الجائزة الكبرى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

الجائزة الكبرى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الجائزة الكبرى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

أنا صديق لبابك الجليل الحزين .. أبكي مع المجروحين وأدعو للمرضى بالشفاء وأبحث معك عن حل لمشاكل المكروبين .. وقد أضحك قليلا على طرائف بعضهم وقد فكرت مرارا في أن أكتب لك لكني تراجعت في كل مرة اشفاقا عليك من آلامي ودموعي ثم إنه قد جد في حياتي أمر يحتاج إلى مشورتك , فأنا رجل في الأربعين من عمري شاء لي ربي أن أكون عقيما وخصني بإختبار أتمنى أن أنجح في اجتيازه بتقدير امتياز مع مرتبة الصبر الأولى لأنال الجائزة الكبرى التي تكتب عنها كثيرا وتعد بها المهومين الصابرين , قد تصادقت مع أقداري فلم يعد يذكرني بها إلا نظرات طفل صغير أو ضحكاته أو حتى بكاؤه خاصة حين ألمح أثر ذلك على زوجتي الصابرة , وأخيرا طرأت في محيط الأسرة فكرة جديدة هي أن يصاحبنا طفل صغير من الملجأ بقية حياتنا ونصاحبه فيكون تعويضا لنا عن حرماننا .. ونتبادل معه العطاء فنعطيه من خير الله علينا ما ينقصه ويعطينا هو من فضل ربه عليه ما ينقصنا من الاهتمام بتربية طفل صغير .

وقد وفقنا إلى أحد الملاجئ وتقدمت بالأوراق اللازمة للحصول على طفل وسألني المختص عما إذا كنت سأكتبه بإسمي أم بالإسم المكتوب به في الملجأ فأجبته بأني سأكتبه بإسمه في الملجأ لأن التبني حرام شرعا في ديننا لكن أبي وزوجتي اعترضا على ذلك ليس اعتراضا على حكم الدين وإنما اشفاقا على الطفل من تساؤلاته المؤلمة في المستقبل .. أين أبي أين أهلي وربما يتركنا ويذهب إلى حال سبيله حين يشتد ساعده .

ورأيي المتواضع مع رأي الدين في أن يعرف الطفل الحقيقة منذ صغره على جرعات أفضل من معرفته مرة واحدة وأن نشأته بيننا مع علمه بحقيقة أمره أفضل له من تركه بالملجأ فضلا عما في ذلك من التزام بتعاليم ديننا خاصة بعد أن استشرت أهل الفتوى بالأزهر فأفتوني بعدم جواز كتابته بإسمي وحتى لا يحرمنا الله سبحانه وتعالى من الجائزة الكبرى , لكن هذا النقاش مازال مستمرا حتى الآن في أسرتي .. فقررنا استشارتك فيه أنت وأصدقاءك قراء بريد الجمعة خاصة ممن عاشوا تجربة مماثلة .. وسؤالي المحدد هو : هل أكتبه بإسمي ونتكتم هذا الأمر فلا يعرفه أحد بعد الله سوى والدتي أم نكتبه بإسمه المسجل في الملجأ دون أن نذكر له ذلك في المستقبل ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولـــكـــاتـــب هـــذه الـــرســـالـــة أقــــول :

 

ليس بعد حكم الدين في مسألة من مسائل حياتنا نقاش ولا اجهاد للعقول في توليد الآراء .. فلقد حسم ديننا هذا الجدال وأعفانا منه بتحريم إدعاء من ليس من صلبنا بنص قاطع من التنزيل الحكيم هو "ادعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم" .. "الأحزاب" ونص آخر .. "وما جعل أدعياءكم أبناءكم" , إلخ الآية 4 من الأحزاب .

وحكمة الدين في ذلك معروفة وقد كتبنا فيها مرارا .. لهذا فأنا معك في رأيك إلى النهاية ولقد حرصت خلال زيارتي لكندا منذ ثلاثة شهور على أن أزور بعض الهيئات التي ترعى الأيتام والأطفال مجهولي الهوية وسألت المسئولين عنها في هذه النقطة بالذات فعرفت منهم أنهم يفضلون أن يعرف الطفل المتبني في سن مبكرة حقيقة هويته , وأن يعرف أن الأب والأم اللذين يرعيانه ويحمل اسميهما ليسا أبواه الحقيقيين وإنما بالتبني ويعتبرون ذلك حقا للطفل على ذويه .. حتى لا ينشأ مخدوعا بحقيقة زائفة لابد أن تتكشف له ذات يوم بشكل أو بآخر , ولا يتحسبون من أثر ذلك على نفسيته في المستقبل وإنما يرون على مواجهته للحقيقة التي لا مفر منها بشجاعة في سن مناسبة أفضل له من خداعة وحرمانه منها إلى أن تصدمه بها الحياة ذات يوم فتشرخ نفسيته وشخصيته في الصميم.

وأنا شخصيا مع الرأي الذي يختار حلا وسطا بين الخيارين وهو أن تضم هذا الطفل إلى بيتك ورعايتك بإسمه المسجل في الملجأ حتى لا ترتكب أمرا محرما ثم تضيق بعد ذلك إلى أقصى حد دائرة من يعرفون هذه الحقيقة وتربيه وتنشئه على مبادئك وقيمك الأخلاقية والدينية ومنها التسليم بالقضاء والقدر والرضا بشجاعة , ثم تبدأ في تسريب الحقيقة إليه تدريجيا حين يبدأ في ملاحظة الاختلاف بين اسمه واسمك ولن يكون ذلك إلا بعد سنوات من بدئه للتعليم ثم تخففها عليه بإدعاء أنه إبن أبوين كريمين كانا من أعز أصدقائك ولقيا مصرعهما في حادث سيارة مثلا فضممته إلى بيتك وتحملت تربيته وتنشئته وفاء لهما وحبا لهذا الطفل البرئ , فتمهد له بذلك تقبل الحقيقة والتكيف معها حين يكبر وينضج ويبلغ من أمره رشدا , ولا خوف في المستقبل من أن يترككما ويذهب لحال سبيله كما تخشى زوجتك ووالدك لأن الابن هو ابن من رباه وتكفل به وحنا عليه وسهر على رعايته وتنشئته وليس ابن من أنجبه ثم تخلى عنه .. أو أنجبه ولم يرع له حقا ولم يتحمل عناء تربية يوما ونقطة الابوين الكريمين هنا مقصودة لهدف نبيل هو ألا يشعر الطفل في المستقبل بالضعة أو النقص تجاه الآخرين ويمكن تبريرها له حين يتساءل عن أهلهما بأنكم أنتم أي أسرتك أو أسرة زوجتك أهل أبويه فقد كانا من أحد فروع احدى الأسرتين البعيدة وانقطع فرعهما بمصرعهما فلم يبق لهما إخوة ولا أخوات وإنما بقي لهم الأقارب البعيدون الذين يذكرونهما بالخير والذين تنافسوا على ضمه لرعايتهم بعد مصرع أبويه لكنك فزت به أنت وزوجتك لأنكما أكثرهم وفاء ومحبة لهما وللطفل .. ولا بأس أبدأ بأن يناديكما الطفل مجازا بأبي وأمي طوال حياته , فالأبوة والأمومة معنى سام يرتبط بالعطاء والتربية والمسئولية والكفالة .. وليس بالنسب فقط .

وخير الحلول دائما هو ما يحقق صالح الطرفين ويلبي احتياجاتهما الإنسانية بقدر متعادل , ولاشك في أن هذا الطفل المحروم يحتاج لرعايتكما له .. وفي أن حياته معكما ستكون أفضل وأكرم له من نشأته في الملجأ ولا شك أيضا من ناحية أخرى في صدق احتياجكما الإنساني إليه .. ولا فيما سوف يشيعه في حياتكما من بهجة وأنس واهتمامات جديدة لذيذة تضيف إلى أسباب تمسككما بالحياة دافعا نبيلا جديدا هو أن تعيشا لرعاية هذا الطفل والوصول به إلى بر الأمان.

 فالإنسان يا صديقي يحتاج إلى من يحتاجون إليه , وكلما كان احتياجهم إليه صادقا كانت لحياته قيمة ومعنى وهدف وأعانه ذلك على تحمل عثرات الطريق .. ومشقة السفر مع تمنياتي لك ولزوجتك الكريمة بالسعادة .. والهناء وكل جوائز الحياة  الكبرى والصغرى بإذن الله .

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1994

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات