الثمرة الفاسدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أنا مهندس قديم وصلت إلى رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات وأحلت إلى المعاش منذ عشر سنوات وزوجتي تخطت الستين من العمر ونتمتع بصحتنا وقد أدينا فريضة الحج
واعتمرنا عدة مرات والحمد لله .. وقد عشنا رحلة حياتنا معا في سلام وأنجبنا ولدين وبنتين تزوجوا جميعا زيجات موفقة والحمد لله , وما أريد أن أحدثك عنه هو ابني الأكبر الذي تخطى الآن الأربعين فقد علمته تعليما راقيا كإخوته وكان متفوقا فأرسلته جامعته إلى بعثه في الخارج للحصول على الدكتوراه , وخلال بعثته طلب مني أن أخطب له إحدى تلميذاته التي تقيم في المدينة التي تقع بها جامعته في حين نقيم أنا ووالدته وشقيقتاه في القاهرة . فنفذت ما طلب مني وخطبت له فتاته وقدمت لها شبكة قيمة ودفعت لها مهرها أيضا من عندي , وعاد ابني الأكبر في إجازة خلال البعثة واصطحب عروسه ورجع بها إلى مقر دراسته حتى حصل على الدكتوراه ثم عاد إلى جامعته وعمل مدرسا بإحدى كلياتها .. وبعد سنوات أعير إلى إحدى الدول العربية لمدة 5 سنوات اصطحب خلالها زوجته معه وبعد عودته اشترى لنفسه شقة فاخرة في أحد الأبراج بمدينته , وخلال إجازاته من عمله بالدولة العربية كان يأتي إلى القاهرة فيقيم معنا أو عند أخته معززا مكرما , إلى أن انتهي من تأثيث شقته في المدينة الأخرى وانتهت اعارته فعاد لجامعته وأقام في الشقة الفاخرة وبعد اكتمال الشقة منذ سنتين اصطحبت زوجتي وسافرنا إليه مهنئين بالشقة الجديدة ففوجئت عند وصولنا إلى المدينة التي يقيم فيها ولدي باستقباله لنا في محطة القطار بأنه قد حجز لنا غرفة في أحد فنادق المدينة لنقيم بها واعتذر لنا بعدم إمكان مبيتنا عنده لعدم وجود غرفة خالية لديه مع أن هناك غرفة خاليه فعلا بها بعض الكراكيب .. وتحملنا المفاجأة ممتعضين ثم فوجئنا به أكثر من ذلك وكنا في آخر شهر رمضان , يدعونا لتناول طعام الافطار في مطعم وليس في بيته فاشتد حزننا وسافرنا من مدينته ونحن في غاية الحزن وبعد عودتنا للقاهرة طلبته تليفونيا وقلت له أنني كنت أتمنى أن أبيت في بيت ابني ولو على حصيرة وليس في فندق كالغرباء .. وأن شقيقه الذي يعيش معه في نفس المدينة يترك لنا حجرة نومه عندما نزوره وينام مع أولاده , فكرر الاعتذار بعدم وجود غرفة خالية في مسكنه .
وبعد ذلك حاولت أخته أن تشرح له أسباب تأثرنا منه وكتبت أنا له خطابا قلت له فيه : إن ما فعله معنا يعد عقوقا للوالدين خاصة أننا لا نحتاج إليه ولا لإخوته ماديا , فما كان منه إلا أن كتب الشقة بإسم زوجته وهو لم ينجب منها وقال بصراحة أن الشقة شقة زوجته وأننا لا نستطيع المبيت بها ! ثم بدأ يبتعد عنا تدريجيا وتقل مكالماته التليفونية لنا إلى أن انقطعت تماما , منذ شهور طويلة , ولم يعد يتصل بأخيه المقيم معه في نفس المدينة ولا بشقيقته حين يزور القاهرة .
إنني أرجوك أن تشرح له كيف يكون بر الوالدين والاحسان إليهما ومصاحبتهما في الدنيا معروفا كما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة لأنني أخشى عليه من عذاب النار إذا متنا ونحن غير راضيين عنه .
لقد أكرمني الله كرما ما بعده كرم فعوضنى عن هذا "الاستاذ" العاق بزوجين لابنتي اعتبرهما ابنين بارين لي وأشكر الله عليهما كثيرا كما منحني الله الصبر فأصبحت أقول لنفسي أن شجرتي قد أثمرت أربع ثمرات هم أبنائي ففسدت أحداهما وألقيت بها إلى الأرض .. وتمتعت بالثمرات الثلاث الأخرى الوفية الطيبة .
وفي أحيان أخرى يخيل إلي يا سيدي أنه مات ولم يعد على قيد الحياة وأرجو أن تسأله هل هكذا يكون جزاء من أراد أن يقضي يوما أو يومين مع ابنه لا يكلفه خلالهما شيئا وأين صلة الرحم ؟ّ!
إن كل ما أرجوه هو أن يعلم أنني حزين عليه ولا أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـــكـــاتـــب هــذه الـــرســـالـــة أقـــول:
ولماذا تحزن عليه يا سيدي وقد نظرت إلى الأمر كله نظرة فلسفية حكيمة فشبهت نفسك بالشجرة الوارفة التي أثمرت أربع ثمار طابت ثلاث منها وبدت فتنة للناظرين وعطبت أحداها فسقطت في التراب .. وعوضك الله سبحانه وتعالى عنها بثمرتين جديدتين ازدادت بهما شجرتك الطيبة فتنتة وجمالا !!
إن الإنسان مطالب دائما بأن يفلسف لنفسه ما يشق عليه احتماله نفسيا ليهون على نفسه ما لا يستطيع أن يسيطر عليه ليوجهه إلى الطريق الصحيح .. فتزداد قدرته على مواجهة تقلبات النفوس والأيام .. وينجو بنفسه من معاناة لا طائل تحتها.
وأنت قد فعلت كل ذلك بحكمتك الصائبة .. فلماذا الحزن على ما لا سيطرة لك عليه ؟
إنه الخاسر الأول والأخير بما فعل .. صدقني ومثله فيما فعل من قطعه لصلته بأبويه وإخوته كمثل الأمير الذي شاهده زاهد البصرة الكبير الحسن البصري ذات يوم يضرب رجلا بالسوط فقال له : والله ما تضرب إلا نفسك فإن شئت فأكثر وأن شئت فقلل ! أي أنه على نفسك إثم ما تفعل فأكثر من الإثم أو قلل منه كيفما تشاء .. فأنت الغارم وليس أحدا آخر.
وابنك "الأستاذ" لابد يعرف ذلك جيدا فإن لم يعرفه بالقراءة والتعليم فلابد أنه يعرفه بالفطرة وبر الوالدين من مقتضى الفطرة الإنسانية السليمة التي لا تحتاج إلى تعليم أو تدريس إذ يكفي أن الله سبحانه وتعالى قد قرن بين البر بالوالدين وبين عبادته وتوحيده في أكثر من موضع في القرآن الكريم .. بل إن الآية الكريمة التي تبدأ بـ "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" .. قد خصصت ست كلمات فقط لعبادته هي الكلمات السابقة ثم خصصت بعدها إحدى وثلاثين كلمة لمناشدة الأبناء أن يحسنوا صحبة أبويهم خاصة في الكبر, وأن يخفضوا لهما جناح الذل من الرحمة .. فضلا عن الحديث الشريف الذي يقول : "رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة" أي فلم ينتهز هذه الفرصة الذهبية وهي أنه قد أدرك أبويه في كبرهما فيستغلها أحسن استغلال في الفوز بالجنة بإحسان صحبتهما والبر بهما .. وهذا ما يعرفه البسطاء من الناس فما بالك بالأستاذ الجامعى ؟
لقد هدف "الأستاذ" بحجز غرفة لكما في الفندق وبدعوتكما إلى المطعم إلى ألا تطيلا الإقامة لديه .. فشكرا له إذ يبدو أن السنوات التي قضاها في بعثته للدكتوراه قد أكسبته أسوأ ما في الحضارة الغربية من نظرة عملية جافة لصلة الرحم وللأبوين ولم تكسبه ما في الحضارة نفسها من قيم للعدل والجدية وغيرهما من القيم لكنه ليس المسئول وحده عن ذلك في النهاية فمسئولية زوجته عنه لا تقل عن مسئوليته إن لم تزد , لأن الزوجة الفاضلة بحق هي التي تحرص على أن تجنب زوجها غضب أبويه وأهل رحمه , مهما كانت أسبابها لعدم الارتياح إليهم , أو حتى للضيق بهم فهي حرة فيما تنطوي عليه من مشاعر تجاه أبوي زوجها وإخوته إذا لم تكن قادرة على حبهم , لكنه من واجبها أيضا أن تعفيه من وجدهم عليه وغضبهم منه .. بل إن من واجبها أن تصل هي هذا الرحم من جانبها إذا قطعه زوجها , وأن تذكره دائما بواجبه تجاههم .. وتقرب بينهم .. هذا إذا كانت محبة ومخلصة لزوجها فعلا وليس العكس .. فلا تحزن مرة أخرى يا سيدي .. واصبر وانتظر.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ابريل 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر