اللقاء العابر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

اللقاء العابر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

اللقاء العابر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001


ما قيمة المال إذا نحن لم نعن به أبناءنا على السعادة ؟ ولم كان الكفاح والعرق وعناء السنين إذن‏، إذا لم يكن لكي نستطيع ذات يوم أن نيسر لأبنائنا طريق السعادة ونزيح عنه أحجار الصعوبات المادية ؟ .. فليس من صالح الحياة أبدا أن نزيد عدد التعساء فيها إذا كان بمقدورنا أن نتيح لهم السعادة بشيء من الفهم والتسامح والعطاء والتنازل عن بعض الاعتبارات المادية‏.
عبد الوهاب مطاوع

أنا طبيب في منتصف العمر .. متزوج منذ‏  28‏ عاما‏,‏ ولي ابن تخرج في كلية وابنة في عامها الجامعي الأخير‏..‏ وقد وفقني الله سبحانه وتعالى في حياتي العائلية والعملية‏..‏ فعملت خارج مصر نحو 20 عاما وحققت ثروة تكفيني وتكفي أبنائي وتكفل لنا ولهم حياة كريمة بإذن الله‏.‏
ومنذ شهرين فاتحني ابني بأن أحد زملاء شقيقته يرغب في أن يتقدم إليها بعد نهاية العام الدراسي الحالي‏,‏ لكنه للأسف لا يملك شيئا وفهمت من حديث ابني إن شقيقته معجبة به بالرغم من ظروفه وتميل إليه ودهشت لذلك لأنها من النوع المتحفظ ومن الصعب عليها أن تكلم شابا غريبا عنها‏..‏ وسألتها عما أعجبها فيه‏,‏ فأجابتني بأنه على خلق ودين‏,‏ وكان يتطلع إليها في صمت منذ بداية المرحلة الجامعية ولا يجرؤ على مفاتحتها بمشاعره‏,‏ إلى أن نظمت الكلية رحلة وطلبت هي مني السماح لها بالاشتراك فيها‏,‏ وكانت أول رحلة تشارك فيها خلال دراستها فوافقت على ذلك‏,‏ لكنني اشترطت عليها أن تأخذ معها شقيقها‏,‏ وفي هذه الرحلة تحدث هذا الزميل إلى ابني وشرح له ظروفه وعبر له عن رغبته في التقدم لابنتي‏.‏

ورفضت هذا الشخص بالطبع قبل أن أراه‏..‏ بل وهددت ابنتي إن هي تمسكت به بمنعها من الذهاب إلى كليتها‏..‏ وانتهت هذه القصة عند هذا الحد‏..‏ ثم منذ أسبوعين حضرت حفلا أقامته إحدى شركات الأدوية فإذا بي أرى فيه إنسانة لم تقع عيني عليها منذ ثلاثين عاما‏,‏ فتصحو الذكريات القديمة‏..‏ وتهتز أفكاري‏..‏ فلقد كنت طالبا بالسنة الثانية بكلية الطب وكانت هي طالبة بالسنة الأولى‏,‏ ولأننا كنا ندرس في مشرحة واحدة فلقد أكتفينا كثيرا بالنظرات الصامتة‏,‏ وبعد معاناة طويلة تأكدت خلالها من أنها قد تملكتني تماما‏,‏ تجرأت وفاتحتها برغبتي في الارتباط بها وتم الاتصال بين الأسرتين وأصبحنا شبه مخطوبين‏,‏ وعشنا أياما سعيدة للغاية ونحن ننتظر الانتهاء من دراستي لكي أعلن خطبتي لها‏..‏
وفي هذه الأثناء مات والدي ـ يرحمه الله ـ فجأة ولم يترك لنا معاشا ولا ميراثا سوى قطعة أرض كانت محل نزاع بينه وبين بعض أقاربه‏,‏ وبالرغم من أنه كان يكسب كثيرا من عمله بالمقاولات إلا أنه كان مسرفا ولا يدخر شيئا‏,‏ لهذا فقد تدهورت أحوالنا سريعا بعد رحيله عن الحياة ولولا أن أمي كانت تحتفظ ببعض المصاغ وبدأت في بيعه للإنفاق علينا لما اجتزنا هذه المرحلة الصعبة بسلام‏.‏


وبسبب ظروف وفاة والدي واضطراب حياتنا من أثر ذلك رسبت في الامتحان لأول مرة‏,‏ وشعرت بتغير موقف أهل فتاتي مني بعد الرسوب ورحيل الأب وتدهور الأحوال وبدلا من نظرات الترحيب والتشجيع التي كنت أراها في عيونهم بدأت أرى نظرات الازدراء والاستهانة‏,‏ وبدا واضحا لي أنني لم أعد العريس المرغوب لابنتهم وألح عليها الأهل في قطع صلتها بي فعرضت علي أن نرتبط وتقيم معي في بيت أسرتي إلى أن تتحسن الأحوال في المستقبل‏,‏ لكن ظروفي العائلية لم تكن تسمح للأسف حتى بهذا الحل‏,‏ ولم يكن هناك مفر من إنهاء قصة الحب‏..‏ وإعفاء فتاتي من ارتباطها بي‏..‏
وعشت أياما عصيبة بعد انتهاء قصتي معها أصبت خلالها باكتئاب شديد وأحسست إحساسا مريرا بالفقر والهوان وقلة الشأن‏..‏ ولازمني طيفها في خيالي طوال الوقت‏..‏ حتى أنني كنت أدعو الله في صلاتي أن ينزع حبها من قلبي وأبلل سجادة الصلاة بدمعي‏,‏ ومع ذلك فإنني لم أحاول أن أتصل بها أو أتكلم معها بالرغم من توافر الفرص لذلك في الكلية‏..‏ وكنت حين أراها أمام المدرج أتظاهر بالحديث مع أحد الزملاء وتتظاهر هي بالحديث مع زميلة لها وكل منا يشعر بوجود الآخر بشدة‏.‏


وفي غمرة ضيقي وحزني واكتئابي صممت على أن أكون شيئا‏..‏ فضاعفت من جهدي في المذاكرة بالرغم من عجزي ماديا عن شراء الكتب التي أحتاج إليها‏..‏ وضاعفت ساعات دراستي‏,‏ وتخرجت في كليتي‏,‏ وكانت فرحتي بنجاحي طاغية وغابت فتاتي السابقة عن أنظاري منذ ذلك الحين فلم أرها ولم أعد أسمع عنها شيئا منذ ذلك الحين‏.‏
وبعد نجاحي ارتبطت بإنسانة ممتازة وتزوجنا وبدأنا حياة زوجية هادئة وحصلت على الماجستير من أول مرة‏,‏ وسافرنا معا للعمل في دولة عربية‏,‏ وأنجبنا الأبناء وسعدنا بحياتنا العائلية‏,‏ ولم تشهد حياتنا الزوجية سوى تلك المناوشات الصغيرة التي تقع في كل بيت من حين لآخر‏,‏ وأرضتني زوجتي دائما بجمالها وعقلها وحسن رعايتها لأسرتها وأبنائها‏.‏
وبعد عشرين عاما من الغربة قررنا أن نرجع إلى بلدنا ونستمتع بحياتنا وما رزقنا الله به من عطاء‏,‏ فرجعنا وافتتحت لنفسي عيادة خاصة‏,‏ واشتريت مسكنا جميلا‏..‏ وشقة بأحد المصايف‏..‏ ورضيت عن نفسي وعن حياتي وأبنائي‏,‏ ورضيت أخيرا كذلك عن امتثال ابنتي لقراري برفض زميلها‏..‏ الذي رأيت فيه صالحها‏..‏ ولم يساورني أي شك في ذلك إلى أن لبيت دعوة شركة الأدوية ورأيت في الحفل تلك الزميلة السابقة التي خفق قلبي بالحب قبل ثلاثين سنة ولم أكن قد رأيتها طوال تلك السنين‏,‏ فإذا بي أعرفها للوهلة الأولى وإذا بها تعرفني فلا أرفع عيني عنها طوال الحفل‏..‏ وتتلفت هي نحوي كل حين‏..‏ وإذا بي أتساءل كيف اتسع قلبي لكل هذا الحب ذات يوم ؟ وهل يموت الحب حقا ؟
وإذا بهذا اللقاء العابر ينكأ جرحا قديما ويثير خواطري وأفكاري وشجوني فأتساءل‏:‏ فماذا عن قلب ابنتي الشابة‏..‏ هل أحرمها هي الأخرى من حب قد يكون أغلي شيء عندها الآن‏,‏ لأن من ترغبه لا يملك شيئا وهل أحطم قلب هذا الشاب لمجرد أنه بسيط الحال ومستقبله لا يبشر بالخير‏,‏ ومن أنا حتى أدخل في علم الله وأحكم على مستقبله بذلك ؟ لقد كنت أتطلع لزواجها من ابن دبلوماسي مصري كان يعمل في الدولة التي كنا نقيم بها وهو شاب ممتاز بالفعل وتقدم لطلب يدها‏,‏ لكني أرجأت البت في الموضوع لما بعد تخرجها‏..‏ وكان يقيني أن هذا هو الاختيار الأمثل لها وأن رفضي لزميلها هو القرار الحكيم الذي لا يداخله الشك‏,‏ إلى أن ذهبت إلي هذا الحفل‏..‏ واهتز كياني كله واهتزت أفكاري‏..‏ فبماذا تنصحني أن أفعل هل أختار لابنتي من يناسبها من وجهة نظري دون النظر لمشاعرها أم أوافق علي من أختاره قلبها ؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

أتدري يا سيدي ما هو الفرق بين الأب المستبد الذي لا يقيم وزنا لرغبات الأبناء الراشدين ومشاعرهم‏,‏ وبين الأب العطوف الذي يضع هذه الرغبات والمشاعر في اعتباره ويحرص على ألا يقهر أبناءه على شيء ولو كان يرى فيه مصالحهم ؟
إنه الفهم‏!‏ فهم المشاعر‏..‏ والرغبات‏..‏ والدوافع‏..‏ والتجربة الإنسانية‏,‏ فمن يفهم يكون أكثر استعدادا للعطف والتماس الأعذار وعدم التصلب في المواقف ومن لم يجرب ولم يفهم قد يصعب عليه استشعار أهمية ما يبدو لغيره ضروريا وشديد الحيوية‏.‏

وأنت قد أتاحت لك التجربة الإنسانية التي عشتها في شبابك أن تتفهم مشاعر ابنتك إذا هي حرمت ممن تحبه وترغبه‏,‏ بل وأيضا ومشاعر هذا الشاب إذا حرم من أمله فيها لغير ذنب جناه سوى ضعف إمكاناته المادية‏.‏
ونحن نحتاج لكي نحسن الحكم علي الآخرين ومواقفهم‏,‏ أن نتمثل ظروفهم ومشاعرهم ودوافعهم إليها‏.

ولقد جاء هذا اللقاء العابر في حفل شركة الأدوية مع من خفق قلبك لها بالحب في سنوات الدراسة الجامعية‏,‏ لكي يذكرك بما كادت شواغل الحياة المادية تنسيك إياه‏,‏ وينبهك إلى أنه من الظلم حقا أن يحرم الإنسان من حقه المشروع في السعادة بمجرد أن هناك من يفضله في الإمكانات المادية والأوضاع الاجتماعية‏,‏ أو لأن الآخرين لا يطيقون الصبر عليه حتى يبني حياته ويصمد لصعوبات البداية‏,‏ كما أنه من الظلم أيضا أن لا نحكم على الغير إلا بالمعايير المادية وحدها ونتجاهل مقوماتهم الشخصية والخلقية والدينية والعائلية‏,‏ وغيرها من المعايير الأهم‏..‏ فلقد تكون السعادة والتوفيق في الحياة مع البساطة والبداية الصغيرة‏,‏ ولقد يكون الشقاء مع البريق واللمعان والوفرة المادية‏.‏
ولاشك في أن رحلة العمر وشواغل الكفاح وبناء الذات لم تفقدك بعد رقة المشاعر ولا القدرة على فهم الاعتبارات العاطفية وتقديرها‏,‏ فأهاج هذا اللقاء العابر في الحفل أفكارك وخواطرك وذكرك بأهمية المشاعر في اتخاذ القرارات السليمة‏,‏ مادامت لا تتعارض مع أحكام العقل‏,‏ ولا تتصادم تصادما فادحا مع مقتضيات الحكمة وحسن تقدير الأمور‏,‏ فكان جميلا منك أن تتمثل مشاعر ابنتك الشابة إذا هي حرمت ممن يرغبه قلبها‏..‏ وأجبرت على الارتباط بغيره‏.,‏ حتى إذا التقت به بعد طول السنين تحركت شجونها كما ثارت شجونك ونحت باللائمة في أعماقها على من لم يتفهموا عمق مشاعرها ذات يوم بعيد‏.‏

غير أن الأجمل أيضا هو أن تتمثل كذلك مشاعر هذا الشاب الذي يتطلع لابنتك بنظراته الصامتة منذ بداية المرحلة الجامعية ولا يجرؤ على مفاتحتها برغبته فيها‏,‏ إذ إنه ليس أقسى على نفس الحر من إحساسه المرير بالعجز وقلة الشأن والهوان على الآخرين‏.‏ فلقد شكا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من مثل هذا الإحساس المرير إلي ربه حين ذهب إلي الطائف يعرض علي الناس دينه فآذوه وسخروا منه فأوي إلي حائط يستريح فيه وبث شكواه إلي ربه قائلا‏:‏ اللهم إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني علي الناس‏.‏
وأسوأ ما في النفس البشرية‏,‏ كما قال ذات يوم المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي ـ هو أن يقلد الإنسان ما فعله به جلادوه مع الآخرين بدلا من أن يتعفف عن تكرار ما عاناه بنفسه مع غيره‏!‏

ولقد كان أهل فتاتك السابقة هم جلاديك الذين أشعروك حينذاك بالعجز والضعف والهوان‏,‏ بغير سبب سوى ظروفك المادية التي لم تكن مواتية وقتها‏,‏ فهل تكرر ما فعلوه بك مع هذا الشاب ؟
إننا كآباء وأمهات نريد لأبنائنا دائما الأفضل والأرفع والأنفع‏,‏ لكن من واجبنا خلال ذلك هو ألا نتجاهل كذلك مشاعرهم ورغباتهم المشروعة والتي لا تتناقض مع أحكام العقل والدين‏.‏

وهذا الشاب الذي تميل إليه ابنتك‏,‏ وأحسب أن مشاعرها تجاهه أقوى من مجرد الميل وأكثر عمقا‏,‏ زميل لها بنفس الكلية وعلى خلق ودين وليس في سجله العائلي والشخصي ما يعيبه سوى أنه كغيره كثيرون تعوزه الإمكانات المادية بالمقارنة بما حققته أنت من نجاح مادي بعد 28‏ عاما من الزواج‏,‏ وبالتالي فإن رفضه قبل أن تراه لا يقوم سوى على الاعتبار المادي وحده‏,‏ وسوى على رغبتك أنت لها في أن ترتبط بمن يفضله ماديا وعائليا‏,‏ وأفضلية إنسان على آخر من وجهة نظر الأب لا تعني الحكم على المفضول بعدم الجدارة‏,‏ وإنما تعني في الحقيقة أن كلا منهما جدير بالابنة‏,‏ لكن ظروف أحدهما العائلية والمادية أكثر بريقا من ظروف الآخر‏,‏ فإذا وضعنا في الاعتبار رغبة الابنة في المفضول ماديا واجتماعيا ومشاعرها تجاهه خاصة إذا تأكدنا من جديتها وعمقها‏,‏ فإن ذلك يكفي تماما لترجيح كفته عند ذوي القلوب الحكيمة‏.‏
فليكن اختيارك إذن على أساس امتحان أخلاقيات هذا الشاب الذي ترغبه ابنتك‏,‏ واختبار طباعه وحسن معاشرته وصدق تدينه وصحة رؤيته للحياة وسلامة ظروفه العائلية مما يسوءه‏,‏ لان هذا هو حقا ما لا يمكن جبره إذا أنكسر‏,‏ أما الإمكانات المادية فإن الشجرة المثمرة تحتاج إلى بضع سنوات لكي تثمر ثمارها وتورق أوراقها مع الرعاية والعناية والصبر‏,‏ كما حدث في حياتك الشخصية‏,‏ وكما يحدث في حياة الأغلبية العظمى من البشر الذين يبدأون حياتهم بدايات صغيرة‏,‏ ثم تورق أشجارهم وتثمر ثمارها الخيرة بعد حين‏.‏

ثم ما قيمة المال يا سيدي إذا نحن لم نعن به أبناءنا على السعادة ؟ ولم كان الكفاح والعرق وعناء السنين إذن‏,‏ إذا لم يكن لكي نستطيع ذات يوم أن نيسر لأبنائنا طريق السعادة ونزيح عنه أحجار الصعوبات المادية ؟
ليس من صالح الحياة أبدا أن نزيد عدد التعساء فيها اثنين كابنتك وهذا الشاب إذا كان بمقدورنا أن نتيح لهما السعادة بشيء من الفهم والتسامح والعطاء والتنازل عن بعض الاعتبارات المادية‏.‏
وإني لأترك لحكمتك كأب وإنسان ذاق لوعة الحرمان العاطفي من قبل‏,‏ لغير سبب سوى المال أن تتخذ القرار السليم في هذا الشأن‏,‏ وأذكرك فقط بالحكمة الإنجليزية القديمة التي تقول‏:‏ تجربة آلمتني‏..‏ تجربة علمتني‏..‏ وشكرا‏.‏

رابط رسالة ثمن السعادة تعقيبا على هذه الرسالة 

 نشرت عام 2001 قي جريدة الأهرام باب بريد الجمعة

 راجعها واعدها للنشر / نيفين علي

 



Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات