الدائرة الضيقة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا فتاة في الخامسة والعشرين من عمري لي أخ وأخت يكبرانني في السن , نشأت في عائلة مفككة .. فوجدت نفسي أعيش مع أخي وأختي وأمي في بيت خالي الذي لم يتزوج , ويعيش أبي مع شقيقه في بيت آخر, ولا نراه إلا في زيارات متباعدة .. ولا تخلو زيارة له من مشاحنات مادية بينه وبين أمي التي لم ينفصل عنها بالطلاق ولكن بالمكان والمشاعر .. واستمرت حياتنا في بيت خالي ولم نجد صدرا حنونا سواه وسوى خالي الآخر المتزوج ولم ينجب .. فنشأت اعتبر خالي الذي نعيش معه أبا لي وأعتبر أبي الحقيقي أحد أقاربنا القليلين جدا الذين لا نراهم إلا في المناسبات , وحين بلغت السابعة عشرة من عمري توفي أبي في حادث , وبالرغم من أننا لم نكن على وفاق معه منذ تفتحت عيناي للحياة إلى أن وفاته أحزنتنا وأثرت علينا جميعا .. فقد فقدنا بوفاته الأمان المادي الذي كان يمثله لنا رغم كل شئ وصرفت لنا الشركة التي كان يعمل بها تعويضا عن وفاته , فأرادت أمي أن تؤمن لنا به دخلا شهريا ثابتا فوضعته كله في شركات الهلال والشريف والريان لتوظيف الأموال ولم تمض فترة طويلة حتى وقعت كارثة توظيف الأموال وتوقف الدخل وضاع التأمين , ووقع علينا الخبر كالصاعقة .. ولعله لو لم يلاحقه نبأ آخرأشد وقعا لقضي وحده على أمي الصابرة المكافحة , لكنه يبدو يا سيدي أن الكوارث تخفف من بعضها البعض فلقد تلته على الفور كارثة أخرى أشد هولا هي وفاة خالي الأعزب الذي كان لنا نعم الأب بعد أبينا فنسيت أمي في أحزانها كارثة التأمين وحزنت عليه حزنا شديدا وبكته طويلا لأنه كان نعم الأخ لها ووقف معها في أزماتها مع أبي بإخلاص وبكيناه معا حتى جفت دموعنا .
ومرت السنون والتحقت بالجامعة وبدأت أخرج للعمل بالشركات الأجنبيه وأنا طالبة لأساعد أمي على تحمل بعض مسئوليات الأسرة وأعوضها عما تعاني منه , والحمد لله فلقد حاولت قد جهدي مساعدتها ورضيت دائما عني ودعت لي كثيرا بأن يجزيني الله خيرا عن مساعدتي لها .. ثم وفي يوم لا أنساه كنت مع أمي في البيت فإذا بها تتوفى فجأة ودون سابق انذار وأنا أحدثها وأتحدث معها ! ولك أن تتصور ما جرى لي حين أدركت وسط ذهولي بصعوبة شديدة أني فقدت أمي إلى الأبد وأصبحنا نحن الإخوة الثلاثة بلا أب ولا أم ولا أهل ولا أقارب سوى خالى الآخر المتزوج .
لقد كانت محنة قاسية لا أعرف كيف تحملناها , ولأن الحياة يجب أن تستمر مهما كانت الأحزان والآلام كما تكتب دائما .. فلقد استمرت بنا .. وزادنا انقطاع الأهل تماسكا وتعاطفا فتخرجت أختي في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب وتخرج شقيقي في كلية التجارة وعمل محاسبا بإحدى الشركات لكنه لم يستطع أن يصنع لنفسه شيئا يشجعه على الزواج في المستقبل لأنه ينفق من مرتبه الصغير على أختي الكبرى التي لم تعمل حتى الآن رغم اجادتها للفرنسية وإلمامها بالانجليزية وأعمال السكرتارية وبلغت الثلاثين ولم يتقدم لها أحد لأننا بلا أقارب وهي لا تختلط بأحد , وواصلت أنا دراستي بنجاح .
ولعلك تتساءل لماذا أكتب لك الآن هذه الرسالة , وأجيبك بأني أكتبها لك راجية أن تدعو لنا الله وتسأل قراءك أن يدعوا معك لخالي المتزوج فلقد أصيب بحالة مرضية عصيبة نرجو الله أن يجتازها بأمان وأن يهبه الصحة والعافية وطول العمر وأن يبقيه لنا , فهو الانسان الوحيد الذي يمت لنا الآن بصلة الدم ويهتم بنا , وبدونه سوف نصبح ثلاثة من الإخوة بلا أبوين ولا أقارب نهائيا ولا شخص واحد نستطيع في لحظات الضعف أن يضع أحدنا رأسه على صدره ويبكي فلا يضيق به وإنما يسمع له بحنان ويخفف عنه ما يشكو منه من ظروفه ووحدته وانقطاع الأهل .. وصعوبة الحياة .. إنني أرجوك أن تبتهل إلى الله معنا أن يحفظه .. وينقذه من محنته المرضية .. فهل تستجيب لرجائنا ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتـــبة هـــذه الــرســـالـــة أقـــول :
أما الدعاء فمن أعماق القلب .. وأما ما تثيره رسالتك من تأملات ومعان فيستحق أن يتوقف المرء عنده قليلا .. فالحق أنه بقدر العطاء تكون لحياة الإنسان أهميتها وقيمتها لدى الآخرين إذ لو لم يكن لخالك هذا شفاه الله وأطال عمره عطاؤه الإنساني والعاطفي لكم لما مثلت حياته لكم هذه القيمة الكبرى , ولكان واحدا من البشر الذين لا تختلف الحال كثيرا بالنسبة لكم أقاموا أم رحلوا .
وكل إنسان يستطيع أن يجعل لحياته معنى وقيمة لدى الآخرين إذا أدى واجبه الإنساني تجاه من يحتاجون إلى اهتمامه وتعاطفه ورعايته , وإذا أتاح لمن يتلهفون على العطف والعون النفسي أن يضعوا رؤوسهم على صدره ويسمع لهم بلا ضجر ويعينهم بما يملك بلا تردد لكن الإنسان للأسف يتجه وفي العالم كله إلى الفردية والانعزالية حتى كادت حياة البعض لا تمثل أي قيمة حقيقية لأكثر من دائرة محدودة جدا من البشر .. وفي بعض الأحيان قد لا تمثل أية قيمة لأحد سواه , لأنه لم يعط أحدا سواه ولن يثير غيابه جزع أحد أو نقصا ماديا أو انسانيا في حياة أحد .
والإنسان مهما بلغ من قوة واكتفاء مادي كائن ضعيف ويحتاج دائما إلى من تمثل حياته لديهم أهمية ما وإلى عطف الآخرين واهتمامهم به , كما يحتاجون هم أيضا إلى عطفه واهتمامه .. وللقديس بولس كلمة موحية يقول فيها "خلقت كامل الضعف" ! إشارة إلى احتياج الانسان الدائم إلى عون ربه وعون الآخرين له .
لكن الإنسان لا ينال هذا العون إلا إذا كان قادرا أيضا على العطاء للآخرين وهي حلقة متصلة من الأخذ والعطاء , وليس هناك عطاء بلا ثمن وإنما هناك دائما ثمن مقابل له من الحب والاهتمام.
وأنت قد أشرت في بداية رسالتك إلى "عم" لك كان أبوك يقيم معه منفصلا عن أمك , فأين هذا العم من حياتكم الآن .. وأين باقي أهل الأب وأقاربه ؟ وكيف تقطعت الخيوط بينكم وبينهم لمجرد أن أبويك لم يكونا على وفاق في حياتهما الخاصة ؟
إن الإنسان لا يسعد أبدا بوحدته أو بانقطاع رحمه , ولابد أن يتجاوز دائما عن المرارات أو الأخطاء حتى لا يحكم على نفسه بالوحدة في تيه الحياة .. ولست أحملكم مسئولية هذه القطيعة بينكم وبينهم .. فالحق أنكم ضحايا للتفكك الأسري ولستم جناة أو مسئولين عنه .. لكني فقط أستجيب لتداعى المعاني التي أثارتها رسالتك في نفسي .. وفي الحديث الشريف ما معناه أنه "لا يدخل الجنة قاطع رحم" وفيه أيضا "وليس الواصل كالمكافئ" أي ليس من يصل رحمه كلما انقطع كمن يكتفي بوصل من يصله فقط ويعزف عن بذل أي جهد لاستعادة صلة الرحم المقطوعة .. فكيف رضي أهل أبيك بهذه القطيعة التامة بينهم وبينكم حتى لم تعد تمثل حياتهم أو غيابهم عن الحياة لكم أي اختلاف ؟
إنني أتمنى أن يتنبه هؤلاء الأهل "المفقودون" إلى واجبهم الإنساني تجاهكم وأن يستعيدوا صلتهم بكم , ليس فقط أداء للواجب الديني بل وأيضا أداء لواجبهم تجاه أنفسهم , ولاشك أن ظروفكم سوف تتجه إلى الأفضل حين يجمع الله بين شقيقتك وبين من يستحقها وتستحقه في القريب العاجل بإذن الله .. وكذلك حين تجد عملا ملائما تعين به نفسها ويستطيع شقيقك أن يتخفف من بعض أعبائه ويصبح قادرا على الزواج .
إن الحياة لا تتوقف عند وضع معين ولا تتجمد للأبد أمامه ولسوف تدور دورتها الخالدة فتصحح الأخطاء .. وتزيل المرارات وتعوض المحرومين عما حرموا منه .. فلا تفقدي تفاؤلك .. وانتظري ولسوف يتحقق لكم كل ما تستحقونه من سعادة وأمان واطمئنان بإذن الله . ولسوف تكونون أنتم أسركم الجديدة الصغيرة فيظهر في أفق حياتكم "أهل" جدد هم شركاء الحياة وأسرهم ثم أبناؤكم الذين سيصلون ما انقطع من سلسلة الأهل بالتباعد والخلاف .. فتتسع الدائرة وتتجدد مياة النهر .. وتزول الأحزان إن شاء الله .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر