانزعجت وخرجت لأرى والد زوجتي ووالدتها، وتعجبت للحظة
لأني لم أشعر بمجيئهما .. ثم اشتد عجبي وانزعاجی حين أبلغاني أن زوجتي الشابة
مريضة وفي غيبوبة .. متی مرضت .. ومتي راحت في الغيبوبة لا أعرف .. وأسرعت إليها
فوجدتها غائبة عن الوعي وهرولت لإحضار سيارة أحد الأصدقاء وحملت زوجتي على كتفي
إلى المستشفى والتف حولها الأطباء ولاحظت وجومهم وتحفظهم فهیأت نفسي لأن أتجلد
بقدر ما أستطيع إذا بلغوني أنها ستحتاج إلى جراحة عاجلة أو أن غيبوبتها ليست
حالة إغماء طارئة وإنما سيطول علاجها بعض الوقت وسيضطرون لاحتجازها بالمستشفى،
وبينها أنا غارق في أفكاری فوجئت بهم يعودون إلى واجمين ويبلغونني بأن زوجتي بين
يدي الله من قبل أن تصل إلى المستشفى .. لا إله إلا الله زوجتي الشابة التي لم
تكمل الثانية والعشرين من عمرها وأم طفلي الذي لا يزيد عمره على عام ونصف عام
والتي لم تمرض ولم تشك من شيء ؟ إذن لهذا طلبت منى التليفون لتستدعي أهلها حين
أحست ببوادر الأزمة وأشفقت علي فلم تزعجني بتعبها وأنا مشغول مع عملائي .. لا
حول ولا قوة إلا بالله .. أي عمل يستحق ألا تقطعه علي وألا تخرجني منه لإسعافها
وإنقاذها أو حتى لتلقي ربها وهي على صدري لقد عدنا إلى البيت مذهولين لا نصدق
أنفسنا، وفي اليوم التالي خلا البيت منها للأبد .. وبعد أيام رجع طفلي الوحيد من
البيت الذي أبعدناه إليه ليواجه قدره الحزين معي فلم أنس حتى الآن أن كان أول ما
فعل هو أن جرى إلى المطبخ يبحث عن أمه کما اعتاد أن يفعل ، وحين لم يجدها جرى إلى
غرف المنزل باحثا عنها ثم صعد إلى السطح وعاد مرتعبا خائفا وارتمى على ولم ينطق
بكلمة ولم يبك كأنما أنزل الله عليه سكينته ونام في حضني وهو متشبث بي .. ومن هذا
اليوم وحتى الآن أصبح لا ينام إلا متشبثا بی كأنما يخشى أن أضيع منه کما ضاعت أمه .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
وبعد رحيل زوجتي بعدة شهور بدأت أحس بالإرهاق الشديد فعرضت
نفسي على أطباء بلدتي فإذا بي اكتشف مرضي بالتهاب الكبد الفيروسی «س» وإذا بي أبدأ
رحلة علاج استنزفت كل ما بقى لي من مدخرات .. وضاعفت من همي وخوفي على طفلي الوحيد
اليتيم .
وطالت رحلة العلاج ثلاث سنوات حتى الآن وعزمت على السفر إلى
القاهرة لعرض نفسي على أكبر أطباء الكبد وفي هذه المرحلة منه جئت حاملا إليك هما
يفوق قدرتی وطاقتی ... فقد قرر طبيبي المعالج أنه لا علاج لى إلا حقن
«الانترفيرون» وأن على أن آخذ منها تسعين حقنة متوالية وذهبت أسأل عن هذه
الحقن فإذا بثمن الواحدة منها يزيد على المائتي جنيه وأن الحقن المطلوبة تتكلف
حوالي اثني عشر ألف جنيه ووقفت عاجزا ولجأت إلى نقابتي وإلى القومسيون الطبي ..
ولا أطيل عليك في هذه النقطة فلعلك مازلت تذكر تفاصيلها .. کما لعلك مازلت تذكر
أيضا أنك طلبت مني بعد أن استمعت إلى قصتى أن أعود لمدينتي وأنتظر اتصالا قريبا
منك إن شاء الله، وبعد أيام قليلة فوجئت باتصال يستدعيني لمقابلتك في القاهرة مرة
أخرى وأسرعت إليك فسلمتني خمسا وثلاثين حقنة وطلبت مني أن أذكرك بأمري حين تقارب
هذه الحقن على النفاذ بعد أربعة شهور وعدت إلى مدينتي شاكرا ومتنا وبدأت العلاج
بالحقن وبعد كل ثلاث حقن منها أجرى بأمر الطبيب تحليلا كاملا للدم وعدا للصفائح
الدموية وكرات الدم البيضاء حتى وصلت إلى الحقنة الخامسة عشرة فقرر الطبيب إيقاف
العلاج بالحقن فورا لأن الصفائح الدموية تقل بنسبة مخيفة وأي حقنة أخرى ستؤدي
إلى النزف ، وداومت على التحليلات كل فترة عسى أن تتحسن النسبة لأعاود العلاج
بالحقن فترتفع قليلا وتعود لتنخفض وهكذا أصبح الأمل الوحيد هو عملية زرع الكبد في
الخارج التي لا أستطيع حتى تخيل تكاليفها الرهيبة . ولست بالطبع أكتب إليك لتسعى
إلى تدبير هذه الجراحة الخيالية لى کما حدث عن طريق بابك لمهندس مصري شاب في لندن
لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها . ولأن المعجزات لا تتكرر كثيرا وإنما أكتب إليك
لأستأذنك أولا في الحضور مرة أخرى لأعيد ما تبقى من الحقن وهو عشرون حقنة لعل
غيري يكون محتاجا إليها ولا يقدر على ثمنها ولأسألك أيضا ماذا أفعل مع طفلي الوحيد
المحروم الذي يبلغ من العمر أربع سنوات والذي ينام متشبثا بي إلى أن يطلع النهار
فأودعه الحضانة وأذهب إلى عملي ثم أعود فأخرجه ويلازمني حتى الصباح التالي . إن
ارتباطه بی شديد وأنا أخشى عليه من تقلبات الأيام .. وأريد أن أعوده تدريجيا على
غيبتي عنه .. لهذا أفكر في البحث عن عمل في الخارج ليعتاد غیابی ، من ناحية خاصة
إني في سن الشباب وأستطيع الصمود والتحمل ، ومن ناحية أخرى لكي أدبر له بعض ما
يعينه على الحياة في المستقبل فما رأيك في ذلك .. وهل تؤيدني في تفكيري هذا !
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
• ولكاتب هذه الرسالة أقول :
"ويخلق مالا تعلمون" .. صدق الله العظيم لعلك تذكر
أنت أيضأ أني قد أجبتك بذلك حين رويت لى عن حيرتك ووقوفك عاجزا أمام تكلفة الحقن
المطلوبة .. فإذا بريك يهييء لك بأیدی بعض عباده ما يقرب من نصف الكمية خلال أيام
قليلة وتعود بها راضيا متعجبا ..
والآن أعيد تذكيرك بهذا الجزء من الآية الكريمة مرة أخرى
وأطالبك بأن تردده لنفسك كثيرة كلما سيطرت عليك الهموم . فالمستقبل يا صديقي غيب
لا يعلمه إلا الله .. وخير ما نفعله للاستعداد له هو أن نؤدي واجبنا اليوم تجاه
الحياة على خير ما يرام ثم ندع أمر المستقبل لمن
بيده وحده أمره .. والانجليز يقولون في أمثالهم : لا
تعبر جسرا قبل أن تصل إليه ! أي لا تبالغ في الخوف من السقوط من فوق الجسر الضيق
في مياه النهر .. وأنت مازلت بعيدا عنه ولم تقترب منه بعد . فقد يشغلك خوفك من
عبور الجسر البعيد عن الاحتراس لعثرات الطريق التي تحت قدميك .. وأنت يا صديقي لم
تفقد الأمل نهائيا في العلاج بالحقن .. وإنما توقفت فقط بناء على أمر الطبيب وقد
تعود النسبة للصعود بعد وقت آخر وينجح العلاج بها بإذن الله ، وقد يهيء لك الله
أمر الجراحة التي تبدو لك الآن حلا بعيد المنال ، ولا غرابة في ذلك ولا عجب فعجلة
الحياة سريعة الدوران .. وما يجري حولنا الآن في العالم يكاد يكون من قبيل
المعجزات التي لو تنبأ بها أحد منذ سنوات لاتهمناه بالجنون . ومنذ أيام قليلة فقط
قام طبيب مصري عظيم مقيم في لندن هو الدكتور ناجی
حبيب بإجراء جراحة زرع الكبد هذه في معهد الكبد بالمنوفية لأول
مرة في تاريخها وبالأجهزة المتاحة في المعهد المصري وبمعاونة أطباء مصريين ،
وسيعود فيما علمت مرة كل شهرين لإجراء جراحات مماثلة وللإشراف على تدريب الجراحين
المصريين عليها لكي يصبح لدينا خلال عامين فقط فريق منهم يقوم بهذه الجراحة
الكبيرة بتکالیف لا تقارن بتكاليفها في الخارج .
فلماذا اليأس إذن من رحمة الله .. والحياة كما قلت لك لا تتوقف
ولا تثبت على حال ؟!
نعم .. لا بأس بأن تفكر في السفر إذا رأيته حلا لبعض مشاكلك المادية .. ولكن بدافع الأمل في حياة جديدة تعوض فيها ابنك بعض ما فقده .. وليس بهدف تعويده على غيبتك وافتقادك لأنك لا تدري من أمر غدك شيئا .. ولا تدرى ماذا تفعل غدا .. ونحن عموما لا نفر من قضاء الله إلا إلى قدره فتخل إذن عن هذه النغمة اليائسة .. واعلم أن صحة النفس تساعد الجسم على مقاومة الأمراض ، فساعد نفسك على الصمود ولا تخذل طفلك الوحيد وتشبث بالحياة كما يتشبث بك هو فذلك أفضل كثيرا لك وله .. وللجميع . وشكرا .
رابط رسالة الثمن تعقيبا على هذه الرسالة
*نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في ديسمبر عام 1991
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر