جاء الخريف .. من كتاب "صديقي ما أعظمك"
اعتدت أن أتأكد من بدايته كل سنة حين أرى شجرة الفل الوحيدة في شرفة مسكني وقد تحولت إلى عود الحطب الأجرد الخالي من الجمال .. لا تنتظر مني أن أقول لك كما يفعل الشعراء أني أكتئب لتساقط أوراق الشجر وذبول الورد في الخريف .. فالحق أني أكتئب لتساقط أوراق العمر وذبول أزهاره يومًا بعد يوم ، ومجئ الخريف يذكرني بهذه الحقيقة الكونية المرة !.
ولست أنكر جمال الخريف وشاعريته .. فقد كنت في شبابي من عشاقه .. ولا أحصل على إجازتي السنوية إلا في شهوره .. وأمضي أيامها في الإسكندرية عقب انتهاء زحام الصيف مستمتعًا بالجلوس كالصنم على مقاهي الكورنيش التي اختفت منها ضوضاء المصيفين أقرأ .. وأتأمل البحر إلى أن يتسلل ضوء النهار من وراء سحب الخريف البيضاء .. فأنهض نشيطًا وأبدأ رحلتي اليومية على الكورنيش مستقبلاً أفق البحر سائرًا على مهل لأكثر من ساعة وأتوقف من حين إلى آخر بجوار بعض هواة الصيد في الصباح الباكر .. متمنيًا في أعماقي لكل من أتوقف عنده أن تخرج سنارته بسمكة كبيرة وأبتعد عنه مهرولاً إذا طال وقوفي بجواره بغير أن تهتز خيوط السنارة قبل أن يتلفت حوله في ضيق ليستكشف سر نحسه !
لكني لم أعد أحب الخريف الآن .. وإن كنت لم أستطع أن أتخلى عن عادة الاستمتاع بالتطلع إلى أفق البحر غير المحدود كلما أتيحت لي الفرصة .. كما لم أستطع أبدًا أن أراه بغير أن أتذكر ما حدث لي في رحلة خريف قمت بها في شبابي إلى فينيسيا .. وارتبطت ذكرياتها عندي بالخريف وأفق البحر المترامي .. فقد انتهت الرحلة في أواخر أيام سبتمبر ووصلت الباخرة المصرية إلى الميناء فحملت إليها حقائبي .. ووجدت أمامي عدة ساعات خالية قبل أن تبحر الباخرة فعدت إلى المدينة العائمة ورحت أتجول في شوارعها التي أمضيت فيها 10 أيام بلا عمل كأني ألقي عليها نظرة الوداع الأخيرة ووقفت للحظات فوق أحد جسور المدينة العديدة أرقب قوارب الجندول السوداء .. وأسأل نفسي متى يقدر لي أن أراها مرة ثانية .. حين مرت بي فتاة خمنت على الفور أنها مصرية .. تحمل حقيبتين ثقيلتين تنوء بهما .. في الغربة لا يحتاج المرء لأن يطلع على جواز سفر أحد ليعرف أنه مصري .. وإنما تكفي اللمحة العابرة لتتعرف على الملامح المصرية .. ثم يجئ دور الكلام .. تأكدت من مصريتها من شكلها ومظهرها وخمنت أنها تتجه إلى الميناء لتركب نفس الباخرة فاقتربت منها .. وعرضت عليها مساعدتها في حمل إحدى الحقيبتين فوضعتها على الأرض .. وتعارفنا سريعًا .. إنها خريجة جامعية سافرت مع صديقة لها في رحلة صيف إلى أوروبا وأمضينا شهرًا ونصف شهر بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ثم جاءتا إلى فينيسيا لتلحقا بالباخرة ..
انتهى التعارف وجاء دور المساعدة فاخترت بطرف عيني أصغر الحقيبتين نسبيًا وانحنيت لأرفعها فإذا باحتجاج صاروخي من عمودي الفقري يجزني عن تحريكها .. أحسست بالحرج .. وسألتها مبتسمًا عما فيها فإذ بها كتب وزنها 27 كيلو جرامًا أما الحقيبة الأخرى التي استهولتها فليس بها سوى ملابس خفيفة الوزن نسبيًا !! ضاعت فرصة الاختيار وأصبح التراجع عارًا .. فانحنيت على الحقيبة ونفخت عروقي كما يفعل الرباعون واستجمعت شجاعتي وقررت أن أرفعها بطريقة الخطف .. وتذكرت فجأة أن خضر التوني رباعنا الأوليمبي الذي فاز بالميدالية الذهبية في دورة برلين سنة 1936 قد صرخ من أعماقه بالعربية : "يا قوي" ثم رفع رفعته الأخيرة فانطلقت الأكف بالتصفيق وتساءل الألمان عما قال البطل المصري - وترجمه لهم المصريون بأنه اسم من أسماء الله الحسنى استغاث به ليستمد منه القوة ، ففعلت كما فعل خضر التوني واستغثت بالله صامتًا ، ثم رفعت الحقيبة فكدت أفقد توازني ومرت لحظات عصيبة قبل أن أضبط حركتي وأستطيع السير ومشيت إلى جوارها عدة خطوات مائلاً إلى الجانب الأيمن ، ونقلتها إلى يدي اليسرى فمشيت خطوات أخرى مائلاً إلى الجانب الأيسر وتناقلت الحقيبة بين يدي طوال الطريق حتى وصلنا إلى الميناء بعد عذاب وحملنا الحقيبتين إلى الباخرة وجلست ألتقط أنفاسي .. وجلست الفتاة إلى جواري تستريح حتى استردت سريعًا ونهضت فسألتها بسذاجة : إلى أين ؟ لم أندم في حياتي على سؤال وجهته لأحد كما ندمت على تسرع لساني بهذا السؤال .. فقد أجابتني بأنها ستعود إلى محطة السكة الحديد حيث تنتظرها صديقتها مع باقي الحقائب لتواصل نقلها إلى الباخرة .. وأحسست بالحرج لتوقعها مساعدتي لها .. وأحسست بأن شهامتي في الميزان .. لكني هونت على نفسي الأمر بأن أثقل الحقائب قد تم نقلها ولن تبلغ أي حقيبة أخرى بعض ثقلها .. وقلت لنفسي : لا ينال الإنسان الذكر الحسن بغير عناء فنهضت متثاقلاً إلى محطة السكة الحديد مصممًا على أن أواصل مهمتي إلى النهاية وفي فناء المحطة كاد يغمى عليّ حين رأيت صديقتها تقف في الفناء وحولها "دائرة" من الحقائب والصناديق أصغرها أكبر حجمًا من الحقيبة التي ناء بها ظهري .. وفكرت جديًا في التنازل عن فكرة "الذكر الحسن" هذه والنجاة بنفسي ..
لكني لم أستطع ، وانتهى الأمر بأن أمضيت 3 ساعات طويلة كليل المعذبين في رحلات مكوكية بين محطة السكة الحديد والميناء ، تغيرت عليّ خلالها الفتاتان عدة مرات ولم تفكر إحداهما في أن تدعني في حراسة ما بقي من الحقائب وتخرج الاثنان معًا في نقلة من النقلات إلى الباخرة ، حتى انتهت المهمة بعد عناء شديد ..
ودخلت الباخرة وأنا أكاد أحبو على أربع ولا تسلني لماذا لم تفكروا في استئجار تاكسي .. فليست هناك سيارات أجرة في فينيسيا تستطيع الذهاب من المحطة إلى الميناء لأن المدينة عبارة عن قنوات مائية .. ولا حل إلا استئجار جندول لنقل الحقائب يتقاضى مبلغًا خياليًا .. والفتاتان وأنا كنا في نهاية الرحلة - والجميع - مفلسين ، وهكذا افترقنا داخل الباخرة وتواعدنا على اللقاء فوق سطحها عند موعد إبحارها لنرى الشاطئ وهو يبتعد عنا رويدًا رويدًا .. والتقينا وتناولنا شاي العصر .. في قاعة المطعم .. وتحدثنا طويلاً ثم استأذنتهما في الذهاب للكابين فسألتني إحداهما : ألن تصعد معنا للسطح لترى "الأوريزو"؟
قلت وإحساسي بتخدر عضلاتي يزداد : نعم ؟
قالت : "الأوريزو" .. إنه أفضل مشهد ف رحلة الباخرة خلال الخريف الذي بدأ منذ أيام وخاصة عند الأصيل .. تساءلت بيني وبين نفسي عما تقصده "بالأوريزو" .. إن من معالم الرحلة بين فينيسيا والإسكندرية بالباخرة ممر جبلي ضيق في إحدى الجزر تمر به الباخرة فتكاد تلمس جدار الممر بذراعك لو وقفت في شرفة الباخرة .. وقد رأيته في رحلة سابقة .. لكن الباخرة لا تعبره إلا في اليوم الثالث من الرحلة فماذا تقصد "بالأوريزو"؟
أحسست بالخجل من جهلي السياحي ونهضت معها إلى السطع .. فإذا بنا نتجه إلى سور الباخرة لنتطلع إلى البحر المترامي وقرص الشمس الأحمر يغطس شيئًا فشيئًا فيه ..
آه .. هذا إذًا هو "الأوريزو" أي الأفق بالفرنسية و "هورايزون" بالانجليزية .. لقد أعجزتني آلام الظهر والأذرع والأكتاف عن التفكير فلم ألتقط معنى الكلمة في الوقت المناسب .. لكني تداركت الأمر سريعًا وحرصت على إظهار استمتاعي بالمشهد في صحبة فتاتين مثقفتين حديثهما ممتع إلى أن ألححت عليهما في الاستئذان واعدًا إياهما بمشاهدة المنظر معهما خلال أيام الرحلة الطويلة التي لن نجد ما نفعله فيها سوى التطلع إليه ..
وأسرعت إلى سريري فلم أنهض منه إلا في الصباح وقد تضاعفت آلام ظهري والكتفين ، فتوجعت وتأوهت وسألني زميلي في الرحلة الذي اختفى طوال رحلاتي المكوكية والذي بحثت عنه لينجدني فلم أره إلا في الكابين : مالك؟ .. فوجدت نفسي أقول له بغير تفكير "الأوريزو" حيموتني !
قصدت أن أقول "ظهري" فأفلت لساني بهذه الكلم العجيبة .. وتنبهت لغلطتي فضحكت ورويت له ما حدث.
ودعوته للذهاب إليهما لتناول الإفطار معهما .. وانقضت الرحلة بين الحديث مع الفتاتين المثقفتين .. والتطلع الطويل الصامت إلى أفق البحر فوق السطح .. وبين ترددي على طبيب الباخرة طلبًا لمسكنات آلام عمودي الفقري .. حتى افترقنا في الإسكندرية ..
ثم تسألني بعد ذلك .. لماذا لا أحب الخريف ؟
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر