هواجس صامتة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أكتب لك عن مشكلة قد لا تكون خاصة بي بصفة مباشرة لكنها تخص أقرب الناس إلي, فأنا طالبة بالفرقة الثالثة بأحد المعاهد العليا , ونحن ثمانية أبناء لأب مدير سابق بالتعليم منا بنات هي أنا وأختي والباقي ذكور, وقد تزوجت شقيقتي الكبرى وثلاثة من إخوتي الشباب , ثم ظهرت في حياتنا مشكلة لم يحسب لها أحد حسابا من قبل , فلقد تزوجت شقيقتي منذ 14 عاما ومضت السنوات ولم تنجب , وتأكد الأطباء من أن السبب يرجع إليها, فرضي زوجها وهو رجل فاضل حقا بما أراده له الله وعاشا معا في وئام متنازلين عن حلم الانجاب , ثم تزوج شقيقي الذي يليها في الترتيب وهو يعمل بالخارج منذ سنوات طويلة فلم ينجب هو الآخر وبدأ رحلة علاج طويلة استغرقت سبع سنوات ثم أذن له الله أخيرا بالانجاب ، فأنجب طفلا .. ثم تزوج شقيقي الذي يليه وهو مهندس بإحدى الشركات العامة فلم ينجب هو أيضا حتى الآن ولسبب يرجع إليه .. وأخيرا تزوج شقيقي الثالث وهو مهندس كذلك من إحدى قريباتنا بعد قصة حب طويلة جمعت بين قلبيهما فمضي عامان ولم ينجب , وتجددت الهواجس الصامتة حول عدم القدرة على الإنجاب في محيط أسرتنا واكتئاب الجميع لها .. وطاف شقيقي بالأطباء فتبين أن احتمال قدرته على الانجاب ضعيف جدا .. وشقيقي هذا يحب زوجته إلى أقصى حد وهي تبادله الحب بنفس الدرجة وأكثر , لكن المشكلة هي أن أبويها وهما فاضلان ومتديان غير راضين على عدم إنجابها لأنها ابنتهما الوحيدة التي يحبانها للغاية وقد مرضا لحزنهما على عدم إنجابها , ثم حددا لها مهلة معينة إن لم تنجب خلالها فإنهما سيقومان بتطليقها من شقيقي لتبدأ حياة أخرى مع من ترشحه لها الأقدار ويستطيع أن يحقق لها الانجاب .
وزوجة شقيقي حائرة بين زوجها الذي يحبها ويحسن معاملتها ويتحمل مسئوليتها وهو رجل بكل معنى الكلمة وبين أبويها اللذين يحبانها ويرغبان في إنجابها أو طلاقها .. ومهما كانت درجة حبها لزوجها وسعادتها معه فإنها لا تستطيع أن تخسر أبويها اللذين يكرسان حياتهما لها , لهذا أريدك يا سيدي أن توجه إليهما كلمة تقول لهما فيها أن الحياة الزوجية السعيدة ليست أولادا فقط وإنما يكفي أن تكون ابنتهما سعيدة مع زوجها وراضية عن حياتها معه وأنه ليست هناك عوامل وراثية تمنع أشقائي من الإنجاب , فكل أفراد عائلتنا منجبون , لكن هذه هي إرادة الله وحكمته , وشكرا لك لمشاركتك في انقاذ سعادة زوجين شابين شاءت لهما الاقدار ألا تكتمل سعادتهما بالإنجاب .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكــاتـــبة هـــذه الـــرســالـــة أقـــول :
لو كانت السعادة في الإنجاب وحده لهان أمرها ولشاركت الإنسان فيها كل فصائل الحيوان والطيور والحشرات أيضا ! لكن المشكلة هي أن الأهل ولهم كل العذر في ذلك يطلبون غالبا لأبنائهم أقصى حد من السعادة يحلمون به لهم , ومبرراتهم في طلبها لأبنائهم نبيلة ومفهمومة .. ولكن ماذا نفعل إذا ضنت علينا الحياة ببعض أسباب هذه السعادة .. وسخت علينا في بعضها الآخر ! هل نتخلى عما بين أيدينا منها أملا في اكتمال الأسباب في حياة جديدة ؟ ومن يضمن لنا ألا نتحسر حتى على ما كان بين أيدينا منها , إذا اختبرتنا الدنيا بحياة أخرى جادت علينا فيها بأحد الأسباب التي تمنيناها كالإنجاب وقبضت يدها عنا في معظمها ؟
هل نهدم المعبد الجديد أيضا .. ونبدأ رحلة جديدة سعيا وراء اكتمال أسباب السعادة فنمضي العمر في بحث دائب عنها "شوقنا أمامنا والقضاء وراءنا" كما يقول أحد الصوفية , ومن يضمن لنا ألا نخسر في كل جولة جديدة جزءا من سلامنا النفسي ومن سعادتنا القديمة ومن قدرتنا على الاستمتاع بالحياة حتى لو بلغنا واحة الأمان .
ثم أين هو الإنسان الذي اكتملت له أسباب السعادة من كل جوانبها وعاش حياته في ترنيمة متصلة من ترانيم الهناء , إن الرضا بما أتاحته الحياة للإنسان من أسباب أهم عوامل السعادة .. فإذا كانت زوجة شقيقك راضية عن حياتها معه وسعيدة به فإن من واجب أبويها وهما فاضلان ومتدينان كما تقولين ألا يعترضا على ما أختاره لها الله سبحانه وتعالى .. وأن يتيحا لها فرصتها كاملة لاختيار الاستمرار مع زوجها بغير أي محاولة للتأثير عليها .. ولو كانت من نوع التأثير الصامت لكي تتخذ قرارا مخالفا لما ارادته وحزن أبويها ومرضهما لعدم انجاب ابنتها , وإن كانت بواعثه نبيله ومقدرة إلا أنه في النهاية نوع آخر من هذا التأثير المعنوي الصامت الذي قد يثمر ثماره على المدى الطويل معها .. فإن لم يفعل فهو على الأقل يفسد أو يقلل من بهجتها ورضائها عن حياتها .. لأننا كما قلت مرارا لا نسعد بحياتنا وأعزاؤنا تعساء , إذن فليرضيا عن حياتها مادامت هي راضية عنها .. وليتنازلا مشكورين عن هذه المهلة التي حدداها لها للانجاب وإلا طلقاها لعدة أسباب أهمها أن أمر الانجاب ليس بيدها ولا بيد زوجها ولا بيد الطب , وإنما بيد خالق الأكوان الذي ".. ويجعل من يشاء عقيما " ولأنهما لن يضمنا حتى إذا رزقت بأبناء من زواج آخر أن تسعد بهم , وألا يكونوا مصدر شقائهم في المستقبل .. أما إذا كانت غير راضية عن حياتها مع زوجها أو تشاركهما أفكارهما وهواجسهما فالأمر يختلف ومن واجب الأبوين في كل الأحوال ألا يتعجلاها الاختيار , فعامان من عمر زواج سعيد ليسا كافيين لليأس من أمل الإنجاب الذي قد يتحقق في أية لحظة , ناهيك عن أن يوميا واحدا من السعادة الحقيقية مع زوجها لا يعدله عمر طويل في زواج آخر تعيس حتى ولو امتلأ بيتها فيه ببكاء الأطفال وضحكاتهم , وليس في كل ذلك جديد , فتجارب الحياة العديدة تعيد تنبيهنا إليه كل حين لكننا للأسف لا نتعلم الدرس إلا إذا مسنا الضر واحترقت جلودنا نحن أبناء التجربة الشخصية .. وتعرفنا أننا ممن عناهم المفكر الفرنسي الكبير مونتسيكو حين قال :
ينبغي أن نقنع بعض الناس بالسعادة التي يجهلونها وهم يتمتعون بها فعلا بغير أن يشعروا.
وسعداء الحظ منا هم من يقتنعون والأسباب مازالت بين أيديهم وتعساء الحظ منا هم من لا يقتنعون بذلك إلا بعد فوات الأوان وشكرا.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر