الطريق المضمون .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أنا زوجة عمري 29 عاما أعيش في مدينة ساحلية .. تقدم لي زوجي منذ 4 سنوات وكان يحمل بكالوريوس التجارة ويعمل بفندق خمس نجوم بالقاهرة .. فتوسمت فيه حين رأيته ومن اليوم الأول الخلق الكريم والحنان ورحبت به وأحببته .. وأكدت لي الأيام صدق ظني فيه فحددنا موعد الزفاف بعد ستة شهور من الخطبة , ثم تعرض زوجي فجأة لمتاعب في عمله من بعض أعداء النجاح وأضطر لأن يقدم استقالته أملا في أن يجد عملا آخر وبقي زوجي ثمانية شهور يبحث في القاهرة عن عملا بلا جدوى فتبدد ما كان يدخره للجهاز , ولم يعد أمامنا مفر من تأجيل الزفاف , وبدأت صديقاتي يتهامسن عن مستقبل زوجي غير المضمون لكني سددت أذني عن كل الهمسات وصممت على الوقوف إلى جانبه ونزلت للعمل "رغم شهادتي الجامعية" بائعة في محل للملابس وبدأنا نتشارك في توفير مقدم الجهاز وأنا سعيدة وراضية لأنه حنون ومخلص وضميره يقظ ويتفانى في عمله وبعد عامين وشهرين من الخطبة تمكنا من اتمام الزفاف بمعجزة وسط ظروفنا الصعبة وكان زوجي قد انتقل إلى قرية سياحية جديدة , ومنحني شقيقي شقته لكي نتزوج فيها بصفة مؤقتة إلى أن يستطيع زوجي التصرف في شقته بالقاهرة ويستأجر بثمنها شقة في مدينتنا. وضحيت بأحلام الفتيات في الزواج فتنازلت عن فستان الفرح وعن أشياء عديدة في الأثاث وبدأنا حياتنا الزوجية وسعدنا بصحبتنا معا وأملنا أن يعوضنا الله في المستقبل عما ينقصنا .. وتركت عملي بناء على طلب زوجي لأتفرغ لحياتنا الجديدة وسعادتنا .. فإذا بالمشاكل المادية تحيط بنا من كل جانب .. وحياتنا تزداد صعوبة بعد أن ثقل علينا دفع إيجار شقة القاهرة وشقة مدينتنا وأقساط الأثاث وعجز زوجي عن استبدال شقته .. وتزايدت الضغوط المادية علينا وجاءت معها المشاكل يوما بعد يوم حتى انفصلنا في لحظة ضيق باحتمال كل هذا العناء بعد زواج دام سنة وثلاثة شهور , وكل منا يحمل للآخر مشاعر الود والاحترام.
وجمع زوجي ملابسه وحاجياته من الشقة وغادرها وهو يقول لي حاني الرأس : سأفتقدك كثيرا .. فلعنت الظروف المادية القاسية التي عكرت علينا صفو حياتنا , وبكيت كثيرا وكنت حاملا في شهري الرابع فأنجبت طفلتي بعد شهور وجاء هو ليراها ولم يعد مرة أخرى ولم يستطع الانفاق عليها ليس بخلا أو تقتيرا فهو كريم لكن ظروفه المادية كانت شديدة القسوة فقد أغلقت القرية السياحية أبوابها بسبب مشاكل عديدة وبعد شهور أخرى فوجئت به يطرق بابي ويطلب مني العودة إليه مع طفلتي بعد أن وجد عملا ملائما كمدير لمطعم بأحد الفنادق وبعد أن استطاع أن يستبدل شقته في القاهرة بشقة مناسبة في مدينتنا .. ورحبت بالعودة إليه وسعدت بها وعدنا لاستئناف حياتنا الزوجية مع طفلتنا الصغيرة ورغم تغيب زوجي في العمل لمدة 12 ساعة كل يوم , فقد كانت اللحظات القليلة التي نقضيها معا تعوضني كثيرا عن غيابه هذا الوقت الطويل .
ومنذ أسابيع عاد زوجي في المساء شاردا ولم يفصح لي عما يشغله , وفي الصباح الباكر أيقظته ليذهب إلى عمله كالعادة فأبلغني في خجل أن الفندق قد استغنى عن خدماته بعد ثمانية شهور فقط من عمله فيه , وذهلت لما سمعته وسألته عن السبب فأجابني بأن الفندق قد تأثر بكساد السياحة بسبب الارهاب فاستغني عن كثير من العاملين فيه , وكان هو أحدهم !
إن زوجي يبحث عن عمل منذ ذلك الحين وقد طرق الأبواب بلا جدوى وحياتنا الزوجية التي كنا قد بدأنا نسعد بها مرة أخرى عادت الظروف القاسية لتخنقها بالهموم والكروب وضغط الحاجة .. ألا يستطيع أحد من قرائك يا سيدي أن يوفر له عملا في الخارج أو الداخل لكيلا ينهدم عشنا الصغير مرة أخرى ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتـــبة هــــذه الـــرســـالـــة أقــــول:
من حق "أبطال الارهاب" أن يسعدوا بهذا "الانتصار الباهر" الذي حققوه على أسرتك الصغيرة المتحابة ! فإذا عرفنا أن هناك آلافا أخرى من الأسر تواجه هذه المحنة ولنفس السبب إذن لحق لنا على الفور أن نقول "ألا لمثل هذا فليعمل المجاهدون !" إذ هل هناك "أنبل" من ألا تجد طفلتك الصغيرة طعامها أو من أن تفقد أمانها وحقها في أن تنشأ بين أبوين متحابين في حياة وادعة كريمة ؟
وهل هناك "أروع" من طرد السعادة من عش صغير كعشك وتهديد زوجين متحابين بتفرق الشمل من جديد تحت ضغط الحاجة المرة.
إن هذا فعلا هو طريق "الجنة" حقا وصدقا إلى جانب قتل الأبرياء والآمنين في الشوارع .. والمقاهي وما خاب من كانت "الجنة" غايتة عن هذا الطريق "المضمون"
إنها كارثة يطول الحديث عنها .. وليس هنا مجاله على أية حال .. وها أنذا أنشر رسالتك وانتظر معك وأرجو ألا يطول الانتظار بإذن الله .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مارس 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
 

 
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر