نظرة الحزن .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

نظرة الحزن .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

نظرة الحزن .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991


إن ما نحمله من مشاعر للآخرين لا يرتب لنا حقوقا عليهم إلا إذا كانت هذه المشاعر متبادلة بيننا.
عبد الوهاب مطاوع

حصلت على الثانوية العامة ولم أعمل .. فتقدم لخطبتي شاب عن طريق احد المعارف فوجدته لطيفاً رقيقاً لكني لاحظت في عينيه نظرة حزن وانكسار غريبة على شاب في مثل سنه واستسلاماً واضحاً للأقدار فزادتني هذه النظرة الحزينة تعلقاً به وقبلت الارتباط به .

ثم فوجئت به يرفض أن تكون لنا فترة خطبة معقولة لكي يتعرف كل منا على الآخر ويزداد فهماً له, ويصر على عقد القران والزواج بعد فترة قصيرة وترددت قليلاً في الموافقة على ذلك لكني كنت قد انجذبت إليه تماماً فتم الزواج بعد وقت قصير .

ولفت نظري خلال إجراءات الزواج كما لو كان كل من حوله يعرفون شيئاً ويخفونه عني .. وكما لو كان هو مخدراً يمضي في طريقه بلا مقاومة ولا ابتهاج في نفس الوقت .

وتزوجنا وأكدت لي العشرة أنه إنسان طيب هادئ منطو على نفسه ومع الأيام عرفت الشيء الذي أحسست أن الجميع كانوا يعرفونه وهو أنه كان يحب إحدى قريباته حبًّا طاغياً منذ تفتحت مداركه للحياة وأن تعلقه بها كاد يودي به حين تزوجت غيره , فأصيب بصدمة عصبية عنيفة , وبعد بضعة شهور من زواجها , أشار عليه الأهل بأن يتزوج ليخرج مما هو فيه وهداهم البعض إليّ فجاء يخطبني وتألمت كثيراً حين عرفت ذلك لكني كتمت آلامي وقررت بيني وبين نفسي أن أجعله ينساها بحبي له وحرصي عليه وأملت أن ينشغل بمجيء الأبناء ومشاكل الحياة عنها , وجاء الأبناء واحداً بعد الآخر وأنجبت ثلاثة بلغ أكبرهم الآن الخامسة وأصغرهم الثانية من عمره , ومضت حياتنا بلا أزمات حادة .

ثم حدث تطور هام منذ بضعة شهور فقد مات فجأة زوج تلك السيدة التي تزوجنا نحن على إثر زواجها منه , لينساها , بعد زواج قصير لم يدم بينهما سوى عدة سنوات وترك ورائه طفلين صغيرين .

وكانت كارثة عائلية التف خلالها الجميع حول الأرملة الشابة الحزينة ومن بينهم زوجي بالطبع , الذي كان أكثرهم اهتماماً بها .. ولاحظت شدة هذا الاهتمام والانشغال بها , ولفت نظره إليه فنهرني بشده بدعوى أنها في محنة , ومن الواجب أن يقف معها الجميع بكل مشاعرهم وتأججت نيران الغيرة في داخلي وكتمتها وتحاملت على نفسي لكيلا تتصاعد الأزمة , ثم فوجئت به بعد شهور من وفاة زوجها يتقدم إليها عارضاَ عليها الزواج فترفضه مرة ثانية !

 

وبقدر ما حزنت وفجعت في زوجي الذي فعلت المستحيل لإسعاده وإرضائه بقدر ما سعدت بموقف هذه السيدة التي رفضت أن تهدم بيت زوجة لها أبناء صغار كأبنائها وحملت لها في قلبي الامتنان والشكر , ولم أعرف ماذا أفعل ولا كيف أتصرف , وفي غمار حيرتي هذه انهار زوجي فجأة وسقط صريعا للمرض النفسي وتولاني الخوف الشديد وأنا أراه يذوي يوما بعد يوم , ولم أقف عاجزة فاصطحبته إلى كبار الأطباء النفسيين فقالوا لي : إنه تعرض لهزة نفسية عنيفة ولا يشفيه منها الدواء وإنما علاج أسبابها , وعرفت من الأهل أن نفس هذه الهزة النفسية قد حدثت قبل ذلك حين تزوجت غيره منذ عدة سنوات , واحترت يا سيدي ماذا أفعل لأحمی أطفال الصغار من التشرد ولأنقذه من الاحتضار البطيء الذي يتسلل إليه أمامي .. وفكرت ثم عقدت العزم على شيء وصممت عليه. وذات مساء خرجت من بيتي إلى بيت تلك السيدة قريبة زوجي وجلست إليها وحدثتها حديث المرأة للمرأة ووجدتها سيدة عاقلة وجميلة ومحتشمة ومريحة في الكلام والتعامل , ثم استجمعت شجاعتي وطلبت منها أن تقبل رجائي الحار لها بأن تتزوج من زوجي ! فنظرت إلي مذهولة وفوجئت بأني أعرف القصة كلها , وبعد أن تغلبت على دهشتها اعتذرت بشدة عن عدم قبول طلبي فأعدت الرجاء و ألححت عليها فيه فتمسكت بالرفض والاعتذار لأنها لا تريد أن تخرب عش أسرة صغيرة كان لها مثله منذ قليل , ولا تريد لطفليها الصغيرين من ناحية أخرى زوج أم .

 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لا يا سيدتي لن أناشدها أن تغير موقفها رغم تعاطفي معك وإشفاقي عليك مما أكرهتك عليه الظروف القاسية , فإني أؤيد تلك الأرملة الكريمة في موقفها من رفض زوجك وأراه الموقف الصحيح في هذه الأزمة العصيبة , ذلك أن ما نحمله من مشاعر للآخرين لا يرتب لنا حقوقاً عليهم إلا إذا كانت هذه المشاعر متبادلة بيننا , ومن الواضح أن هذه السيدة لم تستجب لمشاعر زوجك العاطفية قبل زواجها وأن حبه لها كان حباً من طرف واحد وإلا لما انصرفت عنه وتزوجت غيره , ولست اتفق معك في أنها تحمل له حباً بالمعنى العاطفي لهذه الكلمة وإنما هي في اغلب الظن تقدر له مشاعره تجاهها وتقدر له سجاياه كإنسان وقريب ولا تبادله حباً بحب , لهذا فإني أضيف إلى أسبابها النبيلة لرفض الزواج تعففاً عن الإسهام في تخريب عشك وتمزيق أطفالك الصغار هذا السبب الهام أيضاً .


ولقد أخطأ زوجك في حقك منذ البداية حين أقام زواجه منك على أطلال حب فاشل لم يشف منه وأراد أن يلتمس في الزواج منك العزاء والسلوى لأن الزواج هروباً من حالة عاطفية أو مشكلة من مشاكل الحياة قبل مواجهتها وحلها يضعف من فرص نجاحه واستمراره ويسقط أسباب الأزمة إلى القاع لتظل كامنة فيه إلى أن تواتيها فرصة ملائمة للارتداد والظهور فتطل برأسها مرة أخرى وتهدد استقرار الحياة وهذا ما حدث حين رحل عن الحياة زوج السيدة التي تمنى زواجها .

وكان الأولى به أن يستعين بإرادته على الاقتناع بأنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه ويتيح لنفسه فرصة نقاهة كافية من أزمته العاطفية قبل أن يرتبط بك , فالزواج ينبغي أن يُطلب لذاته وليس هرباً من مشكلة أو فراراً من مواجهة النفس ومغالبتها , وليس هناك عاطفة مهما بلغ عمقها لا يستطيع الإنسان بالإرادة وبالفهم الصحيح لحقائق الحياة وبالزمن أن يعين نفسه على الشفاء منها أو أن يردها على الأقل إلى حدودها الآمنة التي لا تعوق استمرار الحياة ولا تهدد اتزانه النفسي والعاطفي , " ومن ترك شيئاً عاش بدونه " في النهاية كما قال يوماً جمال الدين الأفغاني مشيراً إلى عزوفه عن الزواج , وهناك دائماً يا سيدتي منافذ لتصريف الأحزان .. في الاندماج في الحياة الاجتماعية ومساعدة الآخرين ومساعدة النفس على مقاومتها بتجنب ما يذكرها به , وبالإيمان بالله والثقة في النفس وفي خيرية الحياة .. وفي استشعار الواجب الإنساني للمرء تجاه أسرته , وأيضاً في التعويض النفسي وأفضل ما يمثله هذا التعويض لزوجك هو أطفاله الثلاثة وأنت الزوجة المحبة الوفية التي قست عليها الحياة فأوقفتها موقف السائل والمناشد لسيدة أخرى أن تقبل الزواج من زوجها خوفاً عليه وعلى أطفالها مما هو أمرّ من مكابدة الغيرة .


هناك كل هذه المجالات التي يستطيع زوجك أن يجد فيها ما يعينه على الخروج من أزمته إلى جانب البدء فوراً بعلاج نفسي جاد ومنتظم , وبشرط أن يستنفر إرادته لمقاومة هذا الانسحاب العصابي من الأزمة بدلاً من مواجهتها والقضاء عليها , لا بد أن يفعل ذلك لأن من لا يعين نفسه على مواجهة مشاكله لا يحق له أن ينتظر عون الآخرين , ولأنه ليس من صالحه أن يرهن حياته وسعادته أسرته الصغيرة واستقرارها على الوقوف طوال العمر على باب قريبته منشداً مع الشاعر العربي :

فلا أنا مردود بما جئت طالباً

ولا حبها فيما يبيـــد ...يبيــد!

مع اعتذاري لك ...وأسفي من أجلك ..وأملي في أن يستعيد زوجك نفسه في أقرب وقت بإذن الله .

 رابط رسالة الخط الأحمر تعقيبا على هذه الرسالة

 .نشرت في جريدة الأهرم باب بريد الجمعة في يوليو 1991
        
نقلها وراجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات