الدائرة الضيقة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
تمضي الحياة إلى غايتها سواء التحقنا بحركتها الهادرة أم تجمدنا أمام أحزاننا إلى ما لا نهاية.
عبد الوهاب مطاوع
أحسست بضيق شديد في صدري فأمسكت بالورقة
والقلم لأروي لك قصتي مع الحياة عسى أن يخفف ذلك من وطأة الألم.
فأنا رجل أبلغ من العمر63 عاما عملت مستشارا ماليا لما يقرب من25
عاما في إحدى دول الخليج وحيث كانت تقيم الأسرة وتدرج أبنائي في مراحل التعليم
المختلفة وكنا نعتبر أسرة مثالية يحترمها الجميع ويحبونها ويسود البيت جو من
المحبة والألفة والإيمان وكانت زوجتي تحظى بمكانة خاصة من الحب والإعزاز والتقدير
لما كانت تتمتع به من بشاشة ولين الجانب وحلاوة العشرة وكان الجميع يقصدونها لقضاء
حوائجهم.
وتخرج الابن الأكبر في كلية الهندسة وسافر إلى أمريكا للعمل والدراسة
وتخرج الأصغر أيضا في كلية الهندسة وكان من أوائل الطلبة وهو الآن يعد لمناقشة
رسالة الماجستير. أما الابنة الصغرى والتي نحن نعتبرها فاكهة البيت ومبعث
الابتسامة والبهجة والتفاؤل فيه وتحتل مكانة خاصة عندي ولدى والدتها لأخلاقها
الكريمة وعقلها الكبير وجمالها وجاذبيتها وتدينها.
فلقد حصلت على مجموع كبير في الثانوية
العامة وكانت من أوائل الطلبة مما مكنها من دراسة الطب وتحقيق حلمها. ولقد كانت
لابنتي علاقة خاصة جدا مع والدتها وترتبط كل منهما بالأخرى ارتباطا شديدا حتى
طالما تساءلت عن سر هذه العلاقة الحميمة ؟ فتجيبني زوجتي بأنها تعتبرها الابنة
والصديقة والأخت لما لها من عقل كبير وقلب طيب وتدعو الله دائما لها أن يبارك فيها
ويوفقها لما فيه خير الدنيا والآخرة, وفي نهائي بكالوريوس الطب تقدم لابنتنا شاب
ممتاز وعلى درجة رفيعة من الأخلاق الحميدة والتدين ومن أسرة متدينة وعريقة ويشغل
وظيفة محترمة فشعرت بأنه هدية من السماء لابنتنا غير أن ابنتي اعترضت في البداية
بحجة أنها في آخر سنة في كليتها ولا تريد أن يشغلها شيء عن دراستها وتريد أن تحافظ
على تفوقها. وشعرنا نحن بصدق رغبة الشاب وتمسكه الشديد بها وحرصه على مستقبلها
فقررنا إعلان الخطبة على أن يتم الزفاف في أول سنة الامتياز بإذن الله. وبالفعل
أنهت ابنتي الامتحانات على خير وجه وحافظت على تفوقها الدراسي وجاءت من أوائل
دفعتها. مما زاد من إعجابنا وتمسكنا بهذا الشاب وبدأنا في الاستعداد للزفاف وفي
أثناء ذلك مرضت زوجتي مرضا شديدا فجأة وبدون سابق إنذار فاصطحبتها ابنتي إلي
الطبيب فكانت الطامة الكبرى حين أخبرنا الطبيب بأن زوجتي مصابة بالمرض الخبيث وأنه
في مراحله الأخيرة وكل ما علينا هو طلب العون والرحمة من الله. فانخرطت ابنتي في
بكاء شديد وفزع الطبيب من حالتها وراح يهدئ من روعها ويخبرها أن كل شيء بيد الله
وحده أولا وأخيرا وأن أهم شيء في العلاج هو الحالة النفسية للمريض حتى يستطيع أن
يتغلب علي المرض ويقهره ومن الضروري أن نتماسك أمامها حتى لا نشعرها بأي شيء
وامتثلنا لأقدارنا. وبدأنا إجراءات العلاج وتولت ابنتي المسئولية كلها وأصبحت لا
تفارق أمها لحظة واحدة وتنام تحت قدمها وتقابل الأطباء وتناقش معهم الحالة وما
يمكن عمله من أجلها وتسهر على راحتها ومواعيد الأدوية والأشعة. لكن الحالة للأسف
ازدادت تدهورا وشعرت زوجتي بخطورة مرضها فصممت على عقد قران ابنتنا في أقرب وقت
وفشلت كل محاولاتنا لإقناعها بتأجيله.. وامتثلنا لرغبتها الأخيرة وتم القران
والزفاف وأمضت ابنتي أسبوعا مع زوجها في أحد فنادق القاهرة ثم عادت إلي والدتها
لتداويها وتواسيها وتقرأ لها القرآن وبعض الأدعية المختارة حتى فاضت روحها الطاهرة
إلى بارئها بعد رحلة مع المرض لم تستمر سوى8 شهور فقط كانت خلالها نعم المرأة
المؤمنة الصابرة الراضية بقضاء ربها, رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته
وألهمنا الصبر على فراقها, ولقد تأثرنا جميعا برحيل زوجتي وأم أبنائي تأثرا
بالغا خاصة ابنتي التي لم تكن تفارق أمها أبدا ولكن وجود زوجها إلى جوارها خفف
كثيرا من شدة إحساسها بالحزن والألم وقد شعرت أنه بالفعل هدية السماء لها تعويضا
لها عن أمها فلقد استطاع بعقله الراجح وقلبه الكبير أن يحتوي ابنتي ويرعاها
ويخرجها من حزنها ووحدتها ثم رزقهما الله بطفلة جميلة وذكية سعدت بها ابنتي كثيرا
وكذلك زوجها. وحقق زوج ابنتي نجاحا كبيرا في عمله وأصبح موضع اعتزاز من حوله
ورؤسائه فحمد الله كثيرا على ذلك وكان يقول: إن وراء كل هذا النجاح والتوفيق من
الله زوجته الطيبة الصالحة التي يعتبرها أجمل هدية من السماء إليه. وسعدت أنا
كثيرا لذلك وحمدت الله أن وفق ابنتي وزوجها ودعوت الله لهما أن يديم عليهما نعمته
ويمتعهم بالصحة والعافية. وكانت أسعد لحظاتي هي تلك التي أمضيها في بيت ابنتي
معها وزوجها وحفيدتي حيث كنت أشعر بجو الحب والسعادة والإيمان الذي يملأ جوانب
البيت وأشعر بتفاني ابنتي وزوجها كل منهما في إسعاد الآخر ونيل رضاه. ثم أخذت
ابنتي وزوجها في الاستعداد لافتتاح عيادة خاصة بها كما كانت تحلم دائما بها ثم
استيقظت أنا ذات صباح على جرس التليفون فإذا بابنتي تبلغني أن زوجها قد تعرض لحادث
تصادم خلال ذهابه لعمله وأن حالته سيئة في المستشفى وهي في حالة انهيار شديد وذهبت
معها إلى المستشفى على الفور فوجدته في غيبوبة تامة واستمرت الغيبوبة أسبوعا ثم
فاضت روحه إلى بارئها وكان وجهه عند وفاته كالبدر المضيء نورا وضياء وعلى شفتيه
ابتسامة جميلة لن أنساها ما حييت رحمه الله رحمة واسعة فلقد كان إنسانا رائعا
وابنا بارا رحل وهو شاب يافع لم يتجاوز عمره34 عاما وهو يمتلئ صحة وشبابا وحيوية
ولكن الله غالب على أمره.
أما ابنتي فتعجز الكلمات عن أن تصف حالتها من الصمت التام والترديد
المستمر لعبارتي لا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون واعتزلت الجميع
ولزمت منزلها ولم تفارق القرآن الكريم والصلاة وابنتها لمدة6 شهور من الاعتكاف
الكامل ثم بدأت تعود مرة أخرى للعمل وأصبحت حياتها مقتصرة على عملها صباحا حيث تعد
لمناقشة رسالة الماجستير وابنتها مساء فتجلس معها وتستذكر لها دروسها وما يتخلل
ذلك من حضور ندوات ومحاضرات دينية وحفظ أجزاء من القرآن الكريم. والآن يا سيدي
وبعد مرور3 سنوات على وفاة زوجها فان ابنتي لا تغادر منزلها إلا للضرورة فقط
وتعتذر عن عدم الذهاب إلى بيوت أقاربنا أو أصدقائنا وتخبرني أن هذه الزيارات تثير
فيها شجونها وأحزانها وذكرياتها مما يؤذيها كثيرا وهي تحاول جاهدة أن تتأقلم مع
حياتها لكي تقوى علي العناية بابنتها التي لم يتجاوز عمرها7 أعوام والتي هي
وديعة غالية قد أودعها الله عندها. ولقد قرأت مصادفة في مذكراتها ما دونته ابنتي
بخط يدها عما تشعر به من لوعة وأسى وحزن علي فراق زوجها وتخشى علي نفسها من الوحدة
وتدعو الله أن يصبرها ويقويها ويلهمها طريق الصواب وتدعو الله ألا يحملها ما لا
طاقة لها به ويغفر لها ويرحمها ويعوضها عن زوجها ويجزيها خير الجزاء.
ولقد تألمت كثيرا مما قرأت وزاد من شدة مرضي وازدادت حالتي سوءا حزنا
على ابنتي التي لم تتجاوز30 عاما والتي كانت دائما مبعث الحب والابتسامة والبهجة
في المنزل وأخشى ماأخشاه هو أن أرحل عن هذه الدنيا وأترك ابنتي الوحيدة وحيدة في
هذه الدنيا ليس معها أنيس أو رفيق يهتم بها ويرعى مصالحها ويكون كل منهما سكنا
ورحمة للآخر ويكملان معا مشوار الحياة. فالوحدة يا سيدي شيء مؤلم جدا ولقد عانيت
منها الكثير.
وأرجو أن تكتب لابنتي كلمة تشد بها أزرها وتدعمها وتخبرها بما أعده
الله لعباده الصابرين والمتقين في الدنيا والآخرة فهي من قراء بابك الملتزمين.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
تمضي الحياة إلى غايتها سواء التحقنا بحركتها الهادرة أم تجمدنا أمام
أحزاننا إلى ما لا نهاية, وابنتك المتدينة التي لا تكف عن النظر في القرآن
الكريم تعرف جيدا ما ينتظرها من عطاء السماء للصابرين المتمثلين لأقدارهم برضا
وإيمان, وتدرك بالضرورة أن جوائزها قادمة إليها لا محالة في موعدها المقدور إن
شاء الله غير أنها تحتاج فقط إلى أن تتفتح للحياة من جديد وتوسع من دائرة انخراطها
في الحياة العائلية والاجتماعية لكي تعين نفسها على ترويض الأحزان والخروج من
دائرة الانحصار الضيقة في المأساة الشخصية.. وتزيد من فرص التشاغل عن الهموم
والتطلع إلى المستقبل.
وقديما قال أحد الصالحين: خمسة أشياء إذا ذكرها المرء هان عليه بعض
بلائه: أن يتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وأن الجزع لا يرد قضاء ولا يغير من الأمر
شيئا, وان ما يبكيه أخف قطعا مما هو أكبر منه, وأن ما بقي له أكثر مما أخذ
منه, وأن كل ابتلاء للمؤمن لا يخلو من أجر ومغفرة أو رفعة شأن أو دفع بلاء
أشد, وأن ما عند الله خير وأبقي.
فاخرجي يا سيدتي الشابة إلى الحياة.. وترقبي نصيبك العادل من
السعادة والأمان قريبا وقريبا جدا بإذن الله.
نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 2002
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر