نهاية القصة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
أكتب إليك للمرة الثانية وبعد عامين من رسالتي
الأولى إليك والتي نشرتها في بريدك بعنوان "شيء من الرومانسية" ، وقبل
أن تجهد نفسك لتذكرني سأحاول أن أذكرك بنفسي.
إنني يا سيدي المهندس الشاب الذي يعيش مع شقيقيه
في القاهرة ويعیش والده في إحدى الدول العربية حيث يشغل منصبا كبيرا في أحد البنوك
ويتقاضی مرتبا ضخما ، ولقد رويت لك في رسالتي الأولى قصتي حين تعرفت خلال عامي
الأخير في الجامعة بفتاة طموح كانت زميلتي بالهندسة ومن أسرة كبيرة وأنها تملك
سيارة مازدا وأنها صارحتنی بأنها أعجبت بي وأنها رأت في شابا لائقا بها . فتصادقنا
وتبادلنا المشاعر وقدمتني لأسرتها .. وقدمتها لشقيقي وشقيقتي في انتظار عودة أبي وأمي
في الأجازة لإتمام الخطبة وعقد القران خاصة وان ظروفي المالية حسنة واستطيع توفير
الشقة ولدي سيارة خاصة.
وقلت لك إني كنت قد اعتدت طوال السنوات الماضية
أن أتلقى من أبي شيكا بمبلغ شهري بالدولارات أصرفها من البنك لأتولى الإنفاق على
نفسي وشقيقي وشقيقتي وأنني اذهب أول كل شهر إلى أحد تجار العملة الذي يتخذ لنفسه
مكتبا فاخرا في وسط المدينة فأحول الدولارات إلى جنيهات مصرية وأني کنت اصطحب
خطيبتي معي كل مرة أذهب إليه حتى دعانا التاجر مرة للجلوس معه لبعض الوقت وحكى لنا
قصة حياته وكيف أنه بدأ مناديا للسيارات أمام أحد البنوك .. ثم تاجر في العملة مع
رواد البنك ثم راجت تجارته وأصبح ثريا ومليونيرا خلال أعوام قليلة وأصبح يمتلك
سيارة مرسيدس ويسكن في أرقى الأحياء ويرتدي خاتما كبيرا من الماس .. وتتدلى من
رقبته سلسلة بها قطعة من الذهب في حجم البرتقالة .. وقلت لك إني لاحظت بعد هذه
الزيارة بالذات آن العلاقة بيني وبين خطيبتي قد فترت وأن المشاكل كثرت بيننا حتى
فاجأتني ذات يوم بطلب فسخ الخطوبة ونسيان كل شيء لأننا لا نصلح لبعضنا ، وانقطعت
عن رؤیتي .
وتجرعت الآلام
وحاولت نسيانها ثم جاء موعد صرف الشيك التالي فذهبت إلى مكتب تاجر العملة ففوجئت
بوجود خطيبتي السابقة تجلس على مكتب السكرتيرة في الصالة . فاستقبلتني بنظرات
محايدة كأنها لا تعرفني وبهدوء قاتل رفعت سماعة التليفون الأحمر المسخسخ على مكتبها
وأبلغت صاحب المكتب بوجودي ثم أشارت لباب مكتبه وقالت لي تفضل ، فدخلت مندهشا من
أنها وهي المهندسة التي على وشك التخرج قررت العمل في هذا المكتب وهي غير محتاجة
للعمل خلال الدراسة ، ثم تكشفت لي الحقيقة المذهلة بعد لحظات على لسان التاجر نفسه
الذي قابلني بالترحيب الحار والابتسام وأعلني أنه سيعطيني سعرا خاصا هذه المرة لأن
لي إعزازا خاصا لديه إذ إنني كنت سبب تعرفه ، بالمدام !.. أي بخطيبتي السابقة .. ولحظتها أفقت على
الحقيقة .. وعرفت سر الأساور والخواتم الماسية التي رأيتها ترتديها .. وأيضا سر
الماكياج الثقيل الذي تضعه على وجهها والذي يكسبها سحنة غريبة .. واكتشفت انه قد
تزوجها واسكنها في شقة فاخرة وألحقها بمكتبه وكل ذلك في أقل من شهر واحد.
اعتقد انك الآن
قد تذكرت كل شيء .. وتذكرت أني كتبت لك شاکیا خطيبتي التي فضلت علي تاجر عملة شبه أمي
وفوق الأربعين ومتزوجا وله أبناء كبار وشكله "كالقرد" ، لان سيارته
مرسيدس ، وملايينه عديدة و"شبكته" من الماس ولابد انك تذكر أنك نصحتني
بنسيانها إلى الأبد لأنها انتهازية اختارتني من بين زملائي بسبب بعض مظاهر الثراء
التي توسمتها في فلما أتاحت لها الظروف زيجة أكثر ثراء ترکتنی بلا قلب لتتزوج من
ملايين رجل أمي مشبوه .. بلا عاطفة ولقد عملت بنصيحتك يا سيدي وحاولت نسيانها
ونسيتها بالفعل بعد فترة من العذاب أحسست خلالها بأني لا شيء .. وكرهت خلالها
الدنيا وغدر البشر وفقدت الثقة في الوفاء .. لكني لا أكتب لك هذه الرسالة لأقول لك أني نسيتها وعدت
إلى حياتي الطبيعية .. وأني أكتب لك لأروي لك الفصل الثاني من قصة خطيبتي السابقة
لعل فيها عبرة لمن يعتبر .
لقد أمضيت
شهورا سوداء عقب اكتشافي زواجها من تاجر العملة . وواجهت حرجا شديدا تجاه أبي وأمي
اللذين بارکا خطبتي في رسائلهما . واشتريا لي الشبكة من مقر إقامتهما وراحا يرتبان
لعقد القرآن في الصيف وترددت فيما يجب أن اقوله لهما .. لكني رأيت بعد تفكير أن
الصدق هو الحل الوحيد فصارحت شقيقي وشقيقتي بحقيقة ما حدث وتركت لهما إبلاغ أبي وأمي
، وانصرفت لعملي .. واجتهدت ألا أراها وألا اذهب للكلية لكيلا نلتقي .. وغيرت تاجر
العملة الذي أتعامل معه بالطبع .. ومع ذلك فلقد رأيتها ذات يوم على كوبري الجامعة
إذ كنت عائدا إلى بيتي .. فوقفت سيارتي خلال زحام المرور إلى جوار سيارتها
المرسيدس الجديدة التي يقودها سائق خاص وهي تجلس في الخلف وحيدة رافعة الرأس كأنها
ملكة ! تنظر حولها بكبرياء وتأفف من زحام الطريق .. فالتقت عينانا .. فتوقعت أن
تخفض عينيها خجلا مني .. فإذا بها تنظر إلي بثبات وبلا أدني إحساس بالخجل ثم تهز
رأسها بتحية عابرة وتنطلق بالسيارة في طريقها الجديد !.
وكم أتعسني هذا اللقاء ، لا لشيء
إلا هذا البرود المتحجر ولأنها لا تشعر تجاهي بأي إحساس بالذنب بعد أن جرحتني جرحا
غائرا وشككنني في نفسي وفي كل شيء .. وأصبح لا يربطني بها شيء سوى ما أسمعه بين
حين وآخر من زملاء الكلية القدامى عنها وعنه ، ومنه أن زوجها قد توسع في أعماله وأنه
أصبح يمارس إلى جانب تجارة العملة تجارة العمارات لكي يخفي نشاطه الأساسي في تجارة
العملة ولكي يزيد من أرباحه وليبني لزوجته الجديدة شقة فاخرة على مساحة 4 شقق ،
وأنه عين والدها المدير العام السابق موظفا عنده بمرتب ضخم إرضاء لعيون المدام .
وعجبت كيف قبل المدير السابق أن يعمل تحت إمرة رجل لا يفك الخط .. فضلا عن أن يصاهره ؟
... وهو كما عرفت من أسرة كبيرة وأبناؤه مهندسون ومحاسبون الخ .
ومع إحساسي
بالمرارة .. فلقد واصلت حياتي إلى أن دارت الأيام دورتها وإذ بي ذات صباح أقرأ في
الصحف خبر القبض على زوج حبيبتي الخائنة ، تماما كما تنبأت أنت في ردك على رسالتي
الأولى ثم توالت الأخبار كالمطارق فوق الرؤوس .. فتبين أنه قد حصل على مقدمات
إيجار بالملايين من السكان وتوقف عن استكمال بناء أكثر من عمارة كان يقوم ببنائها
في وقت واحد منها العمارة التي كان يعد لها فيها عش الأحلام ثم جاءت هوجة مخالفات
مواصفات المباني وقرارات إيقاف البناء فهجم المستأجرون عليه لاسترداد مبالغهم التي
دفعوها في وقت واحد .. فعجز عن الدفع فقدموا بالبلاغات ضده فأمرت النيابة بالقبض
عليه فإذا بالمدعي الاشتراكي يتحفظ على كل أمواله ليحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من
حقوق المستأجرين .
وسمعت ما هو
أغرب من ذلك .. فعرفت أنها كانت صاحبة المشورة "الثمينة" له بأن يدخل
عالم بناء العمارات لتصبح مهندسة ومالكة عمارات بدلا من زوجة تاجر عملة .. وأقنعته
بأن المطلوب هو فقط شراء قطعة أرض ووضع لافتة عليها بإسمه . وبعدها سوف تنهال عليه
الملايين من راغبي الاستئجار ففعل ذلك فعلا .. وانهالت عليه مقدمات الإيجار حتى
جاء عليه وقت كان يستعين فيه ب ٣ موظفين لعد النقود التي يتسلمها من المستأجرين .
وبدلا من أن یبنی عمارة واحدة كما كانت الفكرة في البداية قرر أن یبنی أكثر من عمارة فعجزت إمكاناته عن استكمالها .. وتدهور إلى الهاوية مع تطورات الأحداث المفاجئة .. ربما تقول لي وما شأنك بكل ذلك .. وقد خرجت من حياتك فأقول لك إن خطيبتي السابقة .. بحاستها المرهفة قد أحست بقدوم الزلزال قبل وقوعه بلحظات .. فأقنعت زوجها "ولا اعرف حتى الآن كيف نجحت في ذلك" بأن يطلقها بصفة مؤقتة لكي لا يشملها أي قرار بالتحفظ على أمواله وأموال أسرته .. لكي تستطيع أن تسانده خلال مرحلة القضايا والمحاكم بما تنجو به من ثروته .
وبالفعل طلقها
قبل فرض التحفظ على أمواله بفترة قصيرة ، فنجت بالسيارة المرسيدس ومجوهرات ومدخرات
كبيرة .. في حين خرجت الزوجة الأولى من المولد بلا حمص ! .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
إني أيضا - وليغفر
لي الله هذا الإحساس الشائن - أشعر معك بالشماتة
فيها ! فلقد
تذكرت رسالتك الأولى . وتذكرت كيف أثار تصرف هذه الفتاة معك حنقي لما آل إليه حال
البعض في مجتمعنا ممن وضعوا داخل صدورهم آلات حاسبة في مكان القلوب وأصبحوا يقيسون
كل شيء حتى العواطف بمقياس النقود والمرسيدس وخواتم السولتير بلا أي معيار آخر .
حتى لتقبل هذه المهندسة سليلة الأسرة "الكبيرة" أن تتزوج بقرد أمي صاحب
ثروة مشبوهة متزوج وله أبناء كبار من أجل مزيد من المال ومن أجل شقة على مساحة 4
شقق بدلا من شقة متوسطة المساحة معك .. لقد قلت لك في ردي الأول أنها فتاة
انتهازية .. وأن فقد مثل هذه الفتاة نعمة لا نقمة كما قد تتصور وأنك حسن الحظ أنها
قد كشفت عن معدنها قبل أن ترتبط بها ارتباطا نهائيا .. وتوقعت لها أن تقرأ أخبارها
وأخبار زوجها في أخبار الحراسات والمدعي الاشتراكي . ولم أتوقع أن يصدق التوقع
خلال هذه الفترة القصيرة ! لكن ما بني على خطأ فهو خاطىء .. وليت هذه القاعدة تصدق
مع الجميع دائما .. اذن لإنصلحت الأحوال ولما فقدت القيم معناها ، ولما انهزم شاب
مثلك أمام لص مشبوه کهذا اللص ، ولما أحس الشباب بالعجز والإحباط والهزيمة الشخصية
أمام قرود هذا الزمان الرديء .
تسألني عن
رأيي فأقول لك .. ابتعد عن هذه الفتاة يا صديقي فلا حياة لك معها ولا أمان ولا
مستقبل ، لا لأنها اخطأت هذا الخطأ الانتهازی فقط ، وإنما لأنها لا تشعر في قرارة
نفسها بأنها قد أخطأت في حقك أو في حق نفسها ولا يساورها تجاهك أي إحساس بالذنب.
وهذه هي الكارثة . فلو أنها عادت إليك باكية..
نادمة قائلة أنها قد اكتشفت أن المال وحده لا يحقق السعادة ، وأنها أخطأت ، وعرفت أنها
قد ضلت الطريق وعادت إليك لأنها تحبك وترغب في أن ترتبط بك للأبد ، وأنها لن تغضب
حتى لو احتقرتها لأنها تستحق الاحتقار فعلا ، لكنها تحبك وتريد الزواج بك ، لو
قالت لك شيئا من ذلك واستشعرت صدقها لربما ترددت وفكرت في أن أنصحك بالصفح عنها
والارتباط بها .
لكنها يا صديقي مازالت تتحدث معك بنفس المنطق الحسابي البارد الذي تصرفت على أساسه في حياتها ولا ترى فيما فعلت أي خطأ .. وهذا يعني أن الآلة الحاسبة مازالت بين ضلوعها .. وأنها لم تتعلم شيئا من التجربة التي مرت بها ، ويعني أيضا أنها فتاة اعتادت أن تنال ما تريد بغض النظر عن مشاعر الآخرين وإرادتهم ، وأنها تريد أن تجمع كل شيء بين يديها بلا أية خسائر من جانبها ، فتحصل على المال من القرد إياه .. وتحصل على الشباب والوسامة والعائلة الكريمة منك .. وحتى إشعار آخر . أي حتى تظهر لها فرصة أفضل سواء قبل الارتباط معك .. أو بعده ، وهذه كلها أشياء مخيفة .. وفتاتك هذه فتاة جبارة ولا يؤمن لها جانب .. فهل تريد أن تتزوج من "دراكيولا" مصاصة للدماء بلا أي عاطفة .. ولا إحساس بالذنب ؟ .
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر