أوراق الشجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

أوراق الشجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

أوراق الشجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


 إن ما نملكه لأبنائنا هو أن نعينهم على اكتشاف المجالات التي تتلاءم مع قدراتهم ويستطيعون فيها تحقيق نجاحهم والنجاح في الحياة يمكن أن يتحقق في مجالات عديدة ليست كلها مقصورة على أصحاب الشهادات والألقاب وحدهم.
عبد الوهاب مطاوع 


أنا شاب في التاسعة والعشرين من عمري ، شاء قدري أن أكون آخر أبناء أبي بعد ابنين وابنة كما شاء قدري أيضا أن تمرض أمی بعد ولادتي بفترة قصيرة فتولى أختي الكبرى معظم شئوني حتى أصبحت لي أما ثانية وهي فتاة في سن المراهقة وعندما تماثلت أمي للشفاء نسبيا بعد مرض طويل ، كان هاجسها الدائم أنها تحس بأن العمر لن يطول بها لرعایتي کما رعت إخوتي وأني سوف أعاني مرارة اليتم صغيرا فأغدقت علي من عطفها وحنانها ما حاولت به تعویضي عما ينتظرنی من شقاء ولم يكن أبي مقتنعا بمبررات أمي في ذلك ، لكنه آثر عدم معارضتها وجرح مشاعرها وحاول تعويض ذلك من ناحيته بأن يبالغ في تشدده معي حتى لا يفسدني التدليل كما عرفت فيما بعد . وكان أبي ومازال شخصية ناجحة في مجال عمله المهني الذي لا أريد الإشارة إليه حتى لا يعرفه أحد وكنا نعيش في شقة أنيقة في حي راق ولأبى سيارته التي يصطحبنا فيها إلى النادي يوم الجمعة وإلى المصايف الجميلة ، ورغم تحفظه معي فلقد كنت أرى فيه دائما مثلي الأعلى وأحلم بأن أصبح ذات يوم ناجحا مثله . وكان هو يشجع في أبنائه هذا الاتجاه ويريد منهم جميعا أن يدرسوا نفس دراسته ليستعين بهم في عمله بعد تخرجهم .. ويفتح أمامهم أبواب النجاح لكن أختي الكبرى خيبت بعض أمله وعجزت عن الالتحاق بنفس الكلية التي تخرج فيها ، والتحقت بكلية علمية أخرى وتزوجت في سن الثالثة والعشرين من مدرس مساعد بنفس الكلية وسافرت معه لأوروبا لترافقه في بعثته للحصول على الدكتوراه . وحقق شقيقي الذي يليها رغبة أبيه وسلك نفس طريقه في الحياة في حين اختار شقيقي الذي يليه مباشرة طريقا آخر ، وفي الثانية عشرة من عمري توفيت أمي إلى رحمة ربها وتركتني وحيدا بعد سفر أختي الكبرى للخارج .. فعرفت مرارة اليتم الحقيقية ، ومرضت مرضا طويلا ، وبدأت خطواتي في الدراسة تتعثر وخشي أبي أن أفشل في الدراسة فمارس علي ضغوطا شديدة لكي أتفوق في دراستي كباقي إخوتي .. وبذلت كل جهدي لكي أرضيه وأتجنب غضبه .. لكن جهودي كلها لم تكن تسفر إلا عن نجاحي بصعوبة في نهاية السنة بالرغم من الدروس الخصوصية وساعات المذاكرة الطويلة .

 

وبدا أبي يضربني وأنا في سن الرابعة عشرة بقسوة شديدة مع أنه لم يمد يده على أحد من إخوتي طوال عمرهم وراح يراقبني ويتهم شقيقيّ بأنهما يتستران على عدم مذاکرتي مع أنهما كانا يقسمان له بأني لا أخرج من البيت وأنني أمضى الساعات الطويلة في المذاكرة ، وتطور الأمر إلى خصام شبه مستمر من جانبه لي إلى جانب تهكمه اللاذع علي وتنديده بأني - فيما يبدو - سأكون فاسوخة الأسرة ، أي "خائب" العائلة الذي لا يشرفه أن يعرف الناس أنه ابنه ، فكنت أتألم كثيرا لذلك وأضاعف من ساعات مذاكرتي فلا تجيء النتيجة في النهاية إلا بنجاح بالعافية أو على حافة السقوط وبدلا من أن يقدر لي جهدي ويعرف أنني لست في ذكاء إخوتي وأن هذه هي إرادة الله ولا دخل لي فيها كان ينهال علي ضربا ولوما وسخرية ، وعندما بلغت السنة الثانية في المرحلة الثانوية تزوج أبي من أرملة من أقاربنا لها أبناء وأقام معها في شقة فاخرة قريبة من شقتنا فكانت هذه السيدة الطيبة أكثر رفقا بي منه ، وتنصحه بأن يخفف من ضغطه علي حتى لا أفشل نهائيا ، وكنت أزوره في مسكنه الجديد فتستقبلني بابتسامة وتتمسك بأن أجلس وأشرب معها الشاي ويستقبلني هو بوجه عابس ويسألني عما جاء بي - فأقول له : أردت فقط أن أراك فيأمرني بالعودة إلى البيت والمذاكرة فأخرج وأنا أقرر أني لن أعود لزيارة أبي مرة أخرى .. فلا يمضي أسبوع أو أسبوعان حتى أكرر الزيارة ويتكرر نفس الاستقبال ، أما شقیقاي فلقد كانا دائما موضع ترحيب أبي وفخره في أي مكان ، ثم جاءت سنة الثانوية العامة فعانیت فيها الأمرين وجاءت النتيجة برسوبي فيها فكاد أبي يقتلني وكانت مناحة انفطرت فيها من البكاء وأنا أقسم لأبي أني فعلت كل ما أستطيع .. وواصلت الليل بالنهار وشقيقاي یشهدان لي بذلك ويدافعان عني وهو لا يقتنع ويتهمها بمحاباتي وإفسادي کما أفسدتني أمي من قبل وكانت أياما سوداء وازدادت سوادا بعد أن فشلت في الحصول على الثانوية العامة ثلاث مرات متتالية وفقدت آخر فرصة لي في الحصول

عليها فقاطعني أبي نهائيا وحرمني من المصروف ومن الملابس ومن كل شيء وعشت على مساعدة شقيقيّ اللذين كانا يعطياني بعض النقود سرا، وعلمت أختي بحالي وهي في غربتها فكانت ترسل لي بعض الملابس وتوصيني بكتمان السر حتى لا تفقد رضا أبي .

 

ولا أريد أن أطيل عليك فلقد وجدت نفسي وأنا في سن الحادية والعشرين طالبا فاشلا محروما من عطف أبيه .. واقتنعت بأنه لا أمل لي في تعليم أو وظيفة كإخوتي فقررت مواجهة الواقع مهما كانت مرارته وأديت الخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات ، ورفض أبي أن يتوسط لي لدى معارفه الكثيرين لنقلي إلى موقع مريح أو قريب من القاهرة بحجة أنه لا يشرفه أن يعرف أحد أن له ابنا يؤدى الخدمة بدون مؤهلات.

وأمضيت سنوات الخدمة في أكثر المواقع مشقة ، وعدت منها فوجدت شقيقي الذي اختار طريق أبي يستعد للسفر لأمريكا للحصول على الدكتوراه .. وحزنت لفراقه بعد فراق شقيقتي وسافر بعد قليل فلم يعد لي في الحياة سوى شقيقي الذي يكبرني مباشرة وهو إنسان طيب لكن علاقتي به كانت أقل حرارة من علاقتي بأختي وأخي اللذين سافرا للخارج ، ولم يكن ذلك من جانبي بالطبع ، فأنا دائما متلهف لإخوتی ولأبي ولكل الناس ولكن كان ذلك من جانبه لأنه كان عمليا في حياته وأقل عاطفية من أخي وأختي .. وبدأت أفكر فيما أفعل خاصة بعد أن قطع أبي عني أي مصروف وأمرني بعدم زيارته في بيته أو عمله كما حرمني من عضوية النادي الذي ينتمي إليه ، ورفض استخراج بطاقة الابن لي حتى لا أذهب إليه لأني أصبحت عار الأسرة المرموقة التي ينبغي أن تخفيه عن مجتمعها ولم يكن لي أصدقاء من الأصل في النادي لأني كنت دائما شاعرا بنقص بالنسبة للآخرين .. فلم أشأ إحراج أحد، وقررت الخروج للعمل لكن ماذا يعمل شاب بلا شهادة مثلي ، لقد عرضت نفسي على صاحب محل لبيع الأحذية الرجالي وقبلني بعد أن توسم في أني كما قال ابن ناس، وجربني لعدة أيام فرآني أعامل الزبائن باحترام وبصبر وأتحمل كل شيء فثبتني في العمل وأعطاني أجرة طيبة وذهل حين علم بانی ابن فلان المعروف ، ويبدو أنه أراد أن يتأكد من ذلك فسأل ، وكانت هذه غلطة عمري لأني فوجئت بأبي يدخل البيت بعد عودتي من المحل مجهدا ثم ينهال علي سبابا ولعنا ، ويأمرني بترك هذا العمل فطلب منه شقیقی مادام لا يوافق على عملي به .. أن يعيني هو بعمل مشروع تجاري صغير لى فرفض ، لأني خائب ولن أفلح في شيء ، وطلب بدلا من ذلك أن أذهب للعمل في مكتبه في وظيفة كاتب أو سكرتير أو ساع، بمعنى أصح بمرتب مائة جنيه في الشهر ، ورغم أني لم أحلم لنفسي بأفضل من ذلك إلا أني خشيت أن يؤدی اتصالي المستمر بأبي إلى زيادة معاناتي معه .. فاعتذرت فهاج وصفعني بقسوة وبكيت صامتا في حين احتج عليه شقيقي الذي كنت أظنه ليس عاطفيا، وذكره بأني لم أعد صغيرا كما أني إنسان مؤدب ومسالم وأؤدی فرائض دیني وليست لي أي انحرافات سوى أن حظي في الحياة والتعليم قليل ولم يقتنع أبي وخیرنی بین قبول ما عرضه علي وبين مغادرة البيت نهائيا ، ولأول مرة في حياتی يا سیدی ارفع عيني في عيني أبی وأقول له أني أسلم أمري إلى الله الذي لا يتخلى عن عباده وسوف أترك البيت وأشق طريقي في الحياة بدون مساعدة من أحد ، وخرج أبي وهو يهدد أخي بالويل والثبور إذا سمح لي بالعودة للبيت بدون إذنه.

 

وعدت للعمل في نفس المحل التجاري .. وحملت ملابسي إلى فندق شعبي رخيص رغم احتجاج شقيقي الذي حاول بكل قوته أن يمنعني من مغادرة البيت وجذب مني حقيبة ملابسي بعنف أكثر من مرة ولم يتوقف إلا حين انحنيت على قدمه محاولا تقبيلها ليتركني لحالي فإذا به ينهار باكيا لأول مرة في حياته ويرفعني من الأرض .. ويخرج معي إلى الفندق ويدفع لى حساب أسبوع مقدما رغما عني وهو يؤكد على أنه سيتركني هذا الأسبوع فقط لكي أهدأ ثم أعود للبيت .. وعدت للعمل في المحل .. وبعد أيام قليلة فوجئت بصاحبه يعتذر بلطف عن اضطراره للاستغناء عني ويطلب مني البحث عن عمل أخر .. وسألته عن السبب وهل بدر منی شیء.. أو لاحظ على خيانة للأمانة . فأقسم إلى أنه لا يعيب على شيئا .. لكنه مضطر لما فعل استجابة لضغط واقع عليه من شخص له نفوذه ثم أعطاني مكافأة طيبة وشهادة حسن سير وسلوك وصفني فيها مشكورة بأني أمين ومهذب ويفخر بي أي محل أعمل فيه. وفهمت أن أبي وراء هذا الضغط ورحت أطوف على المحلات باحثا عن عمل ، وبفضل هذه الشهادة حصلت على عمل أخر بعد أيام .. . واستقرت فيه بضعة شهور ثم فوجئت بصاحبه يستغني عني أيضا بنفس الطريقة ويعطيني شهادة حسن سير وسلوك ، وخلال ذلك لم ينقطع عني شقیقي وكان يأتي لي في الفندق ويسأل صاحبه عن حسابي فإذا وجدني متخلفا عن السداد بضعة أيام دفعها لي ويعزمني على الغداء يوم إجازتي الأسبوعية وقد اقترب كل منا من الأخر كثيرا وتضاعف حبه في قلبي بعد أن فهمته حق فهمه ، وقال لي هو أنه يكتشفني لأول مرة خلال هذه المحنة ويكتشف في أشياء جميلة لم يكن يعرفها عني من قبل، منها أني لا أكره أحدة حتى ولو أذاني .. وأن قلبي أبيض كالبفتة البيضاء وأحب أبي رغم كل شيء ولا أحمل له أي ضغينة كما أحب إخوتي حبا لا مثيل له وأحب الناس ويحبني كل من يتعامل معي ويشهد لي بحسن الطباع والأخلاق .. ثم يدعوني للعودة للبيت فأعتذر حتى لا أحرجه ، ولم تنقطع عني أخبار شقيقتي التي رقصت فرحا وسعادة حين علمت أنها حصلت على الماجستير والدكتوراه في الدولة الأوروبية التي تقيم فيها مع زوجها كما سعدت بحصوله قبل ذلك على الدكتوراه وعمله أستاذا بنفس الجامعة الأوروبية .

ورقصت فرحا حين علمت بحصول أخي الآخر على الدكتوراه في أمريكا وعمله أيضا كأستاذ بالجامعة الأمريكية التي درس بها .. وسقطت دموعي كالمطر حين نجح شقيقي الحبيب بامتياز في كليته وتم تعيينه في وظيفة مرموقة لها احترامها وهيبتها ، كان يحلم بها منذ صغره وبعد عامين من العمل في المحل التجاري الأخير الذي استقررت فيه نبض قلبي بحب فتاة طيبة تعمل معي بنفس المحل ووجدت فيها حنان أختي البعيدة وقلبها الكبير ، وأشفقت فتاتي علي من الإقامة في الفنادق فتوسطت لي لدى صاحبة البيت الذي تقيم فيه في حي شعبي للحصول على شقة كانت مغلقة في نفس البيت مقابل خلو رجل معقول ، وكان معي نصف المبلغ المطلوب تقريبا ففكرت لأول مرة في أن الجأ إلى أبي ليقرضني باقي المبلغ وتشاورت مع أخي فتوجه هو إليه طالبا المبلغ منه .. ورفض أبي في البداية فثار عليه أخي مؤكدا له أن هذا هو أبسط حقوقي خاصة أنه سيتزوج قريبا ويقيم في شقة الأسرة مؤقتا ، وعاد إلي بالمبلغ وتوجه معي لصاحبة البيت وكتب لي العقد .. وفاجأني بأنه استطاع أن يحصل لي من أبي أيضا على مبلغ إضافي صغير لأشتری به الأثاث ورافقني في عملية الشراء .. ولم يتركني إلا بعد أن تم فرش الشقة بمفروشات بسيطة وجميلة ، وشكرته ودعوت له الله كثيرا بأن يسعده في حياته ويؤجره عني خيرا في الدنيا والآخرة ، وبعد استقراري في هذه الشقة بدأت أفكر في الارتباط بفتاتی واستشرت أخي فقال لي أنها فتاة طيبة لكنه كان يتمنى لى أسرة كبيرة كأسرتي ، فقلت له وأين هي الأسرة الكبيرة التي تقبل بشاب مطرود من رحمة أبيه ولا مؤهل مثلي ؟ وحتى لو وجدتها فإن فتاتي أفضل عندي من كل فتيات الدنيا فحبها صادق وعطفها علي هو ما أحتاجه في حياتي كما أن أسرتها طيبة متدينة وإخوتها كلهم متعلمون وهي أرقی مني تعليميا لأنها حاصلة على دبلوم تجاری ولم يعترض شقيقي وإنما اعترض أبی كالعادة وتسبب مرة ثالثة في قطع رزقي من المحل الذي أعمل به لكي يمنعني من الزواج بهذه الفتاة مع أنه لم يقدم لى بديلا ولم يفكر لحظة فيما يمكن أن أصنع بحياتي إذا تركتها ، ومضيت في إجراءات الزواج ، ورغم التهديد والوعيد لم يتخل عني شقيقي أكرمه الله .. وحضر معي كل الإجراءات وتلقيت خطابات التهاني من أخي وأختي الغائبين ومع كل خطاب هدية مالية بمناسبة الزواج وتزوجت على بركة الله وأنا في السادسة والعشرين من عمری .

 

 ووجدت في زوجتي وأسرتها كل ما أردته وحلمت به والحمد لله رب العالمين . ووفقني الله في شراء محل صغير جدا لبيع الحلوى يقع في نفس البيت كان صاحبه الموظف بالمعاش يغلقه معظم أيام الشهر . وساعدتني أسرة فتاتي بإقراضي المبلغ المطلوب ، وباعت زوجتي شبكتها وأعطتها لي لأشتري البضاعة التي سأبيعها وعلم شقيقي في أمریکا وأختي في أوروبا بما فعلت ، فأرسلا لى يهنئانی ويشجعانی ، ومع كل رسالة هدية مالية صغيرة لكنها كبيرة جدا في نظري وفي معناها .. وجددت محلى الصغير ، وعملت فيه بإخلاص وجد من السابعة صباحا حتى منتصف الليل ، وزوجتي معي وإخوتها وأبوها يشجعوننی ويشترون لى الطلبات .. وتجلس زوجتي مکاني إذا احتجت لاستراحة قصيرة ، خاصة بعد أن تركت العمل لتتفرغ لى ولحملها الذي أثمر طفلا جميلا هو نعمة كبيرة من الله سبحانه وتعالى .

 

وخلال عامين من بدء مشروعی کنت قد استطعت سداد دين أسرة زوجتي .. وشراء شبكة جديدة لها .. واستقرت أحوالی نسبيا والحمد الله، ثم فوجئت ذات يوم بسيارة أجرة تقف أمام محلي وينزل منها شقیقي الأكبر العائد من أمريكا ومعه زوجته الأجنبية التي صعقت من حرارة استقبالي لزوجها بالصراخ والضحك والدموع والأحضان والتصفيق العصبي الشديد كأنني في مسرح أشاهد مسرحية ، وقالت حين هدأت أنها لم تر من قبل مشهدا جمع كل هذه الأشياء في لحظة واحدة . أما ابنه الذي كنت أراه لأول مرة فلقد حملته فوق راسي ورقصت به من السعادة وهو يضحك بلا خوف كأنه يعرف أنني عمه مع أن عمره بضعة شهور، وحين صعدنا إلى شقتي استقبلتنا زوجتي التي رأت المشهد من النافذة بالزغاريد فازدادت بهجة اللقاء واندهاش زوجة شقیقی وسعادتها، وأمضى شقيقي في مصر شهرا كان من اسعد أيام حياتي وبعد أن سافر کتب لي رسالة يقول لي فيها أنه دخل بيوت كل أفراد العائلة الكبيرة والأصدقاء خلال وجوده في مصر وتناول الغداء أو العشاء فيها .. فلم يشعر بكل هذه الراحة التي شعر بها وهو في بيتي البسيط الصغير .. ولا بلذة طعام كطعام زوجتي وقهوتها وشايها فحتى الماء كان له في بيتك طعم خاص أجمل من أي مكان آخر وهذا أيضا هو إحساس زوجتي الأمريكية التي أحبتك وأحبت زوجتك وأبنك وقالت أنك إنسان ممتاز في أخلاقك وعملك !

 

أما شقيقتي الحنون فقد أسعدتني هي الأخرى بالزيارة حين جاءت لمصر منذ فترة مع زوجها وطفلتها الصغيرة ولم تسعني الفرحة حين رأيتها واندفعت إليها أقبل يديها في الشارع لأن فضلها علي كبير ولأنها أمي الثانية بعد أمي التي حرمت منها صغيرة ، ولم تنقطع عني لحظة خلال وجودها في مصر ، وفاض حنانها كالنهر علي وعلى زوجتي وطفلي .. وبكيت وبكت كثيرا وهي تودعني عند سفرها وأكدت على أن قلبها لم بسترح طوال السنوات الماضية إلا حين رأتني ولمست توفيقي في العمل وسعادتي في حياتي وستسعد في حياتها بعد أن اطمأن قلبها من ناحيتي.

أما شقيقي الثالث المحترم صاحب الوظيفة الهامة فهو لا ينقطع عني أبدأ حماه الله وأسعده في حياته وهو دائم السؤال عني وإذا تأخرت عن زيارته أسبوعين اتصل بي معاتبا ويدعونی مع زوجتي وطفلي من حين الآخر في بيته أو في نادي الهيئة المحترمة التي ينتمي إليها على شاطىء النيل للغداء معه ومع زوجته الفاضلة التي تشع طيبة ونورا على من معها، ويشرفونني بقبول دعوتي للغداء في بيتي يوم الجمعة وقضاء وقت سعيد وجميل معنا من حين لآخر .

 

أما الشخص الوحيد الذي لم يزرني ولم ير زوجتي أو ابني ولم يدخل بيتي حتى الآن فهو أبي .. المشهور ومازلت رغم مرور 3 سنوات على زواجي مطرودا من جنته ومن رحمته .. وكل جريمتي عنده هي أنني فاشل دراسيا ولم أحصل على شهادة دراسية ولا أشغل وظيفة مرموقة يتشرف بها في مجتمعه کوظائف إخوتي ، ورغم ذلك فإنني لم أنقطع عنه و أصل رحمه التي قطعها هو وأزوره مرة كل شهر أو كل شهرين على الأكثر في بيته فتستقبلني زوجته وأبناؤها بترحيب ويستقبلني هو بوجوم وتجهم ولا يبتسم أبدا في وجهي مع أني أحن إلى أن يصافحني مرة بود وأن يسألني عن أحوالي وأكاد في كل مرة أن أقبل يده و أتوسل إليه أن يعفو عني ويغفر لي جريمتي في عدم حصولي على شهادة دراسية .. فالدنيا حظوظ .. وكم من أسر فيها الناجح وفيها الفاشل وهذا هو نصيبي من الحياة ، وفشلي في وجهي أنا وليس في وجهه هو ، وأنا راض به وسعيد .. ويكفيه فخرا أشقائي الممتازون المتفوقون الذين أفخر بهم .. فهؤلاء هم الذين يليقون حقا باسمه ومركزه .. أما أنا فإني لا استخدم اسمه في شيء و أتكتم أنني ابنه الفاشل ولا أتردد على مجتمعاته فلا أذهب إلى النادي ولا إلى بيوت الأقارب ولا أحضر أفراحهم .. ولا أظهر أمام أحد من زملائه أو أصدقائه .. والناس ينسون كل شيء بعد حين وقد نسي أقاربنا ومعارف و الدي أن له ابنا فاشلا في دراسته .. فلماذا لا ينسى هو ذلك ؟ صحيح أنني تاجر صغير وأن محلی کشق الثعبان لكني أكسب رزقي بالحلال وبعملي وكفاحی ، وأقوم بمسئولیتی عن أسرتي الصغيرة .. وأشرف اسم أبي وأسرته بأخلاقي و تدینی و استقامتی وحسن معاملتي للناس وبأمانتي معهم ، كما أني أحاول تعويض نقص تعلیمي بقراءة الصحف وبعض المجلات والكتب باهتمام ، وفي بيتي مكتبة صغيرة ، وكم من أبناء عائلات وأصحاب ألقاب مرموقة لا يشرفون أسرهم بأخلاقهم .. ويسيئون إليهم بانحرافهم ، وإدمانهم وأنا والحمد لله رب العالمين لم أنحرف يوما عن الطريق المستقيم ، ولم أسرق .. ولم أمد يدي أو عيني إلى حرام وأرعى الله في حياتي وأسرتي وعملي وعلاقاتي مع الجميع ، وزبائنی يشهدون لي بالأمانة والصدق .

 



ولكاتب هذه الرسالة أقول :

بل تستحق ما هو أكثر منه وأنبل يا صديقي فالناس يختلفون في حظوظهم من التعليم والتوفيق وإقبال الحياة عليهم كما تختلف أوراق الشجرة الواحدة فيندر أن تجد بينها ورقتين متماثلتين تماما ، لكن الإنسان في كل الأحوال ومهما كان شرف مكانه أو بساطة شأنه إنما يستحق الاحترام بشرفه الشخصي وبمدى التزامه الخلقي وأمانته مع الآخرين ومع الحياة .. والإنسان الشریف لا يمكن أن يكون تافها أبدا مهما كان حظه من التوفيق في الحياة . فتعلم أنت أولا أن تحمل لنفسك ما هو جدير بإنسان مكافح وشريف و مستقیم مثلك من الاحترام فالحق أني إذا کنت ضد التكبر وأعتبره اجتراء على مقام الله جل شأنه الذي لا يحق لغيره مهما بلغ من شأن أن يتكبر أو يغتر بشیء فإني أيضا وبنفس الدرجة ضد الإحساس بالدونية بلا أي مبرر والشعور بالنقص تجاه الآخرين وأولهم الأهل الأقربون لمجرد أن الحظوظ تتفاوت بين الناس وبين أبناء الأب الواحد الذين نهلوا معا من نبع واحد.

ذلك أن الإحساس بالدونية يورث الإنسان حساسية خاصة تفسد عليه بعض أوقاته وتدفعه لإساءة تفسير بعض تصرفات الآخرين معه وأنت والحمد لله مبرأ من كل حقد أو كراهية لأي إنسان وتحمل نفسا نقية وسيرة صافية ، تتطلع للآخرين برغبة صادقة في نيل قبولهم ومحبتهم لكنك في حاجة رغم ذلك إلى شيء من الثقة بالنفس .. وإلى الاقتناع بجدارتك بحب الآخرين واحترامهم فلا تخلط إذن بين التواضع الكريم المحبوب في كل إنسان شريف ، وبين الإحساس بتفاهة الشأن وبعد ذلك نتناقش معا في كل ما يعنيك ويشغلك.

 

أما عن أبيك ، فإني لم أفهم أبدا سر هذا الموقف المتحجر الذي يتخذه منك ومازال ثابتا عليه طوال هذه السنوات مع أن كل شيء في الحياة يتغير من يوم إلى يوم . صحيح أننا نريد لأبنائنا أن يكونوا دائما الأفضل والأرقى .. لكن ماذا نفعل إذا لم يحالفهم التوفيق فيما نريده لهم أو إذا حالت قدراتهم الطبيعية دون تحقيقه ، هل ننبذهم وننكرهم ونبعدهم عن حياتنا ومجتمعنا وأصدقائنا كأنهم عار نتبرأ منه ؟

وبأي منطق يحق لنا أن نفعل ذلك وتوفيق الأبناء أو فشلهم في الحياة لا يغير من بنوتهم لنا ولا من حقوقهم علينا أو واجباتنا تجاههم .. بل

لعل الضعيف منهم أحق بعطفنا ورعايتنا له إلى أن نقيله من عثرته وبعدها يتساوی الجميع أمامنا في حبنا لهم واعتزازنا بهم ، وأبناؤنا في النهاية ليسوا مشروعات استثمارية نديرها بحسابات دقيقة لابد أن تحقق نتائجها الأكثر دقة .. إذ أين تفاوت القدرات بينهم .. وأين تفاوت الحظوظ .. وأين اختلاف الشخصيات ثم أين التسليم بإرادة الله قبل كل ذلك وبعده وهو القائل جل شأنه "إنا كل شيء خلقناه بقدر" .

 

 إن ما نملكه لأبنائنا هو أن نعينهم على اكتشاف المجالات التي تتلاءم مع قدراتهم ويستطيعون فيها تحقيق نجاحهم والنجاح في الحياة يمكن أن يتحقق في مجالات عديدة ليست كلها مقصورة على أصحاب الشهادات والألقاب وحدهم ، ولقد أخطأ أبوك في حقك خطأ جسيما حين لم يكتشف في الوقت الملائم آن قدراتك على التحصيل الدراسي لا تتناسب مع نوع الدراسة التي اختارها لك في الثانوي العام ولو تنبه لذلك في حمأة حرصه على أن يكرر كل أبنائه رحلته في الحياة لعرف أنك تذاكر كثيرا وتستوعب قليلا وتنجح بصعوبة مما يقطع بعدم ملائمة الثانوي العام لك . ولحولك إلى التعليم التجاري الفني مثلا فحققت فيه نجاحك . لكنه بدلا من أن يفعل ذلك قسا عليك ليصبك في القالب الذي يريده لك ثم حاسبك أنت على سوء تقديره وفساد طريقته في العلاج بحرمانك من جنته ومن اعتزازه بك كابن بار وشريف يعتز به كل أب .

 أنت تعمل بجد وإخلاص من السابعة صباحا حتى منتصف الليل وتتحمل مسئوليتك عن نفسك وأسرتك بأمانة وتتعامل مع الحياة بشرف ، وتحمل في قلبك من الحب لإخوتك ولأبيك وللآخرين ما یرقی بك إلى مرتبة سامية بين البشر الحقيقيين الذين لا مكان للحقد أو الكراهية في قلوبهم فامض في سبيلك كما أنت يا صديقي فلسوف تحقق نجاحك الباهر ذات يوم قريب ، ولسوف تصبح إنسان له شأنه في وقت غير بعيد وكل ما أتمناه لك هو أن يطول العمر بأبيك ليشهد نجاحك وانتصارك على كل العقبات .. وليأسف لأنه قد حرم نفسه من قربك منه كل هذه السنين وإلى أن يتحقق ذلك بإذن الله احرص على أن تصل أباك كما تفعل الآن سواء لان قلبه لك أو ظل كالحجر أو أشد قسوة ، فلنفسك ولربك ما تفعل معه قبل أن يكون له ، وعلى أبيك وفي حسابه يوم الحساب ما يفعل معك الآن هذا إن لم يصلك كما تصله ويفتح لك أبواب رحمته ويعطيك من قلبه ومشاعره بعض ما تعطيه له ، وبعض ما هو جدير بابن طيب مثلك .


تعقيب على الرسالة في حوار صحفي اجري مع الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
نشر في كتاب وحدي مع الآخرين بعنوان  / أفراح محزنة



نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة عام 1992

راجعها واعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات