لو أنه يسمح .. من كتاب قدمت أعذاري

 لو أنه يسمح .. بقلم عبد الوهاب مطاوع

لو أنه يسمح .. بقلم عبد الوهاب مطاوع


لو أنه يسمح لى بأن أتطاول إلى أعتابه وأستشفع بشهر رمضان الكريم عنده فى أن يأذن لى بأن اكتب عنه ؟

لو أنه يسمح .. وهو من لم يخذل ضعيفا ولم يرد سائلا_إذن لكتبت عنه أنه كان _صلاة الله وسلامه عليه_متوسط الطول .. كبير الرأس إلى حد ما ، عريض الجبين فى وجهه بعض الاستدارة ، أسود العينين يوشك حاجباه أن يلتقيا وبينهما عرق إذا غضب انتفخ لكنه كان قلما يغضب ، وكان أبيض اللون مشربا بحمرة ، كبير الفم ، أفلج أى بين أسنانه تباعد خفيف ، ومشدود الجسم بلا ترهل ولا تراخ ، كبير اللحية .إذا غضب _وقلما كان يغضب _أحمر وجهه. وإذا حزن_وكثيرا ما عرف الحزن قلبه .. أكثر من مس لحيته ، وإذا رأى ما يكره أشاح بوجهه وإذا ضحك بدت نواجزه ، وكان من أكثر الناس تبسما.

هذا وجهه وهيأته اللذان حفظهما لنا الرواة ، أما عن أحواله فلقد كان بشرا كالبشر يصلح نعله ويرقع ثوبه ويخدم نفسه .. وكان فقيرا يحب الفقراء ولا يحسد الأغنياء ، كان يمضى الشهر أحيانا لا يجد ما يخبزه ويمضى الشهر والشهر والشهر ولا توقد فى بيته نار أى لا يجد ما تطهوه نساؤه ، وما شبع من خبز القمح ثلاثة أيام متتالية إلى ان اختاره ربه إلى جواره ، وكان إذا اشتد به الجوع تصبر وخفف عن نفسه ألمه بربط حزام على بطنه ، وهو من عرضوا عليه أن يجعلوه أغنى أغنياء العرب إذا ترك الدعوة لدين ربه _ورآه صحابته وهو يعمل فى حفر الخندق يوم غزوة الأحزاب والحزام مربوط على بطنه .

وكان رضي النفس لم يعب طعاما قط إذا اشتهاه أكله وإن كرهه تركه وسكت دون تحريم ، وكان على فقره ورقة حاله كريما مضيفا يعطى عطاء من لا يخشى الفقر كما وصفه الأعرابي .

وكان إذا لبى دعوة قوم للطعام لم يخرج حتى يدعو لهم ويحث أصحابه على أن يفعلوا مثله ، ودعا فى بيت سعد بن عبادة :أفطر عندكم الصائمون وأكل من طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة .. وكان يأكل بثلاثة أصابع ويجلس على الأرض ويوضع له الطعام على الأرض .

وقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين قدحا من الشعير اشتراها بالدين لطعام أهله . ومات ولم يملك يوما رداءين أو قميصين أو إزارين أو نعلين معا ، فإذا أهدى إليه ثوب جديد تصدق بالقديم .

ودخل عليه أبو بكر وعمر يوما فوجداه جالسا واجما ساكتا وحوله نساؤه ، وأراد أبو بكر أن يسرى عنه ... فقال له النبي ضاحكا : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ! فقام عمر على ابنته حفصة وأبو بكر إلى ابنته عائشة يجأ كل منهما رقبة ابنته وينهرها عن أن تطالب رسول الله بما ليس عنده ! وهو من لو قبل مال قريش أو احتفظ بنصيبه من الغنائم لكان أغنى العرب .

ولم يكن رغم ذلك يحب الفقر أو يرضاه لأمته بل كان يكرهه ويستعيذ منه ومن تأثيره المدمر على روح الإنسان ودينه وكرامته ، وكان جميلا يحب النظافة وحسن المظهر ويستخدم السواك ويتطيب أي يتعطر ويمشط شعره المتموج ولحيته ، ويتكحل بالسواد ويصحو آخر الليل فيستخدم السواك ويتوضأ ويصلى ، وكانت عائشة تضع له إذا خرج للقتال دهنا أى عطرا ومشطا ومرآة ومقصين ومكحلة وسواكا ، وكان يضع فى يده خاتما من الفضة منقوشا عليه عبارة محمد رسول الله بترتيب تنازلي هكذا : الله ، رسول ، محمد ، لأنه كره أن يعلو اسمه فوق اسم ربه .

وكان صلى الله عليه وسلم صديقا صدوقا لأصحابه ومجاملا متواضعا مع سائر الناس ، إذا ودع أحدا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون هو الذي يدع يده .

ويسوق أصحابه أمامه حتى لا يمشوا وراءه تواضعا منه ونبلا ، وناداه رجل مرة قائلا يا سيدنا وابن سيدنا فقال له : لا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد اللاه ، عبد الله ورسوله وما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي .ودخل السوق مع أبى هريرة يشترى شيئا فوثب وزاَّن_أى بائع_على يده يقبلها فجذب يده وقال : هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم . ثم حمل حاجته ورفض أن يسمح لأبى هريرة بحملها عنه قائلا : صاحب الشئ أحق بحمله .

وكان يخدم نفسه بنفسه رغم تلهف أصحابه وأكابر قومه على أن يقوموا عنه بما يحتاج إليه . وكان يمشى مع الأرملة والمسكين فيقضى حاجتهما ويخصف حذاء الرجل المسكين ويخيط ثوب الأرملة ويعول المريض فى مرضه ، ومرض غلام يهودي كان يخدمه فزاره فى مرضه ودعا له بالشفاء .

وكان حليما صبورا عادلا لا يرضى لأمته بالظلم ولا يرضى لها بالسكوت عليه ويرى لكل امرئ أن يعبر عن رأيه ويطلب حقه بلا حرج ، جلس يقسم الغنائم بعد إحدى الغزوات فاعترض أعرابي على قسمته وقال له : أعدل يا محمد ! فلم يغضب ويأمر بقطع رقبته وإنما قال له فى حلم : ومن يعدل إذا ما لم أعدل أنا ! وإذا كنت لا أعدل فقد خبتُ إذن وخسرتُ . ثم منع عمر بن الخطاب من أن يقتله قائلا : معاذ الله أن يتحدث الناس أنى قاتل أصحابي .

ودفع رجلا فى بطنه بجريدة من النخل فطلب الرجل حقه فى القصاص من النبي ، فاستجاب له على الفور ورفع قميصه عن بطنه ليضربه فانحنى الرجل وقبل بطن النبي وقال : إنما أردت أن يرتدع الجبابرة من بعدك !

وكان متواصل الأحزان دائم الفكر ورقيق العاطفة . رزئ فى كل بنيه فلم تبق له منهم على قيد الحياة سوى فاطمة وحتى هى أيضا لبت نداء ربها بعد موته بستة شهور ، ورزق وهو فى شيخوخته بطفل ففرح به وكان يصعد الجبل ليراه عند مرضعته وعاش الطفل 18 شهرا ثم مات فحزن لموته وبكى ، وصرخ أسامة بن زيد لبكائه فنهاه وقال : البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان . وكسفت الشمس فتحدث الناس بأنها كسفت لموت إبراهيم ، وسمع النبي بما قيل فوقف على المنبر يقول : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته .

وشهد احتضار حفيد له من ابنته زينب ففاضت عيناه بالدمع وتساءل سعد : ما هذا يا رسول الله ! قال : هذه رحمة وضعها الله فى قلوب من شاء من عباده ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء .

وزار سعد بن عبادة وهو مريض فبكى تأثرا بحاله وبكى شهداء غزوة مؤتة وفيهم جعفر بن أبى طالب ومولاه زيد ، وسألوه ما هذا البكاء والشهداء فى أعلى عليين ؟ فقال ما معناه إنما هى عبرات الصديق شوقا إلى صديقه .

وكان رقيقا فى معاملة مواليه فأعتق كل أسير صار إلى حوزته فى الغزو وزاد على العتق رحمته بالخدم والضعفاء .

وقالت عنه السيدة عائشة : ما ضرب رسول الله بيداه امرأة قط ولا خادما ولا ضرب شيئا إلا أن يجاهد فى سبيل الله .

وكان وهو يقيم دينا ويصلح حال أمة ويغير مجرى التاريخ لا تشغله عظائم الأمور عن مجاملة الأصحاب والأهل والتبسط مع عامة الناس ... والاستجابة لدعابتهم البريئة أحيانا . فكان رغم أحزانه كثير الابتسام يضحك حتى تبدو نواجذه ويمزح مع أصحابه ولا يقول إلا جدا . وكان يرتجز مع المسلمين وهم يحفرون الخندق ويرفع صوته مع المرتجزين أثناء العمل ويشاركهم الترجيع كما يشاركهم الحفر .

وقال ما معناه : روحوا عن القلوب ساعة بعد أخرى فإن القلوب إذا كلَّت عميت .

وكان وهو أصدق العابدين فى عبادته يقسم أيامه ثلثا لربه وثلثا لأهله وثلثا لنفسه ، ويدعو إلى العمل وطلب العلم وإلى التمتع بطيبات الحياة بلا زهد ولا إفراط ويقول عن نفسه :إني أتزوج النساء وأكل اللحم وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب فى سنتي فليس منى .

ودعانا للتفكير فى خلق الله واجتناب التفكير فى ذات الله حتى لا نضل فى متاهات الحيرة وقال (( تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله )) .

وكان عطوفا على اليتامى ويحث الناس على الرفق بهم والعدل معهم ويقول : (( من وضع يده على رأس اليتيم رحمة كتب الله له بكل شعرة مرت على يده حسنة ويحب الستر على عورات الناس وأخطائهم ، عسى أن يتوبوا توبة صادقة عنها . وقال لهزال الأسلمى حين جاءه بيتيم تحت رعايته معترفا بارتكاب الزنا : (( يا هزال بئس ما صنعت بيتيمك لو سترت عليه بطرف ردائك لكان خيرا لك ))  .

ثم يراجع اليتيم فى اعترافه مرات ومرات لعله يرجع فى اعترافه فلا يرجع ويأمر بتنفيذ الحد عليه .

وكان يكره الوشاية والوشاة والتجسس على أعراض الناس وعوراتهم وقال : من اطلع فى بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه .. فلا دية له ولا قصاص .

وقال : لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا .. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر .

وكان رفيقا بزوجاته ويحث الآخرين على الرفق بزوجاتهم والتلطف معهن وقال : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله وأنا ألطفكم بأهلي .

وأمر من استأمروه فى أمر زواج ابنتهم أن يزوجوا ابنتهم للفقير الذى ترغبه وليس للثرى الذى يريدونه لها على غير رغبتها وقال : لم نر للمتحابين مثل النكاح .

وكان يسمر مع زوجاته ويصبر على شكواهن من ضيق معيشته .. ويتبسط معهن . وهيأ لعائشة أن تتفرج على رقص أهل الحبشة وغنائهم فى باحة المسجد ، وسابقها مرتين فسبقته مرة وسبقها أخرى وقال لها هذه بتلك وكان يقبلها وهو صائم .. وكان يعود من سفره أو غزوه إلى المسجد فيصلى ويرسل من يعلم زوجاته بعودته حتى يستعددن للقائه ولا يرى منهن ما لا يحببن أن يراه . ويعطف على البنات ويوصى الآباء والأمهات بالرفق بهن ، وروى له رجل كيف وأد ابنته فى جاهليته وقبل إسلامه فبكى ونزل دمعه على لحيته حتى صاح أصحابه : كفى يا رجل أحزنت رسول الله . فنهاهم ودعاه لمواصلة الحديث . وقال : من ربى ابنتين جاء يوم القيامة وأنا وهو هكذا. وضم إصبعيه بمعنى متجاورين .

ودعا للبر بالوالدين والرفق بالأهل وإحسان الصحبة للأصحاب والناس جميعا . وكان يتقدم أصحابه فى الجهاد .. وكان كما قالت عائشة : من أكثر الناس استشارة للرجال وهو من كان يتلقى الوحي من السماء ، ونزل عن رأيه بلا غضاضة حين أراد أن يعسكر بجيشه الصغير فى موقع فسأله أحد رجاله : أهو منزل أنزلكه الله أم هى الحرب والرأي والمكيدة ؟ فأجابه : بل هي الحرب والرأي والمكيدة . فاقترح الرجل منزلا آخر أكثر ملاءمة من الناحية الحربية واستجاب الرسول لا قتراحه حين رأى وجاهته .. وحج النبي وخطب الناس وتلا قوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا  )) ( المائدة :3 ) فبكى أبو بكر وأحس بأن النبي وقد تمت رسالته فقد دنا يومه .. ورجع النبي إلى المدينة فبدأ يحس بألام مرضه ، مر بعائشة فوجدها تشكو صداعاً وتقول : وارأساه ، فداعبها رغم مرضه وقال : بل أنا والله يا عائشة وارأساه .. واشتد به المرض فاستأذن نساءه فى أن يرقد فى بيت عائشة ، واشتدت به الحمى فكان يخرج للصلاة بالناس بغير أن يقوى على محادثة أصحابه . ولم ينس مسئولياته فأوصى بإيفاد بعث أسامة على رأس الجيش الذاهب إلى الشام ، وأوصى المهاجرين بالأنصار وأمر أبا بكر بأن يصلى بالناس ، وكانت له مخدة من جلد حشوها ليف وينام أحيانا على عباءة تثنى مرتين . فرقد مريضا فى بيت عائشة واشتد به الألم فكان يضع يده فى إناء به ماء بارد ويمسح على وجهه ليخفف عنه ألم الحمى ، وغشي عليه أكثر من مرة وبكت فاطمة مما رأت وقالت : واكرب أبتاه فأفاق وقال لها لا كرب على أبيك بعد اليوم . وزاره أسامة وقد عجز - بأبى هو وأمى- عن الكلام فرفع يده إلى السماء ووضعها على رأس أسامة علامة على أنه يدعو له بالتوفيق . واشتد به الألم فوضعت عائشة رأسه فى حجرها والناس من حول بيت النبي يبكون والصحابة تفيض عيونهم بالدمع على حبيبهم الذى سكت عن الكلام ، ثم أحست عائشة برأس النبي يثقل فى حجرها فنظرت فى وجهه ووجدت بصره قد شخص وهو يقول : بل الرفيق الأعلى من الجنة . فقالت له : خُيرَّت فاخترت والذى بعثك بالحق . وقبض رسول الله كما قالت وهو بين سحرها_أى صدرها_ونحرها فوضعت رأسه الشريف على وسادة الليف وقامت تلتدم مع النساء وتبكى مع الباكين .

سلام الله وصلاته عليه . عليه أفضل الصلاة ... وأزكى السلام .


  نشرت في كتاب قدمت أعذاري

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات