شيء من الرومانسية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 

بريد الجمعة 1984 كتاب أصدقاء على الورق عبد الوهاب مطاوع

شيء من الرومانسية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


 في بريدي اقرأ وأرى العجب .. أرى الحياة من جانبها المؤلم .. وأری العلاقات الإنسانية في أسوأ ظروفها .. وأرى الدنيا في صورتها البشعة . ولقد رأيت كل ذلك وأنا اقرأ هذه الرسالة المزعجة .

عبد الوهاب مطاوع


أعتقد أن الوقت قد حان لکي أروي لك قصتي بعد أن ترددت طويلا .

إنني شاب مهندس خريج كلية هندسة منذ شهور ، أبي يعمل بأحد البنوك في إحدى الدول العربية وحالتنا المالية جيدة جدا والحمد لله ولدي سيارة "بي . ام . دبليو" ، وخلال دراستي بالكلية تعرفت على زميلة بالكلية جميلة من أسرة ميسورة تركب هي الأخرى سيارة مازدا فاخرة وقد سعت إلى التعرف علي وإلى التقرب مني لأني كما قالت لي بنص كلماتها شاب رائع من كل الوجوه .. وسيم من أسرة طيبة له شخصية محبوبة من الزملاء وتعجب به كل فتيات الكلية واستجبت لتقربها مني .. وأقبلت عليها وتعرفت على أسرتها وهي أسرة كبيرة فوالدها موظف كبير بالمعاش وإخوتها مهندسون ومحامون واتفقنا على الزواج وعلى أن نتزوج عقب التخرج وخلال هذه الفترة كانت تصاحبني في كل مكان فإذا جاء موعد استلامي للشيك الشهري الذي يرسله لي والدي من الخارج لأنفق على نفسي وإخوتي منه ، اصطحبتها معي إلى تاجر العملة الذي أتعامل معه ، وهو عالم غريب بالفعل .. فتاجر العملة هذا يمارس نشاطه في مكتب فاخر بوسط المدينة تدخل عليه بعد استئذان السكرتيرة وتجده جالسا على مكتب فخم فوقه 4 أجهزة تليفون ملونة ، فأقدم له الدولارات فيفتح خزينة داخل ، بلاکار، في الحائط خلفه ويضع الدولارات ثم يخرج النقود ويسلمني قيمتها وتكرر ذهابنا إليه كثيرا مرة لنفسي ومرة لأبدل لها هي الأخرى دولارات تصل إليها كثيرا من شقيقتها المتزوجة والمقيمة بالخارج.

وتحولت العلاقة إلى صداقة وفي كل مرة يطلب منا البقاء قليلا للتحدث معنا لأنه "مرهك" من العمل .. وهذه عبارته المفضلة وينطقها بالكاف هكذا .. وهو كما عرفت قد بدأ حياته عصاميا يكاد لا يفك الخط وكان قبل 10 سنوات فقط يعمل مناديا للسيارات أمام أحد البنوك وقد روی لنا ذات يوم وهو يقدم لنا عصير التفاح ويشعل سيجارا فاخرا قصة كفاحه .. فقال إنه حين بدأت "هوجة"  السفر والدولارات بدأ يعمل سمسارا لبعض تجار العملة يصطاد لهم عملاء البنك الذين يتلقون التحويلات من الخارج ويقدمهم للتجار الذين يقفون بجوار البنك مقابل عمولة ، وكان حصيفا فلم يبدد ما كسبه من هذه العملية .. فتكونت لديه مدخرات صغيرة بدأ يتاجر بها لحسابه في العملة .. وبعد عامين فقط من التجارة أمام البنك كان قد أصبح "غنيا"  ! فاشترى غرفة بأحد مكاتب وسط المدينة واستأجر السماسرة ليجلبوا له العملاء وبعد عامين آخرين وعلى حد تعبيره "انفتحت الحنفية" عليه يقصد حنفية الفلوس ! فضخم نشاطه وتضخمت أرباحه وتحولت الغرفة الواحدة إلى شقة كاملة .. وأصبح له سكرتيرات وسعاة وسيارات وشقة فاخرة في المهندسين .

سمعت منه قصته بدهشة وسمعتها خطيبتي بانبهار ثم لاحظت أنه بعد هذا اللقاء بدأ الخلاف ينشب بيني وبينها .. وبدأت فترات الشقاق تطول ولم يطل بنا الوقت حتى كانت خطبتا قد فسخت .

قد لا ترى في ذلك شيئا غير عادي فكم من خطوبات تفسخ كل يوم لكنك ستدهش حين تعرف ماذا حدث بعد ذلك فعند وصول الشيك التالي من الخارج ذهبت إلى مكتب تاجر العملة لأصرفه وحيدا هذه المرة ففوجئت بخطيبتي السابقة المهندسة خريجة "الميری دیيه"  تجلس على مكتب السكرتيرة ! ..صدمت .. لكنها كانت واقعية أكثر مني فرحبت بى بتحفظ كأني مجرد زبون ثم أخبرت البيه بوصولي وأشارت إلي لأدخل بيد مغطاة بخواتم السوليتير .

دخلت فرحب بي الرجل بواقعية أشد وأنهى المهمة سريعا ثم قال لي .. إني أعطيك سعرا خاصا إكراما لك لأنك صاحب فضل فقد غرفتي بالمدام ! أي مدام ؟ لقد ظننت أنها تعمل معه فقط .. فإذا بها .. المهندسة التي تجيد الفرنسية والانجليزية .. بنت الأسرة الكبيرة قد تزوجت من هذا الرجل وتم الزواج خلال شهر واحد من فسخ خطبتنا !


ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إنه ليس لغزا يا صديقي .. لكنه تدرج منطقي للأحداث يتفق تماما مع شخصية خطيبتك السابقة فهي بساطة شديدة فتاة انتهازية سعت إليك في البداية لأنها رأت فيك زوجا مناسبا مقبول الشكل متیسرا تركب سيارة فاخرة وتستطيع أن توفر لها شقة الزواج واحتياجاتها لكنها حين تعرفت على "القرد"  رأته أكثر ملائمة لها وأسرع وصولا بها إلى الثراء .. فتخلت عنك ببساطة وذهبت إليه . فهي باحثة عن الحياة اللذيذة الزاهية الألوان لا عن الحياة السهلة العادية التي ستوفرها لها . ولا دخل للمشاعر العاطفية فيما فعلت معك أو معه . وآسف لأن أقول لك ذلك ففي صدر فتاتك هذه آلة حاسبة لا قلبا ينبض بالمشاعر .. وقد حسبت حسابها ووجدته رابحا أكثر معه فتزوجته . والمؤسف أن كثيرات ممن يتعاملن مع الحياة بهذا المنطق التجاري هن غالبا في حكم القادرات ، ولسن من غير القادرات كما قد يتصور البعض وكما تحكي الأفلام وصدقني أنني كنت على استعداد لتقدير ظروفها لا للاقتناع بها لو كانت قد تزوجته بحسابات عاطفية مهما كانت مستغربة أو لو كانت تزوجته ليأسها من إمكان عثورك على شقة للزواج كما تفعل بعض الفتيات الآن اللاتي يفضلن - مضطرات وفي عصر تراجع الرومانسية أمام صعوبة الحياة - الزوج الجاهز مهما كانت سنه ومهما كان عمله ومهما كانت ظروفه الاجتماعية والثقافية .

إن الجريمة في قصتها ليست فقط في أنها تركت شابا رائعا مثلك لتتزوج من "بلاكار"  نقود ، لكن الجريمة في أنها قبلت زوجا کھلا متزوجا وله أبناء كبار وزوجا شبه أمي سوقيا لا يقنع أية فتاة سوية مع ظروفه كزوج وأب إلا فتاتك الانتهازية هذه . وأنا أصدقك في أنك غير حزين عليها فمثل هذه الفتاة لا يحزن الإنسان لفقدها وإنما يسعد ويشكر ربه أن أنقذه منها وفضح شخصيتها الحقيقية قبل أن يرتبط بها ، فليس مما يسعد الإنسان بكل تأكيد أن يتزوج من ماكينة حاسبة لا مكان للمشاعر والعواطف والرومانسية في حياتها .. وهي سوف تدفع ثمن انتهازيتها أقرب مما تتصور فالثروة التي أغرتها هي في النهاية ثروة طفيلية وستقرأ اسم زوجها واسمها هي أيضا قريبا جدا في أخبار المدعي الاشتراكي والحراسات وساعتها سوف تتطاير الثروة وسوف تتخلى عنه بأسرع من البرق .. والحمد الله أن مثيلاتها من "دعاة الواقعية الجديدة" لسن كثيرات فقط وعلينا أن ندعو الله كل يوم ألا تغيب القيم والفضائل والرومانسية عن حياتنا فلولاها لما قبلت فتاة الزواج من

خريج جديد لتكافح معه .. ولولاها ولولا الطبيعة السوية لفتياتنا لانطلقن يبحثن عن "قرود" هذا الزمان القبيح الذي تنهزم فيه أحلام الشباب أمام " الباکو"  "والأرنب" ، وخواتم السوليتير .

شيء أخير لقد قلت لي في رسالتك هذه إنها من عائلة كبيرة وأن أباها موظف كبير على المعاش وإخوتها محامون ومهندسون فأين هي هذه العائلة الكبيرة ؟ .. وأين الأب وأين الإخوة المهندسون والمحامون الذين وافقوا على زواجها من هذا اللص المتزوج ؟ أي عائلة كبيرة هذه ؟.

رابط رسالة نهاية القصة من كاتب الرسالة بعد عامين

  *نشرت سنة 1984 في جريدةالاهرام باب بريد الجمعة


راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات