بطاقة دعوة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا شاب عمري ثلاثة وثلاثون عاما .. نشأت في أسرة متماسكة أنا فيها الولد الوحيد بين ثلاث فتيات .. وأشعرني أبي منذ طفولتي بأنني "رجل صغير" مسئول عن حماية أخواتي البنات حتى التي تكبرني منهن بعامين , واستقر هذا الإحساس في وجداني فحاولت دائما أن أكون إنسانا مسئولا وملتزما .. وقد أمضيت طفولتي وصباي في بلد عربي يعمل به أبي وحين حصلت شقيقتي الكبرى على الثانوية العامة عادت مع أمي إلى مصر لتستقر بها وتلتحق بالجامعة , ورأى أبي أن أعود معهما لأكون رجل البيت في غيابه وأواصل دراستي بمصر .. وعدنا والتحقت شقيقتي بكليتها والتحقت أنا بإحدي المدارس الثانوية ومضت الأمور في طريقها المعتاد وأصبحت المسئول أدبيا عن هذه الأسرة الصغيرة .. وفي الصيف يعود أبي مع شقيقتي الصغيرتين ليمضوا الأجازة معنا.
وحصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير والتحقت بكليتي التي تمنيتها وواصلت الدراسة فيها بنجاح حتى بلغت العام الأخير منها .. ثم رأيت ذات يوم فتاة جميلة ملائكية الملامح تقف أمام عمارة قريبة من عمارتنا فلفتت نظري بشدة .. وخفق قلبي بعنف لرؤيتها فتسمرت ذاهلا أمامها حتى تنبهت إلى أنها مستغرقة في الضحك .. واكتشفت أنني أنظر إليها بلا حراك كالتمثال مما دفعها للضحك , ورغم خجلي وارتباكي .. فإنني لم أستطع مغادرة موقعي حتي فوجئت بها تسألني عما أصابني ؟ .. فتغلبت على خجلي وقدمت لها نفسي وسألتها عن عنوانها وأبلغتها برغبتي في أن تتعرف أمي على أسرتها ! .. ورغم اندهاشها فقد أعطتني العنوان وعدت إلى بيتي ورويت لأمي ما حدث وطلبت منها أن تزور أسرتها لتتعرف عليها تمهيدا لأن أخطب هذه الفتاة في المستقبل.
ووافقت أمي رغم اعتراضها على تسرعي , وبعد يومين اصطحبت أمي شقيقتي وزارت أسرة هذه الفتاة زيارة تعارف وتعرفتا على الفتاة وطلبتا منها زيارتهما واستجابت الفتاة لرغبتهما وتكررت زياراتهما لشقيقتي وأمي وتركزت حياتي كلها حول هذه الفتاة الملائكية .. فأنا أقوم بتوصيلها في الصباح إلى كليتها .. وأعيدها بعد الظهر إلى البيت , وفي كل ساعة أتصل بها تليفونيا أو تتصل هي بي.
وجاء أبي في الصيف وبدأت أستعد للخطبة .. ففوجئت بها تطلب التأجيل حتى لا تعطلها الخطبة عن استكمال دراستها .. وصعقت لهذا الطلب وحاولت اقناعها بأن ذلك لن يغير من حياتنا شيئا .. بل وتوسلت إليها أن نعلن الخطبة خلال وجود أبي حتى لا تضيع الفرصة وتتأجل عاما كاملا لكنها أصرت على رأيها وسافر أبي دون أن تتم الخطبة وتألمت كثيرا لذلك .. وخفف ألمي قليلا ما أكدته لي فتاتي بأنها لن تكون لأي إنسان آخر سواي وأنه لا داعي للتعجيل .. لكني لاحظت بعد فترة قصيرة تغيرها وندرة اتصالاتها التليفونية بي , ثم بدأت تتململ من ملازمتي لها في الذهاب إلى الكلية وتطلب مني عدم توصيلها لأن ذلك يطلق فيها ألسنة زملائها !
وتوقفت راغما , وبدأت أعاني من القلق والشرود .. وأحاول بكل طريقة استعادة حماستها القديمة بلا جدوى , ونتيجة لهذه المراوغات رسبت في البكالوريوس لأول مرة في حياتي وحزنت أسرتي كثيرا لذلك .. وبعد أيام من ظهور نتيجتي فوجئت بفتاتي تأتي لزيارة أمي وأختي وفي يدها بطاقة دعوة مزينة بالورد الأبيض والدانتيل الشفاف .. فهل تعرف ماذا كان فيها ؟.. لقد كانت بطاقة دعوة لأمي وأختي لحضور حفل قرانها القريب على شخص آخر غيري لا أعرف متى عرفته وارتبطت به , وفهمت أخيرا سر تغيرها .. ودهشت لأنها قبلت عقد قرانها بدون خطبة لهذا الشخص وهي من كانت تخشى أن تعطلها خطبتي عن استكمال دراستها !
وساءت حالتي النفسية وأهملت نفسي وملابسي وزهدت في الخروج وجاءني صديق وحدثني عن أن هذه الفتاة لم تكن مخلصة لي منذ البداية , وأنها لا تستحقني .. إلخ .. فلم أقبل منه هذا الكلام ..ورفضت أن يسئ إلى فتاتي بكلمة وقلت له أن لها عذرها لأني لم أتخرج بعد , والآخر مهندس ناجح وجاهز للزواج وانصرف عني صديقي غاضبا وتم القران ولم تحضره أمي ولا شقيقتي.
وانقطعت الصلة بينهما وبينها , كما انقطعت بيني وبينها تماما .. واكتفيت بالحسرة وأنا أرقبها كل يوم من نافذة حجرتي تنزل معه في سيارته أمام عمارتها وتضحك سعيدة وكأنها لم تطعن إنسانا آخر في قلبه .. وحاولت الخروج من أزمتي بتركيز جهدي لإنهاء دراستي وتفرغت للاستذكار وكلما طاف بي طيفها طردته بعنف من رأسي .. واقترب موعد امتحان البكالوريوس ففوجئت بها ذات يوم وقد جاءت لزيارة أمي وأختي ولا أعرف ماذا فعلت بهما حتى كسبت قبولهما مرة أخرى وعادت للتردد عليهما .. وفهمت بعد أيام أنها اعتذرت لهما عما فعلت لأني مازلت طالبا ومشواري طويل كما اعتذرت لي أمامهما بنفس السبب وقالت لي أنها تعتبرني أخا لها تلجأ إليه في الملمات إلخ .. وسامحتها رغم كل شئ بقلب صاف وعادت الاتصالات بيننا وبدأت أسمع منها أنها خدعت في الرجل الذي عقدت قرانها عليه وأنه تكشف عن إنسان مادي ولا يقيم وزنا للعاطفة ولا يحترم أهلها ويتهمهم باستغلاله ويغالي في مطالبه المادية .. وأنها تريد أن تتخلص من ارتباطها به , فإذا بكلماتها تمسح كل آلام العام المرير الذي عشته أعاني من الغدر والخذلان .. وإذا بي أبدي استعدادي لأن أقوم لها بأي شئ تطلبه منه ويحقق لها سعادتها.
وعدت للانشغال التام بها وبكل ما يحدث لها من مشاكل وخلافات مع خطيبها .. وجاء موعد الامتحان وأديته وأنا موزع البال بينه وبين فتاتي ومشاكلها فكانت النتيجة أن رسبت مرة أخرى !
وغضب مني أبي غضبا شديدا وأمر أمي وأختي بقطع صلتهما بهذه الفتاة .. وطالبني بنسيانها تماما وبأن أختار أية فتاة أخرى ليخطبها لي , لكن ماذا أفعل يا سيدي في هذا الخائن الصغير الذي بصدري ؟ .. لقد اختارها ولم يعد هناك مجال للتراجع .. ولم تعد المشكلة هي فقط كيف استعيدها .. بل كيف أواجه معارضة أبي للارتباط بها ؟ .. وبعد عناء شديد نجحت أمي في استئذانه في ألا تقطع صلتها بهذه الفتاة لكي تكون قريبة من الأحداث وحتى لا يتم شئ بيني وبينها بغير علمها , ثم طلبت الفتاة من أمي مساعدتها في اقناع أمها وأبيها بفسخ خطبتها لخطيبها بعد أن تأكدت من استحالة استمرارها معه .. وقامت أمي بهذه المهمة عن طيب خاطر وكان مفهوما للأب والام أن توسطها في ذلك يعني ضمنيا أنها سوف تخطبها لابنها وساعدهما ذلك مع ما كانا يأخذانه على الخطيب من بعض التصرفات المادية على الموافقة على فسخ الخطبة والتخلص منه.
وتم فسخ الخطبة أو الطلاق بالفعل .. وكان المفروض أن تتم خطبتي لها بعد انقضاء شهور العدة .. لكن فتاتي طلبت مني الانتظار حتى أحصل على البكالوريوس أولا لكي تتحسن صورتي لدى أسرتها ووافقت مضطرا وشجعتني أمي وأختي على الاستذكار وانهاء دراستي وطلبتا من فتاتي مساعدتي على ذلك واعتبرتا أداءها لهذا الدور ردا لما فعلته أمي معها.
وبالفعل شجعتني فتاتي على الاستذكار وقللت من اتصالها بي لكي أتفرغ للمذاكرة , وحشدت أنا كل طاقتي للاستذكار وتفرغت له تماما .. وواصلت الليل بالنهار إلى أن انتهيت من امتحان آخر مادة لي وهرولت سعيدا إلى بيتي لأتفق مع أمي على تحديد موعد للخطبة .. فما أن وصلت إلى شارعنا حتى لفت نظري وجود أنوار وزينات يتم تركيبها على واجهة العمارة التي تقيم فيها فتاتي , ومع أن العمارة تقيم بها 12 أسرة أخرى إلا أنني أحسست بإنقباض غامض لا أدري له سببا .. وعدت للبيت وكان أول ما حدثت أمي وأختي بعد طمأنتهما على الامتحان هو تساؤلي عن سبب هذه الزينات .. فارتبكت الاثنتان وحاولتا تغيير موضوع الحديث فأنهرت وألححت في السؤال فإذا بهما تحاولان تخفيف وقع نبأ مؤلم جديد علي , لقد خطبت فتاتي وأنا مستغرق في الاستعداد للامتحان لشخص آخر غيري رغم عهودها لي .. ورغم كل ما جرى وتكتم الجميع الخبر عني حتى أؤدي امتحاني .. واليوم هو عقد القران السعيد !
ولم أدر ماذا أفعل أو ماذا أقول وأحسست بخجل شديد من أمي وأختي ومن نفسي وبعد أيام حاولت التظاهر فيها بعدم التأثر بما جرى جاءت أمي إلى غرفتي وقالت لي أن هذه الفتاة سيئة وغادرة ولم تحبني يوما ولم تفسخ خطبتها الأولى من أجلي بل من أجل ذلك الشخص الذى عقدت قرانها عليه ، وأن علي أن أنساها نهائيا لأنها لا تستحقني وهي على استعداد لأن تخطب لي من هي أفضل منها لكن هيهات أن تخفف كلمات المواساة من أثر الجروح الدامية يا سيدي بل أن كلماتها قد زادات من آلامي بعد أن عرفت أنها قد استخدمتني من حيث لا أدري في فسخ خطبتها الأولى .. المهم ساءت حالتي النفسية إلى أقصى حد وكرهت الخروج والالتقاء بأصدقائي الذين يعرفون كل شئ ولهم رأي سيئ في فتاتي.
أما هي سامحها الله فلقد احتفلت بالقران احتفالا صاخبا وبدأت أراها كل يوم من نافذة غرفتي مرة أخرى تدخل عمارتها وتخرج منها في صحبة شاب وسيم والسعادة تتفجر من وجهها !
وبعد شهور أخرى تزوجت وانتقلت إلى عش الزوجية واستراحت أمي لابتعادها عن الحي وبدأت تعرض علي فتيات جميلات من الأسرة والمعارف لاخطب احداهن .. فأجيبها بالاعتذار لأني قد كرهت كل البنات ولم أعد راغبا في الزواج بالمرة !
وبدأت أبحث عن عمل لأتشاغل عن آلامي وتنقلت بين عدة أعمال صغيرة حتى استقررت أخيرا في وظيفة ملائمة لتخصصي .. وبدأت أحقق نجاحا فيها وانشغل بعملي عن كل شئ .. ورضي أبي عن استقراري فترك لي سيارة الأسرة لاستخدامها في تنقلاتي .. وكلما جاء في إجازة سألني متى سأتزوج ؟ فأجيبه بأني لم ألتق بعد بمن أشعر برغبتي في الارتباط بها , وفي دائرة عملي تقربت مني أكثر من فتاة لكني كنت قد أصبحت كالنبع الجاف الذي نضب معينه ولم يعد فيه قطرة واحدة يقدمها لأحد فأنصرفن عني يائسات بل وأطلقن ألسنتهن في وأتهمنني بالغرور وثقل الدم .. وبأني معقد !
وأخيرا وبعد أن بلغت الثلاثين وتزوجت شقيقتي الكبرى والوسطى وعاد أبي للاستقرار في مصر زاد إلحاح أبي وأمي علي للزواج قبل أن يتأخر بي العمر , وتحدث معي أبي حديث رجل لرجل , وقال لي إن الإنسان يستطيع أن يحب أكثر من مرة في حياته وأنني بامتناعي عن الزواج بسبب فتاة غادرة إنما أظلم نفسي وأظلم فتاة أخرى وأحجب عنها حظها في الزواج مني.
واقتنعت بكلامه .. وسعد بذلك جدا وعبر لي عن سعادته بأن حجز لي شقة جيدة في مدينة نصر .. ودعاني لزيارة بيوت أقاربه وأصدقائه معه "لأتفرج" على بناتهن لعل إحداهن تعجبني ! وقمت معه بزيارات عديدة .. وقمنا برحلات عائلية كثيرة مع أسر الأقارب والأصدقاء لتتاح لي فرصة الاقتراب من بناتهن .. وأخيرا وبعد عامين آخرين من الرحلات والزيارات الاستكشافية مالت نفسي إلى فتاة من أقاربنا .. وشجع أبواي هذا الميل عندي بكل حماس لرقة الفتاة , وكرم أخلاقها وجمالها وطيبة أبويها اللذين يدين لهما أبي بالكثير في مقتبل حياته ووجدت لدى الفتاة ميلا واضحا تجاهي ، فتقدمت لخطبتها وسعدت الأسرتان كثيرا بذلك .. أما خطيبتي فقد فاقت سعادتها كل وصف وعبرت لي عن حبها بكل الطرق واعترفت لي بأنها تمنتني لنفسها منذ رأتني لأول مرة وتجلت لي خلال فترة الخطبة مزاياها بوضوح , فهي بريئة المشاعر وحنون وطيبة إلى حد السذاجة وأحلامها تنحصر في السعادة والمحافظة على شريك عمرها ولا تريد منه شيئا سوى الاخلاص والحب وتفرح بأقل لمحة مجاملة مني وشديدة التفاهم معي ولا تريد ارهاقي بأية مطالب , فبدأ قلبي يتحرك لها ويأنس بها وعقدنا قراننا وانشغلنا في الاعداد للزواج وراقبت سعادتها الطفولية وهي تشتري قطع الأثاث بعطف خفي وأردت دائما اسعادها وتحقيق مطالبها التي تخجل من التعبير عنها .. ثم دخلت ذات يوم محل سوبر ماركت قريب من بيتنا فإذا بي أجد نفسي على غير توقع أمام فتاتي الغادرة الأولى وبيدها طفل صغير وقد ذبل جمالها وانتشرت الشعيرات البيضاء في رأسها وانكسرت نظرتها .. فكدت أرجع من حيث دخلت لكنها لم تتح لي الفرصة .. وتهللت حين رآتني .. وتقدمت مني لمصافحتي باهتمام وتسألني عن أحوالى وتركت ما جاءت من أجله وطلبت مني الخروج معها لنتمشى قليلا وحاولت الاعتذار بانشغالي لكنها ألحت ولم أستطع الرفض وخرجنا نتجول في الشارع .. وبدأت تقول لي أنها تعرف كم أجرمت في حقي .. وأنها كانت أنانية "ونذلة" معي لكن الأيام ثأرت لي منها فتعذبت في زواجها كثيرا ولاقت من زوجها الأمرين بعد أن أنجبت منه طفلين أصغرهما عمره 9 شهور وأنها قد يئست من استمرار الحياة مع زوجها فعادت إلى بيت أهلها وطلبت الطلاق ولن تيأس من الحصول عليه وتريدني أن أقف إلى جوارها كما وقفت قبل ذلك إلى جوارها في طلاقها الأول وفي كل أزماتها لأنني شهم ونبيل وكريم ولن أبخل عليها بمساعدتي النفسية لها ، حتى بعد ما فعلته معي .. وطالبتني بأن أعاهدها بعدم التخلي عنها في هذه المحنة .. ورغم عدم ترحيبي بالفكرة فقد اهتزت مناعتي .. ولم أملك إلا أن أعدها بالمساعدة وانصرفت حائرا.
وفي اليوم التالي اتصلت بي وطلبت مني مرافقتها في الذهاب إلى المحامي الذي يتولى قضيتها , وفي مكتب المحامي عرفت الكثير مما كنت أجهله عن قصتها مع زوجها ..
وعرفت أن المشاكل بينهما قد وصلت إلى أقسام الشرطة وأن هناك محضرا بالاعتداء عليها وتقريرا طبيا باصاباتها المتكررة من ضربه لها , كما علمت أيضا أنه هو الذي طردها من البيت وأنها لم تعد بيتها مختارة كما كنت قد فهمت .. وأنه لا يمانع في طلاقها بل أنه يرغب لكنه يريدها أن تتنازل عن حقوقها المادية أولا وهذا هو سبب النزاع الحقيقي !
ورغم اكتشافي لكذبها علي .. فقد اشفقت عليها .. وتكررت زياراتي معها للمحامي ولأقسام الشرطة .. وتجددت الاتصالات التليفونية الطويلة بيننا .. وبدأت تقول لي أنها اكتشفت أنني الإنسان الوحيد الذي أصلح لها وأنها قد أخطأت في حق نفسها حين ضيعتني من يدها .. وكما أنها الإنسانة الوحيدة التي تصلح لي لأني لم أحب ولن أحب غيرها .. وحين قلت لها أنني أحب خطيبتي واستريح لها قالتها لي بصراحة أن هذا ليس حبا وإنما هروب من حبها هي وأن خطيبتي شابة صغيرة وجميلة وسوف تنساني في أقصر وقت ويمكن أن تسعد مع غيري بسهولة أما أنا فلن أسعد سوى معها ولن تسعد هي إلا معي بعد أن دفعت درس التجربة وتعلمت منها !
وكان لابد أن يؤثر ذلك بالضرورة على اهتمامي بخطيبتي فتشاغلت عنها بعض الشئ .. وقلت مقابلاتنا وتسرب نبأ التقائي من جديد بهذه السيدة إلى أسرتي فإذا بالجميع غاضبون مني ويتهمونني بالضعف والتخاذل ويقولون لي أنها تلعب بي كيف تشاء وتنبذني حين تريد وتستعيدني حين تريد .. وتستخدمني في أغراضها وأنا في حيرة من أمري فعقلي يميل إلى تصديق ما يقولونه ويطالبني بالابتعاد عن هذه السيدة والاهتمام بخطيبتي الطيبة المخلصة التي اقترب موعد زفافها لي وقلبي الخائن يتردد ويقول لي ولماذا لا أصدقها هذه المرة وأصدق ما تقوله من أنها اكتشفت أنني الإنسان الوحيد الذي يصلح لها وأعطيها فرصة أخرى لاصلاح خطئها في حقي , وبسبب هذا كله اضطربت حياتي وعملي من جديد .. وتوعدني أبي إن تخليت عن خطيبتي وتزوجت هذه السيدة بعد طلاقها بأن يقاطعني ويسحب الشقة التي مازال يدفع أقساطها مني .. ويدعني لنفسي أفعل بها ما أشاء لكنه لن يساعدني أبدا على اتماما هذه "الجريمة" ولن يقبل بها أبدا.
وفتاتي القديمة تزيد من حصارها حولي .. وتطالبني بعدم التخلي عنها وبعدم اتمام زواجي من خطيبتي لأنها كما تقول تعرفني أكثر مما أعرف نفسي وتعرف أنني أحبها .. ولن أسعد مع أحد سواها ! وأنا حائر .. ومتردد .. فماذا ترى ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـــاتـــب هـــذه الـــرســـالـــة أٌقـــول:
هناك عبارة قديمة تقول : ينقص الصدق في كلام البائع , كلما زادت لهفته على أن يبيع سلعته الراكدة للآخرين !
وهذه العبارة تنطبق إلى حد بعيد على كل ما تقوله لك فتاتك القديمة الغادرة هذه , فهي تقول لك أنها قد أدركت "الآن" وهي من التقت بك بالمصادفة العابرة كم أجرمت في حقك وكم كانت أنانية وغادرة معك .. واكتشفت أنك الإنسان الوحيد الذي كان يصلح لها من البداية , وأنك لن تسعد مع سواها .. وكل هذا جميل ولقد كنا على استعداد لأن نصدقه ونعتبره ندما صادقا منها واعترافا متأخرا لك بقدرك وفضلك في حالة واحدة هي لو أنها تمنت لك بعد هذا الكلام الجميل السعادة مع خطيبتك التي عقدت قرانك عليها وطلبت منك صفحك وغفرانك ثم تركتك لحياتك الجديدة واعتبرت هي ما عانته في حياتها الشخصية ضريبة تؤديها عما فعلت بك وبغيرك فهذا هو الفارق الدقيق بين الصدق .. وبين الخداع .. وبين الاعتذار المبرأ من الغرض , وبين الاعتذار النفعي الذي يهدف للحصول على كسب شخصي من ورائه.
وأنت شاب حسن النية وضعت الأقدار هذه السيدة في طريقك منذ 9 سنوات .. فوقعت في غرامها منذ الوهلة الأولى , ولأن "حب النظرة الأولى قرين الجنون" كما يقولون , فقد تحملت منها ما لا يتحمله غيرك ونزف قلبك وكرامتك مرتين حين خذلتك وخطبت لغيرك , ثم حين خذلتك وطلقت منه فارتبطت بغيرك بعد أن استخدمتك بخسة منقطعة النظير في اقناع أهلها بهذا الطلاق وهي الآن تريد أن تستخدمك مرة أخرى ليس للحصول على الطلاق من زوجها الثاني لأنها تستطيع الحصول عليه في أية لحظة إذا تنازلت عن المطالب والقضايا .. وإنما في ترميم حياتها بعد الطلاق , حين تصبح مطلقة ذات طفلين وتنخفض اسهمها في سوق الزواج , وهي ذات "نظرة بعيدة" دائما وتفضل الاستعداد مبكرا لتقلبات الزمن وتاريخها معك يؤكد ذلك فقد كانت مرتبطة بك وارتبطت وهي معك بمن رأته أفضل منك ثم خطبت له وعقدت قرانها عليه , وكانت مرتبطة بخطيبها الأول ثم ارتبطت بمن رأته أفضل منه واستعانت بك على الخلاص من خطبتها وتزوجت الثاني , وهى مازالت الآن على ذمة زوجها الثاني ومع ذلك فهي تستعد "بك" لمواجهة المستقبل ولو لاحت لها الآن أو فيما بعد فرصة أفضل منك فلن تتردد في أن تخذلك للمرة الثالثة بعد أن تكون قد دمرت حياتك وأفسدت عليك سعادتك مع خطيبتك , ولا عجب في كل ذلك لأنها لا تحبك وإنما تمتلكك كما يمتلك الإنسان الأشياء والمقتنيات , والمرء لا يتوقف طويلا عند مشاعر الشئ المملوك حين يقرر التخلص منه أو استبداله بغيره وإنما يرى ذلك فيفعله بلا تردد , وهكذا فعلت معك في الماضي .. ولا شئ يمنعها من أن تكرره معك في المستقبل إذا تراءى لها ذلك .. ولهذا فإنها لم تتردد لحظة في أن تسلبك من خطيبتك غير آبهة بما سوف تخلفه في قلبها من جراح , ولا بما سوف تعانيه أنت من حرج ومشاكل عديدة مع أبيك وأسرتك والجميع , وليس هكذا يفعل من يحمل في قلبه حبا حقيقيا للطرف الآخر , فالحب الحقيقي عطاء متصل واشفاق على المحبوب من التبعات والعواقب واستعداد للتضحية من أجله حتى لا يتكبد المعاناة .
إنني مع أبيك تماما في موقفه منك .. لأن استغلال هذه السيدة لك واضح لكل ذي بصيرة وزواجك منها لن يعدك إلا بسقوط اعتبارك عند أهلك وأصدقائك وأقاربك والجميع فضلا عما فيه من غدر بخطيبتك البريئة لا ترضاه لنفسك ولا ارضاه لك وأنت من خبرت الغدر والخذلان , وذقت مرارتهما من قبل ومن أسوأ طبائع النفس البشرية أن ترتكب في حق غيرها ما سبق أن بكت منه وشكت إلى الله في ضعفها قسوته وظلم الظالمين وأنت أنبل كثيرا من أن تفعل ذلك بخطيبتك .. أو تظلمها.
وخير وسيلة لاتقاء غدر الأيام وظلم الآخرين لنا هي ألا نظلم نحن أحدا أو نغدر به .
فانفض يدك يا صديقي من هذه السيدة بلا ندم ولا تتردد , وتأكد أنك إنما تنقذ نفسك بذلك من حياة لن تعدك إلا بالمتاعب والمعاناة , فلقد فسد الحب منذ زمن بعيد بالغدر والخذلان ولم يبق منه إلا المرارة والتطلع الخفي لديك لرد الاعتبار أمام نفسك .. وربما أيضا للانتقام بغير أن تعي ذلك .. كما أنك لن تنسى لها بسهولة تاريخها معك ولا غدرها بك .. وسوف ينعكس ذلك على حياتك معها في تقلبات حادة بين السعادة والشقاء .. والرضا والغضب , فضلا عما في شخصيتها من عوامل سوف تساعد على اشتعال اللهب كل حين فهي متقلبة المشاعر .. وجريئة على الأعراف و"مقدامة" في موضوع الارتباط والانفصال وكل ذلك لا يرشحكما أبدا لحياة مستقرة وادعة .
إن الإنسان قد يصادف الحب الحقيقي الصادق في حياته أكثر من مرة ومشاعرك تجاه خطيبتك إيجابية وسوف تتعمق أكثر وأكثر مع رحلة الأيام .. أما الأخرى فإذا كانت قد تعلمت درس تجربتها حقا .. فلتحاول أن تنسى حساباتها ورغبتها الآسرة في أن تخرج من كل تجربة بلا خسائر , وتحاول اصلاح أمرها مع زوجها حرصا على مصلحة الطفلين لأن الحياة فوز وخسارة وليست فوزا دائما كما تريدها ولا بأس بأن تخسر هي ذات مرة .. وتقبل بدفع ثمن اختيارها لزوجها وغدرها باثنين قبله .. وتتحمل حياتها معه لصالح طفليها .. ولصالحك .. ولصالح الجميع.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر