ألوان الورد .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1990

ألوان الورد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

ألوان الورد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

  أي شقة مهما كان مستواها تصبح قصرًا حقيقيًا إذا خلت من الشقاق .. والبغضاء .. والآلام ولقد كان الأديب الروسي العظيم أنطون تشيكوف يقول : لو أن كل إنسان فعل ما بوسعه لتجميل رقعة الأرض الصغيرة التي يعيش فوقها بالحب والتفاهم ولمسات الجمال لصار كوكبنا فتنة للأنظار !

عبد الوهاب مطاوع


أكتب لأروي لك قصتي .. فأقول لك أنني فتاة من أسرة مصرية عادية نشأت في بيت يسوده الحب والحنان والتفاهم بين أبي الموظف بوزارة الزراعة وأمي الموظفة بوزارة الري وأختي التي تصغرني مباشرة وأخي الأصغر، وككل الأسر العادية كانت أفراحنا بسيطة .. وهمومنا صغيرة فتعلمنا في المدارس المصرية .. ونجحنا ورسبنا .. واستعنا بمجموعات التقوية في المدارس حتى اجتزنا السنوات الصعبة في دراستنا .. والتحقت أنا بكلية نظرية .. وتعودنا على أن يذاكر الكبير للصغير .. فكان أبي وأمي يذاكران لي .. وحين كبرت بدأت أنا أذاكر لأختي .. وحين كبرت أختي بدأت تذاكر لأخي .. وتقبلنا حياتنا راضين وسعداء بها نعرف بعض الرخاء في أول الشهر ثم نستعد للأيام الجافة بعدها فلا نضيق بها ونحرص على أن نرتدي الملابس اللائقة في حدود إمكانياتنا .. ونشتري معظمها من مشروع الكساء الشعبي، ومع ذلك يشهد لنا الأهل والجيران والأصدقاء بالأناقة وحسن المظهر، وأبي وأمي متحابان ومتفاهمان دائمًا ويتفاخران أمامنا بأن كلاً منهما قد اختار الآخر عن حب عميق وبأن حبهما يزداد مع الأيام !

وبسبب هذا الجو العائلي الذي تفوح منه رائحة الحب والتفاهم استقر في أعماقي أني لن أتزوج أبداً إلا بمن أحبه ويحبني فانصرفت إلى دراستي الجامعية .. ولم أستجب لأي محاولة للتودد لي لا أتوسم فيها الجدية .. ولا تستجيب مشاعري لصاحبها.

 وفي عامي الثالث بالجامعة تقدم لي ابن أحد أقارب أبي البعيدين .. وهو الثري الوحيد في الأسرة ويملك الكثير، أما ابنه فهو شاب مدلل متعثّر في دراسته وشبه متفرغ لمشروعات خاصة لا تربح ولا تخسر لكنه يتعزى بها عن تعثره في الدراسة ويركب سيارة مرسيدس بيضاء .. ولم يكن أبي يستريح إليه .. لكن أباه رجاه أن يعطيه فرصته لعله ينجح في إقناعي فيكون زواجي منه كما قال بداية لانصلاح حاله .. وافق أبي وفاتحني وأبدى رأيه فيه بصراحة وهو أن قد يكون ثرياً وجاهزاً وقادراً على الزواج على الفور .. لكنه مدلل .. ولا يعتمد عليه .. فإذا اقتنعت به فلن يرغمني على عكس ما أريد ، ورغم نفوري من الفكرة .. فقد قررت أن أعطي نفسي الفرصة للتعرف عليه عن قرب لكيلا أظلمه .. فوافقت على أن يزورنا في البيت وأن أجلس معه في الصالون عدة مرات .. على أمل أن يخلق ذلك التفاهم بيني وبينه ، ورفضت قبول أية هدية منه خلال فترة الاختبار رغم أنه جاءني في ثاني زيارة بهدية من " الألماظ " تدير الرأس ، وبعد عدة زيارات وجدت نفسي لا أميل إليه .. ولا تعجبني فيه ليونته وعدم جديته .. وتخيلت نفسي أعيش حياة رخِّية بلا حب فلم أتهلل لهذا الخاطر .. فحسمت أمري وأبلغت أبي بأني لا أوافق عليه فلم يدهش .. أما أمي فقد ضحكت وقالت لي : أنت " فقرية " مثلي تريدين الحب ولا يهمك العز .. وأشارت لأبي فأجاب باسماً : الله يسامحك !

وكانت أمي تنوه بذلك للقصة التي عرفناها منذ طفولتنا .. من أنها فضلت أبي الموظف الذي لا يملك الإمكانات لأنها أحبته في صمت وهو صديق شقيقها على ابن عم أبيها الوارث الغني الذي كان يعدها بالثراء والراحة !

وانتهت هذه القصة سريعاً .. وفي عامي الجامعي الأخير احتجت إلى أن أصور بعض مذكراتي فتوجهت إلى مكتبة غير بعيدة عن بيتنا لتصويرها .. وصورتها .. ودفعت الثمن وشكرت الشاب الوسيم الذي قام بالمهمة فلم يرد عليَّ ، فانصرفت مستاءة منه ، ونسيت الأمر بعد لحظات .. ثم احتجت إلى تصوير مذكرات أخرى بعد شهر فتوجهت إلى المكتبة .. وتذكرت فجأة " غلاسة " الشاب الذي يعمل فيها فكدت أعدل عن الذهاب وأبحث عن أخرى .. لكني استثقلت المشي فدخلتها .. وتكرر نفس الشيء .. فثرت وعدت إليه وسألته لماذا لم ترد .. ففوجئ بثورتي واندهش وأقسم لي أنه لم يسمعني وأنه مشغول الذهن بامتحانه القريب واعتذر طويلاً وعرفت منه أنه طالب في السنة النهائية بإحدى الكليات العملية وأنه يعمل بعد الظهر في هذه المكتبة ليساعد نفسه .. ورقَّ قلبي فقبلت اعتذاره وانصرفت وترددت على المكتبة بعد ذلك عدة مرات كان خلالها يقابلني بكل احترام ومودة .. وبعد فترة فاجأني بأنه يعرف أبي وأختي وشقيقي وباختصار انطلقت الشرارة السحرية التي تكتب عنها في ردودك في قلبينا في لحظة واحدة تقريباً .. ونجحت في الليسانس .. ونجح هو في البكالوريوس وتقدم لأبي يطلب يدي .. وفاتحني أبي في الموضوع وهو ينذرني بأن الشاب من أسرة طيبة .. وأباه مدير عام بإحدى الوزارات لكنه لا يملك شيئاً وأمامه مشوار طويل لكي يستطيع أن يدبر الشقة .. ووافقت .. وسعدت أمي بأن ابنتها مثلها لا ترضى بغير الحب بديلاً .. وتمت الخطبة .. ودخل محمود أسرتنا فأحبه كل أفرادها .. وبدأنا مشوار الألف ميل لتحقيق أحلامنا ونجح أبي بعد عذاب في توفير عمل لي يدر عليَّ 80 جنيهاً .. ونجح أبوه في توفير عمل له براتب 120 جنيهاً .. واستمر محمود يعمل في المكتبة بعد الظهر مقابل 60 جنيهاً .. وبحثت في الصحف عن عمل إضافي لندبر تكاليف الزواج .. فوجدت عملاً كموظفة استقبال في فندق 3 نجوم لا يبعد كثيراً عن مسكننا وتقدمت إليه ونجحت في الاختبار، فأصبحت أبدأ يومي في السابعة صباحاً فأذهب إلى عملي الحكومي في الثامنة .. وأخرج منه في الثانية فأركب المواصلات إلى الفندق لأتسلم عملي في الثالثة وأبقى فيه إلى العاشرة مساءً إلى أن يجئ محمود ويصطحبني إلى البيت .. أما هو فيبدأ عمله في الثامنة صباحاً إلى الثانية .. ثم ينتظرني على باب الفندق ليطمئن عليَّ ونتحدث لمدة دقائق قبل أن أتسلم عملي ، ثم يذهب إلى بيته للراحة لمدة نصف ساعة ويتسلم عمله الإضافي الجديد في أحد المكاتب المهنية في الرابعة ويغادره بإذن خاص في العاشرة إلا ربعاً ليأتيني في الفندق ، أما في يوم الأجازة الأسبوعية فإني أصحو من نومي فأجده في بيتنا ! ولا نفترق حتى الليل .. وقد أثار هذا بعض الحرج .. وتحدث فيه أبي مع أبيه فأجابه ببساطة ولماذا لا نعقد قرانهما الآن ونؤجل الباقي إلى أن تتيسر الأمور .. فينتفي الحرج .. فلم يملك أبي إلا أن يوافق .. وفي الجمعة التالية عقدنا القران بلا احتفال .

وواصلنا الكفاح .. وقدم والد خطيبي له المبلغ الذي أعلن أنه سيساهم به في زواجه وهو أقصى ما يستطيع أن يقدمه له .. واستبدل أبي جزءاً من معاشه وقدم لي المبلغ وانشغلت أمي منذ اللحظة الأولى في دخول "جمعيات" بجزء من راتبها وشراء بعض الحاجيات لي .. ورفض أبي أن يأخذ المبلغ الذي أراد خطيبي أن يدفعه لي مهراً وطلب منه أن يخصصه لمشروع الشقة وأصبحت أنا أمينة الصندوق لكل ما نوفره .. وكل شهر أسجل ما وفرته وما وفره خطيبي وأضيفه إلى الرصيد .. وجاءت الفرصة عن طريق نقابته فحجزنا شقة نتسلمها خلال 4 سنوات .. ودفعنا المقدم ألفي جنيه واشتريت غرفة النوم وخزنت قطعها في " فراندة " الشقة .. وواصل محمود عمله الصباحي والمسائي .. وكلما فقد العمل الإضافي بحث عن غيره .. وتنقل في جميع الأعمال التي يمكن أن تتخيلها فعمل في مكتب هندسي .. وفي مكتب محامٍ .. بل عمل سكرتيراً في عيادة طبيب .. وفي وسط هذه الدوامة دعينا لحضور حفل زفاف قريبي الذي رفضته .. وجاءني هو بنفسه ليدعونا ويدعوني أنا وخطيبي بصفة خاصة ويصر على حضورنا وأحسست بأنه يريد أن يقول لي " تعالي لتتفرجي على العز الذي حرمت نفسك منه " فقررت قبول التحدي وقلت لنفسي: "ولماذا لا نتمتع بسهرة جميلة تخفف عنا جفاف حياتنا وعملنا المتواصل ؟ " وذهبنا مع أسرتي إلى فندق هيلتون .. وكانت المرة الأولى التي أدخله فيها .. وتوجهنا إلى قاعة ألف ليلة فرأيت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت .. رأيت الديوك الرومية والخراف المشوية بالأكوام واستمتعنا بسماع ورؤية نجوم الطرب المشاهير الذين نراهم في التليفزيون وعرفت أن أحدهم تقاضى خمسة آلاف جنيه خلال نصف ساعة .. ورأيت رأي العين التورتة ذات الاثني عشر دوراً التي يفتح عنها الستار في مسرح جانبي وسط المشاعل والأضواء .. ربما تتصور أني ندمت أو أحسست بالحسد .. لكن أقسم لك بالله العظيم أني لم أحسد الفتاة التي نالته .. ولم أسخط على اختياري أو عجز خطيبي .. لأني تربيت في بيت لا يعرف الحسد والحقد .. ويؤمن بأن لكل إنسان نصيبه .. فأمضيت السهرة سعيدة أداعب أسرتي .. وأضحك من قلبي على نكت خطيبي " الغلس " إذ نسيت أن أقول لك أنني اكتشفت بعد الأيام الأولى أنه يخفي تحت غلاسته معي في اللقاءين الأولين روحاً مرحة ولا عادل إمام وظرفاً وأدباً كبيرين .. واستمررنا في كفاحنا 4 سنوات فوجئنا خلالها بأن مقدم الشقة قد ارتفع إلى 6 آلاف جنيه .. ولابد من دفعها فدفعنا فيها المبلغ الذي كنا نخصصه للأثاث  ، ورأت أمي أن الخطبة طالت فقررت أن نتزوج على أن نقسم إقامتنا بين بيتنا وبيت أسرة خطيبي بالعدل فنمضي 6 شهور هنا وهناك 6 شهور ورحب خطيبي وأسرته بالفكرة .. وتم الزفاف السعيد في حفل بسيط بقاعة أفراح متواضعة في كازينو على النيل ودعا أبي رؤساءه وأصدقاءه وأقاربه ، ومن بينهم القريب الوحيد الثري ، فجاء الجميع وجاء الشاب الذي حضرنا زفافه التاريخي في فندق هيلتون ومعه فتاة قدمها لنا على أنها خطيبته ! فرحبت بهما بحرارة ولم أندهش لأننا كنا قد عرفنا منذ شهور أنه طلق زوجته بعد خلافات عاصفة معها بسبب استهتاره وعدم توافق طباعهما .

وانتهى الحفل على خير ما يرام .. وفعلنا كما يفعل أبناء الذوات فتوجهنا إلى الفندق الذي أعمل به لأمضي الليلة في جناح العرائس كهدية من مدير الفندق لي وفوجئت عند ذهابي عند منتصف الليل بزملائي يقفون على باب الفندق في صفين بالملابس الرسمية وهم يحملون مشاعل كالتي رأيتها يوم هيلتون ثم يزفوننا إلى داخله .. ثم إلى تورتة كبيرة ستة أدوار في الصالة الداخلية ومصور الفيديو يصور كأننا من أبناء الأكابر .. وشربات .. وبالونات .. وسياح يتفرجون والجميع يهنئون ويضحكون وأمي وأبي وأختي وأخي في غاية السعادة .. وأنا أضحك .. وأدمع .. وأهمس لزوجي " شفت " ؟. ربنا دائماً .. مع الغلابة !

وبدأت حياتي الزوجية .. وبعد يومين غادرنا الفندق إلى بيت أسرة زوجي وعشنا 6 شهور تفاهمنا خلالها على أنه مهما حدث من احتكاكات متوقعة بسبب الإقامة مع الأهل عندي أو عنده فلن نغضب من أحد ولن نعتب على أحد .. ثم أمضينا 6 شهور مع أسرتي .. ورأت أمي أن الوقت مناسب للإنجاب بعد أن بلغت السابعة والعشرين فأنجبنا "عمر" ولم يتغير شيء في حياتنا فالعمل من الصباح حتى العاشرة مساءً ويوم الأجازة عيد ! وشقيقي الذي كبر وأصبح في الثانوية العامة يحمل إليَّ طفلي كل مساء على باب الفندق إذا كانت الإقامة عند أهل زوجي لأصطحبه معي للبيت .. وهو يقول لي في كل مرة متسخطا .. " انتو تحبوا واحنا نشيل! " لكنه أخ رائع وأحبه كل الحب !

ومن حين إلى آخر يذهب زوجي إلى النقابة .. أو إلى شركة المقاولات التي تنفذ المشروع .. ويسأل ويتشاجر .. ويذهب إلى الصحف وينشر الشكاوى من تأخر تسليم الشقق .. وقد نشرت له في بريد الأهرام إحدى هذه الشكاوى منذ عامين ، وكل عدة شهور يطلبون زيادة في المقدم فنعصر جيوبنا لنجمع المبلغ وندفعه ، والحياة تسير وكل تعب اليوم يتلاشى حين نعود إلى البيت .. ونتحدث في صفاء ، وحصل زوجي من عمله الصباحي على أول إجازة سنوية تستحق له .. فإذا به يرفض أن يستريح ويذهب إلى العريش ليعمل في قرية سياحية هناك ويعود ومعه مائتا وخمسون جنيهاً .. ليواصل الكفاح .. وأخيراً حدثت المعجزة .. وتسلمنا مفتاح الشقة .. ولم نحاول أن نشكو من التشطيب وإنما قررنا أن نحولها إلى جنة .. فنقلنا إليها غرفة النوم التي اشتريناها منذ 4 سنوات .. ورحنا نصلح أخطاء التشطيب ونعيد طلاء الأبواب بأنفسنا وباللون الوردي وأنا أكتب إليك الآن من عش الأحلام الذي انتظرته 6 سنوات . وأريد أن أصفه لك : الشقة مكونة من غرفتين مغلقتين ومساحة مفتوحة مفروض أن تضم الصالون والسفرة والأنتريه .. إحدى الغرفتين وضعنا فيها غرفة النوم .. والغرفة الثانية وضعت فيها كليماً ملوناً وسريراً للأطفال أضع فيه طفلي ومائدة أضع عليها طقم الصيني .. والبقية تأتي .! المساحة الخالية وضعت فيها مائدة مستديرة و 6 " كراسي" وسنكمل باقي السفرة خلال عام أو عامين .. قل يا رب ! إلى جوارها أنتريه هو في نفس الوقت صالون يكفي للغرض عدة أعوام ثم ملأت المساحات الخالية من الصالة ببوفات شرقية رخيصة .. وبعض كراسي القش التي لونتها كلها باللون الوردي وتليفزيون ملون 14 بوصة من مدخراتي ومدخرات زوجي .. والحوائط كلها تقريباً مغطاة ببراويز "يجيد زوجي صنعها" تحمل صور الزفاف .. وبعض المناظر الطبيعية .. أما مطبخي ففيه ثلاجة 12 قدم وبوتاجاز مصانع عملي ومائدة وفي الحمام غسالة أطفال صغيرة وفي الخطة الخمسية القادمة شراء غسالة نصف أوتوماتيك بالتقسيط .. والحمد لله على كل حال ..

 

وقد جلسنا في أول يوم اختلينا فيه بأنفسنا في شقتنا نراجع موقفنا فوجدنا أني قد قاربت الثلاثين .. وزوجي الثالثة والثلاثين وقررنا أن أستمر في العمل الإضافي إلى أن يسدد زوجي النقود التي اقترضها من شقيقه الأصغر لنشتري الثلاجة والبوتاجاز والغسالة .. وسينتهي ذلك خلال عام إن شاء الله .. ، وبعد ذلك أتوقف عن العمل المسائي وأكتفي بعملي الصباحي لأتفرغ لطفلي وزوجي وبيتي أما زوجي فسوف يستمر فيه إلى أن نستكمل تأثيث شقتنا ثم يستريح .. أو ربما يستمر ليشتري سيارة هو حر ! أما أنا فهذا كافٍ بالنسبة لي .. وأنا سعيدة بما حققت .. وأشكر الله عليه.

وأقول لكل شاب وفتاة لا تيأسوا من رحمة الله .. وكافحوا مثلنا واصبروا ولا تتخلوا عمن تحبون بسبب الشقة أو الإمكانات ولا تتسرعوا بقبول من لا تحبون لمجرد أنه جاهز .. فسعادتي مع من أحب ويحبني ويرعى الله في معاملتي في هذه الشقة شبه الخالية لا تقدر بمال ولو عشت في شقة فاخرة مع من لا أحبه ولا يسعدني فلا شيء يعوضني عن تعاستي .. ولا أريد أن أنهي رسالتي إليك دون أن أذكر أن بابك الجميل هذا كان خير عون لنا في كفاحنا .. وأننا كثيراً ما تعزينا عن شقائنا بما كنا نقرؤه فيه من مشاكل الناس .. وآلام الحياة وبما قرأنا لك من ردود تدعو فيها الشباب إلى ألا يتنازلوا عن أحلامهم وأن يتسلحوا بالإرادة والصبر لتحقيقها .. كما شدت أزرنا قصص الحب والكفاح التي نشرت فيه خاصة قصة الطبيب الشاب وحبيبته " المجنونة " كما وصفها، التي رفض أبوه زواجه منها بسبب الوضع الاجتماعي واضطهده وسلط عليه الشرطة ليطلقها فتحملا الضغط والحرمان وناما على مرتبة من الأسفنج ودفعته زوجته بإرادتها الحديدية للأمام وشجعته على الحصول على الماجستير ، والنجاح في حياته حتى عاد لمصر من الخارج في أجازة بعد 8 سنوات فأصر على أن يقيم لنفسه حفل الزفاف الذي حرم منه عندما تزوج .. وأصر على أن يزف من جديد إلى عروسه بعد 8 سنوات من الزواج .


ولا تكفي الكلمات لشكرك .. لهذا فسوف أقدم لك مشكلة جديدة في حياتنا الآن لكيلا يفقد بابك لونه وهو باب للمشاكل .. فأقول لك أن أختي الصغرى قد أصبحت الآن طالبة في ليسانس الآداب وقد تقدم لها محاسب عمره 39 سنة يعمل بإحدى الدول العربية منذ 10 سنوات ، ويملك شقة تمليك في مدينة نصر .. وعنده سيارة فولفو مكيفة وجاهز من كل شيء ويريد أن يقدم لها شبكة بـ 8 آلاف جنيه ومهراً 10 آلاف جنيه ومتمسك بها ويحاول إقناعها بإصرار وأبي وأمي لا يعترضان على شيء فيه لأنه على خلق ومن معارف الأسرة .. لكن أختي " الفقرية " أيضاً لا تحبه .. وتفضل عليه معيداً بنفس الكلية على " فيض الكريم " ولا يملك شقة وأمامهما معاً 7 سنوات على الأقل من الشقاء المتواصل لكي يحصلا على شقة ويتزوجا .. وهي تريد أن تعلن خطبتها  عليه في أجازة نصف السنة الدراسية في يناير القادم .. وأكثر المتحمسين له في أسرتنا بعدها هو شقيقي الذي أصبح طالباً بالسنة الثانية بكلية التجارة .. لأن المعيد سعى للتعرف عليه في الكلية وكسب صداقته وأعجب شقيقي بأخلاقه .. فماذا تقول في هذه الأسرة التي تجري وراء الفقر برهوان ؟

  

  ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

أقول فيها يا سيدتي أنها أسرة رائعة تستهدي بفطرتها السليمة وبقيم دينها الحنيف التي تقول : "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" وأسرة تستهدي بكل القيم السماوية التي تكرم الإنسان وتستهدف سعادته ، وتعرف أن أكرم الخلق أجمعين حين خطب له عمه السيدة خديجة قد اعتذر لآلها في كلمته التقليدية التي يقدمه بها لهم عن فقره بأن المال ظل زائل وعارية مسترجعة ، وبأن قيمة الإنسان في شرفه وخلقه وليست في أي شيء آخر .. وأنت بالطبع تداعبين بسؤالك غير الاستنكاري هذا نفسك وشقيقتك .. وتؤكدين به ما عرفته أنت بالتجربة الشخصية من أن السعادة حيث يستكين القلب .. وليست في أي مكان آخر ولا عجب في ذلك فلقد نشأت أنت وشقيقتك في بيت يتنفس أنفاس الحب والسعادة والوئام .. وفي ظل أبوين متحابين ، وأم لها تاريخ قديم في تفضيل الحب والسعادة والثراء بلا سعادة .. لهذا فإن نجمة هذه الأسرة في رأيي هي السيدة والدتك التي انتقلت إليكما منها هذه الفطرة السليمة .. ولا ينقص ذلك من فضل أبيكما العظيم الذي لا يحكم على البشر بمقياس الإمكانات وحده . إذاً فلا عجب فيما رويت لي وإن كنت قد أسعدتني برسالتك هذه ولا عجب في أن تعرفي بفطرتك السوية أن غاية الحياة هي السعادة وليست المال في حد ذاته .. وأن من حق كل إنسان أن يبحث عن سعادته بالوسائل المشروعة حيث يجدها . فإن جاءته مع الثراء فأهلاً بها وبه وإن جاءته عن غير طريقه فلكل شيء في الحياة قيمته .. وما نصل إليه بالعناء تزداد أهميته لدينا ونزداد استمتاعاً به وحرصاً عليه وأنت وزوجك وأمثالكما من الشباب المكافح من هؤلاء الذين ينطبق عليهم المثل الشرقي القديم الذي يقول أن النار تتلف الخشب لكنها تزيد الحديد قوة ، لهذا قد زادتكم نار الكفاح قوة وصلابة وقدرة على الاستمتاع بكل خطوة تحققانها على طريق الأحلام الطويل ولسوف يحقق الله لكما كل أحلامكما ما تمسكتما بالحب والإرادة والصبر والكفاح .. فأنتم بلا شك ممن عناهم الحديث الشريف الذي تحدث عن ثلاثة "حقٌ على الله عونهم" .. أحدهم " الناكح الذي يريد العفاف " .. لهذا فكلي ثقة من أن شقتك شبه الخالية هذه التي طليت أبوابها بلون الورد سوف تصبح قصراً جميلاً خلال سنوات معدودة بإذن الله .. بل هي من الآن أفخر من قصر .. وأكثر قيمة منه .. لأن في رحابها تجدان السعادة والسكينة وراحة القلب التي عجزت ملايين البعض عن أن تشتريها لهم . وأي شقة مهما كان مستواها تصبح قصراً حقيقياً إذا خلت من الشقاق .. والبغضاء .. والآلام ولقد كان الأديب الروسي العظيم أنطون تشيكوف يقول : لو أن كل إنسان فعل ما بوسعه لتجميل رقعة الأرض الصغيرة التي يعيش فوقها بالحب والتفاهم ولمسات الجمال لصار كوكبنا فتنة للأنظار ! وأنت يا سيدتي قد فعلت ما بوسعك لتجميل الحياة فوق رقعة الأرض الصغيرة التي كافحت كفاح الأبطال للحصول عليها .. وسوف تفعلين المزيد والمزيد لكي يصبح عشك فتنة للأنظار .. وللقلوب المتلهفة على الحب والسعادة والسلام .. فهنيئًا لكِ وشكرًا على رسالتك .. وعقبى لمن ينتظر !

رابط رسالة صوت من السماء تعقيبا على هذه الرسالة


 نشرت عام 1990 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام

راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات