إن التسليم بالقضاء هو أعلى درجات الإيمان
الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قرأت ردك علي رسالة شجاعة الحياة.. وتوقفت أمام قولك إن الإنسان قد يحتاج إلى الشجاعة في بعض الأحيان, لكي يستطيع مواصلة الحياة.. وليس إلى الانتحار كما يتوهم البعض, فأنا سيدة متزوجة وأقيم في إحدى مدن الوجه البحري ولي ولدان أفنيت عمري وصحتي في رعايتهما, وعشت عمري تحت أقدامهما.. ومنذ ثمانية أشهر سافر إبني الأكبر الذي يبلغ من العمر27 سنة إلى القاهرة بالسيارة لإنهاء بعض أوراقه, ومن شدة خوفي عليه طلبت منه أن أصاحبه في السفر, لكنه رفض وقال لي إنه سوف يطمئنني عليه كل نصف ساعة بالتليفون المحمول, وقاد السيارة في طريقه للقاهرة, وبدأت أنا في الاتصال به كل5 دقائق من تليفون البيت, فكانت الشبكة معطلة, ولم أستطع الاطمئنان عليه لحوالي الساعتين, ثم سمع هو أخيرا جرس المحمول وهو عند مدينة طوخ فتوقف بالسيارة على جانب من الطريق, وخرج منها وفي يده التليفون لكي يسمع صوته, فجاءت سيارة مجنونة فصرعته في الحال وهو بجوار سيارته وفي إحدي يديه التليفون المحمول.. وفي اليد الأخري مفاتيح السيارة. وفوجئت أنا بمن يتصل بي ويبلغني بالخبر المشئوم.. وانقلبت حياتي رأسا على عقب كما حدث لكاتب رسالة شجاعة الحياة الذي فقد طفليه وزوجته وأمه في حادث واحد.. وأصبحت لا أنام إلا بالأدوية, وأحيا كالأموات, فلقد كان ابني هو أملي في الحياة وأمل والده وشقيقه, وأنا سيدة متدينة وأصلي بانتظام منذ كان عمري 10 سنوات, وقد أديت مع زوجي فريضة الحج وأحفظ القرآن وأعرف الكثير من الأحاديث الشريفة, لكن كل ذلك قد تبخر من رأسي وتوقفت عن التفكير وأصبح كل ما أريده ولا أقدر عليه هو الموت.. فالحزن فوق احتمالي ولم أعد أستطيع أن أرى فرحا عند أحد.. أو حزنا عند غيره.. ولم يفلح معي كلام الطبيب ولا مواعظ الشيوخ الذين جاء إلي كثيرون منهم, وقالوا كلاما كثيرا فكان ردي عليهم دائما هو أنني لست الخنساء التي تصبرت على موت شقيقها صخر, ولا أنا أم سلمة التي ماتت طفلتها ورجع زوجها من سفر فتزينت له وشاركته طعام العشاء.
وفي اليوم التالي قالت له: أرأيت لو أن أحدا استودعك وديعة ثم استردها
أكنت تحزن لذلك؟
وإنما
أنا انسانة بسيطة وضعيفة كان كل ما أتمناه هو أن أسعد بابني بعد انتهاء عناء
المذاكرة وتعب السنين وأن أراه مع عروسه وأطفاله في
شقته التي بنيت له فوق مسكننا, والنار في صدري لا تنطفئ, بل تزيد اشتعالا كلما
رأيت شقته خالية وبها الثلاجة والبوتاجاز وكل شيء في انتظار صاحبها الذي لن يدخلها
للأبد, فحتى شبكة العروس اشتراها ابني ولم يمهله العمر لكي يقدمها لها.. وأنا
سيدة بسيطة لم أطلب مالا ولا جاها.. ولا أحب المصايف ولا إضاعة الوقت في معصية
الله وأرضى بكل شيء في الوجود ما عدا فقدي ابني, لأنه كان نعمة المولي علي.
فماذا
تنصحني أن أفعل هل أقدم على الانتحار فأضيع آخرتي بعد أن ضاعت دنياي؟!.
أم
هل أبيع كل ما أملك وأغادر بيتي ومدينتي وأسافر إلى القاهرة لأعيش إلى جوار مسجد
سيدنا الحسين وأمضي يومي وليلي داخله وعلي رصيفه؟!.
إنني
أريد حلا يختلف عن الكلام المألوف الذي سئمته وأعدك بأنني سوف أنفذه والتزم به,
لأنني لم أعد أستطيع الحياة بعد فقدي أحب الناس إلي.. والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لن أكرر عليك يا سيدتي ما قاله لك الشيوخ وما تعرفينه جيدا مما يقال في مثل هذه الظروف المحزنة. لكني سأقول لك فقط إنه ينبغي لنا في بعض الأحيان أن نتعامل مع أحزاننا بجدية لا تقتصر على محاولة تثبيت إيمان المحزون ومواساته, وإنما تتجاوز ذلك إلى محاولة مساعدته عمليا على الخروج من الحالة المؤلمة التي يكابدها, فالحزن الشديد المتواصل إذا طالت فترته عن ستة أشهر دون أن تلوح في الأفق أية بادرة لقرب خمود شعلته وتحوله إلى حزن هادئ رفيق لا يحول بين صاحبه وبين التواصل مع الحياة وتذوق الجوانب الأخرى المضيئة منها, فإنه يتطلب بالضرورة المساعدة الخارجية لإخراج الانسان من حالة الحزن المحتدم التي يسميها علماء النفس بحالة التثكل والتي تتواصل فيها الأحزان وتفقد معها الحياة كل معنى لها, وتسيطر خلالها على من يعانيها الأفكار السوداوية إلى حد تمني الموت وتفضيله على الحياة.. والأطباء المتخصصون ينصحون من يكابد مثل هذه الحالة الانخراط في المجتمع والاختلاط بالآخرين, والانهماك في العمل.. وأيجاد شواغل جديدة له تصرف تفكيره بعض الوقت عن الاستغراق في الأحزان.. فإذا لم يجد كل ذلك شيئا يصبح لا بديل عن طلب العلاج النفسي المنتظم لحالة التثكل, ويتمثل في العلاج الجماعي عن طريق المشاركة في حلقات مصغرة تضم عددا من أصحاب التجارب المماثلة.. حيث يعرض عليهم من اجتاز محنته منهم تجربته الشخصية وكيف تعامل معها.. ومتى رأي أول نقطة للضوء في نهاية النفق المظلم الذي دخله لفترة طالت أو قصرت من العمر.. ويتشارك الجميع في عرض تجاربهم والتعبير بحرية عن مشاعرهم تحت إشراف الطبيب النفسي المتخصص الذي يقود هذه الجلسات ويوجهها إلى الغاية المنشودة... فلا يمضي وقت طويل حتى يتحول الوافد الجديد على حلقة العلاج النفسي إلى معالج متطوع لمن يجيء بعده من المبتلين, يأخذ بأيديهم ويساعدهم على الخروج من طور الحزن الشديد.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر