الوجه الجامد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

  

بريد الجمعة 1994 كتاب طائر الأحزان

الوجه الجامد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

العقل وحده ليس كافيا لأن يحمينا من الوقوع فى الأخطاء لكنه يجنبنا على الأقل الوقوع فى الشراك المفضوحه التى لا تخفى على صاحب بصيرة .. فى حين تعلمنا تجاربنا وتجارب الآخرين أن نتفادى تكرار الأخطاء .. ونتجنب مهالك السابقين ومصارعهم بقدر الإمكان.

عبد الوهاب مطاوع


قرأت رسالة "سهرة عائلية" .. للزوجة التي أصيب زوجها في حادث وقبع في البيت بلا عمل فكافحت هي لإعالته وإعالة أبنائه وعملت في الخارج عامين أرسلت إليه خلالهما معظم عائد عملها .. ثم تم ترحيلها وعادت فجأة للقاهرة فوجدت زوجها قد تزوج من الأرملة الطروب التي كلفتها برعاية أولادها خلال سفرها .. ووجدت الأسرة مكتملة في سهرة عائلية هادئة أمام التليفزيون، فصدمت صدمة العمر وغادرت البيت وحصلت على الطلاق وهي تتعجب مما تفعله الأيام ببعض القلوب .. وأريد أن أروي لك ولهذه السيدة قصتي أنا أيضا مع الأيام، فأنا رجل في الخامسة والأربعين من العمر، نشأت في أسرة عادية متوسطة الحال بين أب طيب وأم حنون وثلاث شقيقات، ولأنني جئت إلى الحياة بعد ولادة متعسرة، فقد كانت أمي شديدة الخوف علي في طفولتی وتصحبني معها في كل مكان تذهب إليه فنشأت على حنان الأم والأب والشقيقات وكنت دائما محور اهتمامهم جميعا باعتباري الولد الوحيد، وحين كبرت لم تكن لي أية تجارب عاطفية حتى بعد أن تخرجت وعملت وبلغت الثلاثين من عمري .. واضطرت أمي لأن تبحث لي بنفسها عن عروس، ورشحت لي ابنة إحدى صديقاتها في العشرين من عمرها.. والتقيت بها فأعجبني هدوؤها وتحفظها معي في فترة الخطبة.. وتطلب إعداد شقة الزوجية التي اشتريتها بضعة شهور لكنها أقنعتني بأن نتزوج في شقة أبي وأمي لكي نستفيد بثمن الشقة الأخرى في حياتنا، خاصة وأن شقة أبوي ستؤول لي في النهاية بعد زواج شقيقاتي .. وسعدت برغبتها وتعجلنا الزواج وبعت الشقة الأخرى واشتريت بنصف ثمنها سيارة صغيرة مستعملة واشتريت لزوجتي بالباقي ذهبا ومصوغات.

وبدأنا حياتنا الزوجية وأنجبنا طفلة وسرعان ما احتدمت المشاكل بين زوجتي وأمي وتحولت الحياة في بيتنا إلى نار مشتعلة يتعذر احتمالها وحرصا على مصلحة طفلتي ورعاية لكرامة أمي فقد بدأت البحث عن عمل في الخارج لأستطيع شراء شقة مستقلة لنا وسافرت للعمل بإحدى الدول العربية واصطحبت معي زوجتي وطفلتي .. وعشنا في الغربة أجمل سنوات العمر أنجبت خلالها طفلا آخر وكانت زوجتي طوالها نعم الزوجة المحبة الحريصة على مستقبلنا معا.

وبعد سنوات أقنعتني زوجتي بشراء شقة لنا في مصر فاشتريت شقة فاخرة ووضعت في ثمنها معظم مدخراتي خلال خمس سنوات من الغربة .. وأصبحنا نعود إليها في الأجازات.. وبعد ذلك أقنعتني زوجتي بعدم الإسراف في الإنفاق لكي نستطيع أن نؤثث شقتنا بالأثاث المناسب ونؤمن مستقبل الطفلين .. وقدرت لها حرصها على مصلحة الأسرة واستجبت لها وحرمت نفسي من كل متع الحياة لادخار المبالغ المطلوبة لذلك.. وادخرنا بالفعل مبلغا لا بأس به ثم وقعت كارثة شركات توظيف الأموال فأقنعتني زوجتي بأنه من الحكمة أن تكون مدخراتنا في يدنا باستمرار تحسبا للتقلبات وبأن الأفضل أن تكون دائما في شكل مصوغات ذهبية تزداد قيمتها مع الأيام ونستطيع التصرف فيها حين نشاء.. واقتنعت برأيها .. بل ورأيت فيه عين الحكمة فأصبحت كل مدخراتي تتحول أولا بأول إلى مصوغات ذهبية لزوجتي .. وواصلت العمل فترتين يوميا بلا كلل لألبي طلبات الأبناء وأؤمن مستقبل الأسرة وعادت زوجتي للإقامة في مصر وإدخال الطفلين للمدرسة .. وأصبحت حياتي معسكر عمل متصلا لا يخفف من جفافه سوی حضور زوجتي والطفلين إلى مقر عملي في الإجازات .. ومضت سنوات على هذا الحال.. ثم لاحظت أن زوجتي قد بدأت ترفض السفر إلى مقر عملي في الإجازات وتتهرب منه.. وأنها بدأت تكثر من الشكوى من متاعب رعاية الطفلين وحدها، فاقترحت عليها أن تلحق بي مع الطفلين وتقيم معي إقامة دائمة لكنها رفضت ذلك بحجة مدرسة البنت.. وبعد فترة أخرى اقترحت زوجتي أن أضم الطفل إلى بيتي في الغربة حتى تستطيع هي أن تتفرغ لطفلتنا التي ستدخل امتحان الشهادة الابتدائية بعد شهور، فاصطحبت الطفل معي فعلا وألحقته بمدرسة خاصة مكلفة، وانتظرت على أحر من الجمر أداء ابنتي للامتحان لكي يجتمع شمل الأسرة من جديد في مقر عملي خلال الإجازة الصيفية فحصلت ابنتي على الشهادة .. ودعوت زوجتي للسفر إلي فإذا بها ترفض ذلك رفضا نهائيا.. وتطالبني بالطلاق.

وهرولت عائدا إلى مصر لأنقذ أسرتي من التصدع.. ففوجئت بزوجتي تواجهني بوجه جامد جديد لم أعرفه من قبل وكأنما كانت ترتدي فوقه قناعا خادعا من الحب والبراءة طوال السنوات الماضية وتطلب مني الطلاق ببرود قاس وصعقت حين عرفت من طفلتي أنها كانت تحدثها عن شخص آخر، في حياتها وتحاول إقناعها بأنه أحسن من "بابا" وسيوفر لهما حياة أفضل وأجمل مما أوفرها لهما وصدمت صدمة قاسية وحاولت إثناءها عن هذا الجنون وهددتها بحرمانها من الطفلين واصطحابهما معي إلى مقر عملی عسى أن تفيق من غيها، فإذا بها تقابل هذا التهديد بلا أي اهتمام بل وتستحسن الفكرة أيضا.

وفشلت كل محاولاتي لإعادتها إلى رشدها وفشلت أيضا جهود أخواتها معها واقترح علي أهلها أن أنفذ تهدیدي فعلا واصطحب الطفلين معي عسی أن تحركها غريزة الأمومة وتعيدها إلى صوابها.

وعدت بالطفلين إلى حيث اعمل وألحقتهما بمدرسة خاصة تكلفني الكثير.. وقبعت في بيتي أرعاهما وأحاول تعويضهما عن حرمانهما من رعاية الأم.. وانتظر أن تفعل غريزة الأمومة التي يقولون أنها أقوى غرائز المرأة مفعولها في قلب زوجتي وأم طفلی بلا جدوى، ومن حين لأخر يطلب مني الطفلان الاتصال بأمهما فاطلبها تليفونيا وأتحدث إليها محاولا الإصلاح وأتحمل ردودها الجافة وأعطى السماعة للطفلين فيتوسلان إليها أن تأتي إليهما لأنهما يحتاجان إليها.. فلا تستجيب لرجائهما وتوسلاتهما.

 

ومر عام كامل يا سيدي دون أن يرق قلب هذه الأم لتوسلات طفليها وأصبحت حياتي كئيبة وموحشة.. واكتشفت كم كنت حسن النية في علاقتي بها وبالجميع حيث أني تربيت على حسن الظن بالناس، وتنبهت في وحدتی إلى أنها ظلت ترفض بإصرار عدم الإنجاب بعد الطفل الثاني فأجهضت نفسها ثلاث مرات برغم اعتراضي على ذلك، واسترجعت اقتراحها على استثمار مدخراتي في شراء محل تجاري في مصر باسمينا.. وكيف استجبت ودفعت المطلوب مطمئنا إلى ثقتي بها.. ثم فوجئت بها حين يئست من إعادتها إلى صوابها وطالبتها بإرجاع مالي تتحول فجأة إلى وحش ضار.. وترفض إعادة أي شيء إلي بحجة أن كل شيء باسمها من الشقة إلى الأدوات الكهربائية إلى المحل إلى مدخراتي المجمدة في مصوغاتها ومجوهراتها الذهبية.. ناهيك عما نالني منها من إهانات بالغة أمام الطفلين حين بدأت تطالبني بالطلاق حتى بلغت أن حاولت قتلي وجرحتني فعلا بسكين في بطني أمامهما.


 

ولكاتب هذه الرسالة أقول

في بعض الأحيان يصبح "الصواب" المتاح لنا هو أن نسلم "بالخطأ" ونقبل به ونتحمل نتائجه بشجاعة مهما كانت مؤلمة، وفي حالتك يا سيدي فإن الصواب الوحيد المتاح لك الآن هو أن تتعامل مع نتائج أخطائك في الإفراط في الثقة العمياء بزوجتك ومع نتائج خطئها في حقك ونقضها لعهودك وتضحيتها بطفليها إتباعا لهوى نفسها.

فلقد أفرطت حقا في الاعتماد على حكمة زوجتك وفي رؤية عين الصواب في كل ما تقرره بشان حياتكما طوال السنوات الماضية. وقد استوقفتني في رسالتك عبارة "وأقنعتني" زوجتي بعمل كذا فوجدتها تتكرر فيها كل بضة سطور.. ووجدتك تقتنع بسهولة بكل ما أرادته حتى ولو ترتبت عليه المشاكل والمعاناة ولاشك أنك إنسان طيب القلب لكني أتصور أن مبالغة والدتك في حمايتك نفسيا في طفولتك وصباك التي امتدت إلى إعانتك على اتخاذ قرار الزواج نفسه قد أورثتك بعض ملامح الشخصية الاعتمادية التي تعجز غالبا عن اتخاذ قراراتها المصيرية بنفسها وتستريح إلى من يتخذها لها نيابة عنها.. ولأن والدتك كانت حريصة حقا على مصلحتك وكان عطاؤها لك مخلصا فلقد ربطت وجدانيا بين عطاء الأم لك، وبين عطاء الزوجة لك حين انتقلت إلى حمايتها النفسية بعد الزواج فتركها تتخذ لك كل القرارات وتقنعك بها دون أن يساورك أدنى شك في دوافعها .. لهذا تعرضت لمفاجأة صاعقة حين رأيت وجه زوجتك الجامد يطالبك فجأة بالطلاق ويرفض إعادة شيء مما استلبه منك وأنت بلا شك ضحية لتقلب مشاعر زوجتك وانصراف قلبها عنك إلى غيرك، لكنك ضحية أيضا وبقدر أكبر لإفراطك في الثقة بحكمتها وأمانتها وصواب كل ما تراه من اختيارات إلى حد أن تسلم لها شقاء سنوات الغربة كله لتحفظه لك في عنقها ورسغیها وعلبة مجوهراتها كأنما لم تسمع من قبل عن البنوك والمصارف وأوعية الادخار الآمنة العديدة ناهيك عن تسجيل الشقة والمحل باسمها دون مبرر!!.

لقد قال الحكيم الإغريقي إیسوب منذ قرون: "فكر قبل أن تثق" وأنت لم تفكر.. وإنما وثقت بغیر تدبر ولا تفكير للأسف.

وربما شفع لك في هذا قلة تجاربك في الحياة واستنامتك القديمة إلى التخلص من معاناة اتخاذ القرارات وإلقاؤها على غيرك فحتی العقل وحده ليس كافيا لأن يحمينا من الوقوع في الأخطاء لکنه يجنبنا على الأقل الوقوع في الشراك المفضوحة التي لا تخفى على صاحب بصيرة.. في حين تعلمنا تجاربنا وتجارب الآخرين أن نتفادى تكرار الأخطاء.. ونتجنب مهالك السابقين ومصارعهم بقدر الإمكان. وفي هذا قال الشاعر صادقا:

ألم تر أن العقل زين لصاحبه

لكن تمام العقل طول التجارب

 

ولأن الحياة سلسلة متصلة من التجربة والخطأ.. فإن علينا دائما أن نتعلم متى نسلم بالهزيمة وأن نحتمل الخسائر ونقبل بها بلا غضاضة لأننا ندفع دائما ثمنا غاليا لكل أخطائنا فإذا كان خطأ زوجتك التي تخلت عن طفليها بشعا، فإنك تخطيء أكثر إذا تمسكت بالأمل في استعادتها أو في بدء صفحة جديدة معها والصفح عما جرى.

فواقع الأمر إنها قد تخطت الخط الأحمر الذي لا أمل بعده في إصلاح ولا صفح ولا عودة وهي على أية حال لا ترغب في هذه الصفحة الجديدة وإنما تصر على أن تطوي كل صفحاتها معك.. وليس هناك دليل على ذلك أقوى من تفريطها في طفليها عاما كاملا دون أن يرق قلبها لتوسلاتهما.. ودون أن تقبل . وهو الأبشع عودتهما للحياة معها في مصر، لأن هذه العودة ترتبط لدى ولديها باستمرار العلاقة الزوجية بينكما وهي لا تريد استمرارا .. فماذا يجدي الأمل في مثل هذه الزوجة الكارهة التي تدهورت إلى حد محاولتها إيذاءك جسديا أمام طفليك؟ إن من لا يؤثر فيها نداء الأمومة.. لا يؤثر فيها أي نداء آخر ولست أؤمن باستجداء زوجة كارهة وغير مخلصة بنداءات الأطفال وتوسلاتهم إليها لكي ترجع إلى حياة تمقتها إلى حد محاولة قتل رمزها وهو الزوج. واسترجاع مثل هذه الزوجة أبشع من استمرارها في القطيعة لأنها ستعود أشد مقتا لزوجها وأكثر ازدراء له ولن يزيدها صفحه عنها إلا امتهانا له واستهانة به لأنها لم تعد نادما على ما فعلت وإنما عجزا عن الفرار منه على غير إرادتها.

 

لهذا كله فلست أرى لك أن تتمسك برفض طلاقها وإنما أرى لك أن تتقبل الأمر الواقع مهما كان قاسيا ومؤلما وان تتعامل مع حقائقه بواقعية. فلقد خسرت المعركة معها يا صديقي قبل البداية ولابد أن تسلم بذلك لأن التسليم بالهزيمة ينزل بمطالبنا من تشدد المنتصرين إلى واقعية الخاسرين وان كنت لا أعتبر فقد مثل هذه الزوجة خسارة وإنما فوز بالكرامة والأمان ونجاة بالنفس من معاناة الهوان.. لهذا أنصحك بأن تحاول التوصل معها إلى حل وسط لاستنقاذ بعض أموالك ومدخراتك من براثنها .. وأقول عامدا بعضها وليس كلها لأنك لن تستطيع مهما فعلت أن تسترد كل الخسائر، وتمسكك بهذا الحلم لن يعني إلا رغبتك في استمرارها في عصمتك إلى مالا نهاية وهي مرتبطة بغيرك وتزداد إصرارا على الانفصال عنك. فإذا رفضت التفاهم معك واحسبها ستقبل فإن بعض المحامين يقولون إنك تستطيع استرداد جزء من مدخراتك التي استولت عليها إذا استطعت إثبات قيامك بتحويل مبالغ مالية إليها من الخارج عن طريق البنوك، وعجزت هي أمام المحكمة عن إثبات مصادر دخل خاصة تتيح لها امتلاك ما تمتلكه الآن من عقارات ومدخرات وهي مناوشة قانونية قد تستطيع استنقاذ بعض مالك لكن الأفضل هو التفاهم معها على التخلي عن بعض "الغنيمة" مقابل طلاقها.. ولو بنقلها إلى اسمي الطفلين والأفضل أيضا أن تكف عن الأمل فيها وان تبدأ أنت أيضا صفحة جديدة حقا ولكن مع غيرها.. ولا شك أن الأقدار سوف تعوضك وتعوض طفليك عن معاناتكم بمن هي خير منها.

أما مالك المنهوب فلا تعذب نفسك بالتحسر عليه وهي تلهو به مع غيرك فلن يطول الوقت حتى ترى جثة من اغتصبه منك طافية فوق نهر الشقاء ولا عجب في ذلك .. إذ متى سعد الإنسان بمال مغتصب أو متى سلم من شدائد الحياة من ظلم غيره وأحال حياته دون ذنب جناه إلى جحيم؟

رابط رسالة سهرة عائلية

نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1994

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات