حفيف الشجر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

حفيف الشجر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

                حفيف الشجر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

سامحك الله فلولا قراءتي لك لكانت نظرتي للأمور أقل اختلافا عما هي الآن , فمن خلال بريدك الأسبوعي الذي أدمنت قراءته منذ سنوات استقرت في وجداني فكرتان , الأولي هي الحرص على أن يكون فرق العمر بين الزوجين معقولا بحيث لا يتعدى عشر سنوات , والثانية أن العقم والحرمان من الانجاب سيكون وبالا على الزوجين معا , إذ حتى لو كان الحب يجمعهما فإن الرضا بقضاء الله قد يطفو على السطح فقط , أما في الأعماق فإن النفوس "تفور" وتضيق وتعبر عن ذلك بالأرق والسهاد والتحسر والنظرات المحرومة لأطفال الآخرين .

وعذرا لهذه المقدمة فإني أتحدث بما في قلبي إلى شخص اعتبره صديقا لي على البعد في زمن عز فيه الأصدقاء .. فأنا شخص ناجح في عملي والحمد لله , وتذكرت علاقاتي بالجنس الآخر , إذا استبعدنا التجارب التي تشبه فقاقيع الهواء في فتاة جمعنا الحب معا واتفقنا على الزواج وأنا في بداية حياتي العملية فرفضني أهلها , ورغم حزني على فقدها إلا أنني تقبلت الأمر الواقع ولم أقاتل لكي أنال فتاتي التي تزوجت من شخص لا تحبه . وقلت لنفسي أنني مادمت شابا وقادرا على اكتساب حب فتاة فإني أستطع أن أنال القمر الساطع في السماء , وأنسى هذه التجربة , فمضت بي سفينة العمر إلى ضباب الخريف وليس في حياتي من يؤنس وحشتي ويشاركني رحلة السنين ولم أجد قمرا ولا نجوما .

وستتساءل بالطبع : ولماذا لم أتزوج ؟ وأجيبك لأنني ممن ذكرهم الرحمن سبحانه وتعالى في محكم تنزيله فقال عنهم :"ويجعل من يشاء عقيما" وقد اكتشفت هذه الحقيقية بالمصادفة خلال علاقتي بفتاتي التي احببتها واستعدادي للزواج منها , وأكدت الفحوص والتحاليل ذلك واخترت أن أكون أمينا معها ومع أهلها , فرفضوني وتشككوا في رجولتي !! ولست حزينا لعقمي ولا أشكو ربي جل شأنه إليك , وإنما أشكو إليك .. فولا كتاباتك التي احترمها وأراؤك التي تعجبني وقصصك التي تعبر عن واقع الحياة في مجتمعنا لكنت أقل خوفا مما أنا عليه الآن , ولتقدمت لفتاة أخرى , لكني أحس أنني إذا فعلت ذلك فسوف أفتح على نفسي أبواب الجحيم سواء من أهل الفتاة أو من الفتاة نفسها , كما أني أستطيع أن أبادر بذكر علَتي لكل فتاة اقترب منها لكي تقرر الاستقرار أو وقف التجربة قبل بدايتها .. وعجبا لمن لا يتدبرون آيات الذكر الحكيم التي تشير إلى إرادة الله فيمن شاءت إرادته أن يجعله عقيما , ولا سنة رسوله_صلي الله عليه وسلم .. الذي تزوج بمن تكبره ومن تصغره فلم تنجب إلا زوجتان , ولقد نشأت ومفاهيم كل من حولي تتركز في أن كيان الرجل في فحولته , وأن قدرته على الانجاب هي شهادة له بالنجاح , وأن الفتاة تكبر لتتزوج وتنجب , وقد خرجت من مشاهداتي وملاحظاتي لأحوال الأسرة في مجتمعنا بأن الأسرة قد تغفر للزوج سوء الخلق وسلاطة اللسان وأمراض الجسم , ولكنها ترى في العقم سبه في جبين صاحبه , ولعلك تسأل : ولماذا أوجه حديثي هذا إليك .. وأقول : لأنك صاحب منبر هام وكتاباتك وآراء قرائك التي يعرضونها في رسائلهم تؤثر في قطاع عريض من الناس , ولست أكتب لك عن مرارة أحسها لما حرمت منه , فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبرنا بأن البنين زينة الحياة الدنيا , وهو الذي أخبرنا أيضا بأن من أبنائنا عدوا لنا , وإنما أكتب لك لكي تكون داعية للناس لأن يتفهموا هذه الحقائق ويواجهونا برضا وإيمان وتسليم لأنها ليست عارا ولا خزيا لأحد .. فماذا أنت قائل يا سيدي ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولــكـــاتـــب هــذه الــرســالـــة أقـــول :

 

يا صديقي كل إنسان يحمل صليبه على كتفه ويمضي به في الحياة طاويا جناحه على شجونه ونواقصه .. ولم يلمس الأرض بعد من يستطيع أن يقول أنه قد جمع بين يديه كل أسباب السعادة , أو لم يشك نقصا واحدا في حياته , وإنما سيظل للإنسان دائما ما ينقصه ويتطلع إليه , ويعتقد الآخرين سعداء به , وأحد أسباب شقاء الإنسان هو أننا نعتقد دائما أن الآخرين أسعد حالا مما هم عليه في الواقع , ولهذا فنحن نتعذب برغبتنا في أن نكون سعداء مثلهم أو أكثر منهم مع أننا لا نستطيع أن نجزم بأن الآخرين سعداء بما بين أيديهم .. والتسليم بقضاء الله فينا وقدره علينا هو أول الطريق إلى السعادة والرضا , والتواءم مع ظروفنا وحياتنا , وإذا كان من شروط الزواج الناجح أن يتوصل الطرفان إلى حل مرض لهما معا لمشكلة الإنجاب , فإن هذا الحل المرضي للطرفين قد يكون في بعض الحالات هو عدم الإنجاب إذا كان ذلك أكثر ملاءمة لظروفهما الصحية والنفسية والاجتماعية .. فالمهم هو أن يكون الحل مرضيا للطرفين معا.

 وأنجح الزيجات هي التي تقدم الحل الملائم لمشكلة الزوجين معا , وليس لمشكلة طرف على حساب طرف آخر .. وكثيرات هن من يرحبن ويسعدن بزوج لن ينجب مثلك , إما لتماثل ظروف عدم القدرة على الإنجاب أو لسابق التجربة في الزواج والإنجاب , والعزوف عن مزيد منه , ولكل إنسان دائما زوجة ملائمة له لكنه لم يلتق بها بعد , أو لم يجهد نفسه في البحث عنها , أو حالت مخاوفه ومبالغته في الإحساس بمشكلته عن التنقيب عنها وخوض بحر التجربة للاهتداء إليها .. والحكمة الانجليزية تقول : من خاف حفيف أوراق الشجر .. لن يدخل الغابة !

وكذلك يفعل من يبالغ في الاحساس بمشكلته .. أو يتهيب التجربة والرفض , ولاشك أنك معذور إنسانيا في عدم مبادرتك بالافصاح عن مشكلتك لكل من تلتقي معها , إذ ليس من الضروري ولا من الملائم أن نبادر من لا نكاد نعرفهم بالحديث عما ينقصنا ويؤلمنا .. لكن الأمانة تطالبنا بألا نخفي حقيقة ظروفنا عمن بدأت الروابط تجمع بيننا وبينهم حتى يتدبر الطرف الآخر أمره ويختار لنفسه ما يناسبه , فإذا عزف عنها فلا لوم عليه فيما أختاره لنفسه , ولا عار علينا في عزوفه عنا .

فليس لأحد يد فيما اختاره له ربه سبحانه وتعالى , ولا ذنب لأحد في عدم قدرته على الإنجاب ولا فضل لأحد في خصوبته إنما هي أقدار يوزعها الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده فـ "يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير" .. ولقد سبق أن تحدثت مرارا عن أن من أسباب تضخيم الإحساس بهذه المشكلة هو الربط الخاطئ في أذهان البعض بين اكتمال الرجولة وبين القدرة على الإنجاب .. وهو وهم لا أساس له من الصحة من الناحيتين العلمية والصحية , لأن الرجل قد يكون مكتمل القدرة لكنه محروم من الإنجاب , وقد يكون ضعيف القدرة أو عاجزا عنها في بعض الأحيان لكنه قادر على الإنجاب في نفس الوقت .. "والناس أعداء ما جهلوا" كما يقولون .. لهذا فإن توضيح هذه النقطة الحساسة للبعض قد يسهم في إزالة بعض ضباب الغموض الذي يحيط بها .. وأنت يا صديقي رجل أمين مع نفسك ومع الآخرين ولقد اخترت طريق الأمانة والمسئولية مع فتاتك الأولى .. ففقدتها .. ولا بأس بما جرت به المقادير .. فلا يدري أحد ما إذا كنت ستسعد معها أو تشقى .. وقلما تخلو حياة الإنسان من تجربة حب موعود مماثلة , لكن الأيام تداوي جراحا كثيرة .

"ما كان حزنا ذات مرة أصبح الآن سلاما" كما يقول شاعر الهند العظيم طاغور , لكنك تقصر في حق نفسك بكل تأكيد بإحجامك عن دخول "الغابة" مرة أخرى خوفا من "حفيف الشجر" .. وتقصر أيضا في حق إنسانة مازالت في علم الغيب لكنها تستحقك وتحرمها أنت بلا مبرر من حقها فيك وفي نصيبها العادل في السعادة معك .. ولقد فهمت من حديثك عن فارق السن بين الزوجين أنك قد تركت سفينة العمر توغل نسبيا في بحر الأيام حتى قاربت مرحلة منتصف العمر أو مرحلة النضج واكتمال الرجولة فأصبحت السن من شواغلك إلى جانب المشكلة الأخرى .. وهذا خطأ آخر أرجو أن تتجنبه ,  ذلك أنك تستطيع دائما أن تجد زوجة ملائمة لك في العمر والظروف تؤنس وحدتك وتشاركك حياتك وتستمع معها إلى سيمفونية الحياة التي يقول لنا الروائي الفرنسي العظيم فيكتور هوجو الذي عانى من الأحزان والآلام في حياته ما لم يقاسه غيره : "إننا لو دربنا أنفسنا على الاستماع إليها جيدا لعرفنا أنها تنتهي دائما بعد الأحزان والآلام .. بنغم جميل !".

 فاستعد ثقتك بنفسك وبجدارتك بالسعادة يا صديقي ولسوف يصدح النغم الجميل في حياتك قريبا بإذن الله .. وحبذا لو اتصلت بي أو تفضلت بزيارتي.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات