الصرح الجميل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998
أنا شاب في الرابعة والعشرين من عمري أعمل مدرسا بإحدى مدن الأقاليم نشأت في أسرة طيبة ومكافحة تعمل كلها في حقل التعليم , وقد غرست أسرتي في نفسي قيمة الكفاح وتحمل المسئولية منذ صغري .. فكنت أعمل في الإجازة الصيفية لكي أخفف بعض العبء عن أسرتي ولكي أوفر لنفسي بعض ما أتمناه من مطالب الشباب المعتادة , وأنا صديق دائم لبابك الجميل وتعرفت فيه على بعض تجارب الحياة الإنسانية بآلامها وأفراحها وأتأثر بها , لكني لاحظت يا سيدي أنك لا توجه اهتماما كافيا لمشاكل الشباب البسيطة وأقصد بها مشاكل الشباب غير المتزوجين التي تستحق منك الاهتمام أيضا إلى جانب مشاكل المتزوجين , فكلماتك الطيبة قد تعجز أحيانا عن حل مشكلات الأزواج المعقدة , في حين أنها قد ترشد بسهولة شابا ضل الطريق خصوصا إذا كان محدود التجربة مثلي , ورجائي هو ألا تنحي رسالتي هذه جانبا حين تعرف ما ترويه لك من مشكلة لأن هذه المشكلة وإن كانت تندرج تحت بند المشاكل المرفهة فإنها قد تركت في نفسي أثرا كبيرا , كما أنها تعكس أيضا أحاسيس عدد كبير من الشباب , وأوجز لك مشكلتي فأقول باختصار : أنها زميلتي في العمل رأيتها وأعجبت بجمالها وشخصيتها وأحببتها حبا حقيقيا , وكان حبي لها في البداية صامتا لأنني كنت مشغولا بدراساتي العليا , لكنني كنت أشعر بالرغم من ذلك بأنني موضع اعجابها , ولم لا وأنا الشاب المهذب المكافح الناجح في عمله الذي يحظى باحترام الجميع ويملك من مقومات الزواج الحد المعقول وهو شقة مناسبة , وبعد انتهاء امتحاناتي صارحتها بحبي وطلبت منها الارتباط واوضحت لها كل ظروفي المادية فطلبت مني مهلة للتفكير والرد على طلبي , ورحت انتظرها والآمال العريضة تراودني في مستقبل جميل وحياة سعيدة يكون الحب الصادق هو رأس مالها , فإذا بردها يجئ بالرفض دون إبداء الأسباب , لكنني فهمت أنها تطمح في مستوى مادي أعلى وأفضل من مستواي.
وصدمت بالرفض صدمة مؤلمة , وظللت بعدها أياما أبحث عن نفسي فلا أجدها وأنظر لأيامي فأجدها لا طعم لها .. وأنظر لمستقبلي فأجده بلا أمل ولا طموح وكأن حياتي قد توقفت عند هذه النقطة .. ووجدت قلبي مليئا بالألم والحسرة ونفسي تضيق بكل شئ ووجدتني أهتف "اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه" ثم تذكرت ما احتفظ به من صفحات الأهرام القديمة التي تضم قصص بابك , ورجعت إليها وأخرجتها وأعدت قراءتها واحدة بعد الأخرى .. فوجدت نفسي تهدأ بعض الشئ ووجدتني أقول لنفسي : هذه هي آلام الحياة الحقيقية "التي تعتصر القلب وتخنق الأنفاس" على حد تعبير كاتبة رسالة "القطة المتمردة" وتذكرت ذلك الشاب صاحب المؤهل المتوسط كاتب رسالة "صرخات في الليل" الذي فقد أباه وأمه وشقيقه الوحيد الواحد تلو الآخر خلال بضع سنوات حتى وجد نفسه وحيدا في شقة الأسرة يعاني من الفزع الليلي ونوبات الصراخ أثناء النوم.
وتذكرت صاحب رسالة "الورقة اللعينة" الذي يعاني من فيروس "سي" الذي دمر حياته وحال بينه وبين الارتباط بفتاته أو بغيرها , وتذكرت كذلك صاحب رسالة "قطعة من النفس" الذي لا يحمل مؤهلا دراسيا ويعيش وحيدا في موقع العمل حيث يعمل عاملا بالمقاولات ولا يملك سوى الحلم بأن تكون له أسرة ذات يوم بعيد.
استرجعت كل هذه القصص الحقيقية الدرامية ووجدتني أسأل نفسي : أي قضاء تسأل ربك اللطف فيه , وأنت لديك الكثير والكثير ولم تمتحن بشئ مما امتحنت الأقدار به هؤلاء المعذبين , ولديك أبوك وأمك وإخوتك أدامهم الله لي وتذكرت كلمتك الجميلة : املأ عينيك من وجوه الأحباء فربما لا تجدهم بجوارك في الغد وكلمتك الأخرى التي تقول : إن الإنسان الحكيم هو الذي يستشعر السعادة فيما حوله من أسباب ولا يتطلع إلى ما حرم منه , ولا يتصور أن السعادة منعقدة عليه وحده.
فبدأت أحول اهتمامي ودفة حياتي إلى أسرتي وبدأت أندمج فيها أكثر وأقضي معها وقتا أطول وأشارك أكثر في شئونها واهتماماتها , وبدأت بالفعل استشعر السعادة في ارتباطي بأسرتي وبعملي , وحاولت الانتقال لمدرسة أخرى , لكني فشلت في ذلك , فقررت أن أبذل أقصى جهدي في اثبات وجودي في العمل وشغلت أوقاتي بمشاكل التلاميذ البسيطة , وبدأت استكمال دراساتي العليا في القاهرة وليس في مدينتي لكيلا أدع لنفسي فرصة واحدة للتفكير في زميلتي وحققت بعض الراحة والسعادة بالفعل في ذلك وإن كان إحساس المرارة لم يفارقني بعد خاصة أنني أراها كل يوم في العمل , ثم شيئا فشيئا وجدتني مرة أخرى دائم الاكتئاب وأميل للانفراد بنفسي , وبدأ ذلك الأمل اللعين يتسلل لنفسي من جديد بعد كل ما بذلت من جهد لخنقه والقضاء عليه , فهل استسلم لهذا الأمل مرة أخرى وأحاول معها من جديد وأبذل كل جهدي للفوز بقلبها مع أنني أعي تماما أنها لا تبادلني مشاعر الحب وبنفس الدرجة ؟ ولو تحقق هذا الأمل المختنق هل يمكن أن تنجح هذه العلاقة ؟ أم هل ترى لي أن أستسلم لأقداري وأعمل بنصيحتك لأحد المهمومين حين قلت له : إن الإنسان لو سلم بإرادة الله وكف عن التطلع إلى ما لم تشأه له الأقدار لتحررت طاقته النفسية من الأحزان وثقل الترقب وهواجس الانتظار وخيبة الرجاء.
وأخيرا فإني أقول لكل شاب يواجه تجربة كتجربتي أننا إذا بادرنا بالعودة إلى أسرنا والالتحام بها فسوف نجد عندها الكثير والكثير من الحب الذي نستطيع أن ننهل منه كما نشاء , وأننا يجب أن نشكر الله سبحانه وتعالى على ما أتاحه لنا من صرح جميل هو صرح الأسرة والآباء والأمهات والإخوة الذي قد نزهد فيه أحيانا رغم أن كثيرين من التعساء يفتقدون ويحلمون به , وعلينا ألا نتعجل الهرب من هذا الصرح الجميل لكي نخرج منه ونبني لأنفسنا صروحا صغيرة قد لا تكون بنفس القوة وإنما الأفضل لنا دائما أن نتريث وننتظر الوقت المناسب , ومشيئته الأقدار لكي نخرج من صرحنا الجميل ونحن مزودون بالحب والخبرة والإمكانيات ثم نبدأ في بناء صروحنا الصغيرة على أسس متينة من الحب وحسن الاختيار.
وفي النهاية إني أرجوك أن توجه كلمة للفتيات اللاتي حباهن الله بما يستطعن به أن يرفضن هذا وذاك أن يحترمن مشاعر الآخرين خاصة إذا كانت صادقة وألا يستسلمن للغرور بأنفسهن لأنهن لا يضمن أن يحققن لأنفسهن السعادة الزوجية بالنظر للأمور المادية وحدها . والسلام.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولكـــاتـــب هــذه الــرســـالــة أقــول :
من المفيد دائما للإنسان أن يضع همومه ومشاكله في حجمها الصحيح بمقارنتها بهموم الحياة الأخرى وآلامها الكبرى , لكيلا يغالي في همه بها ولكي يعين نفسه على حلها والتواؤم معها.
والمشكلة التي تروي عنها لا تندرج كما تتصور تحت بند المشاكل "المرفهة" وإنما تندرج على الأصح تحت بند المشاكل القابلة للحل خلال فترة قصيرة من الزمن .. إما بتغيير موقف بطلتها إلى الأفضل وإما بتحول مشاعر الشاب نفسه عنها تحولا نهائيا بعد فترة من المعاناة واجترار الأحزان , وإما بظهور نجم جديد في ظلام السماء يكون إذانا باشتعال شرارة الحب في قلب من يعانيها تجاه فتاة أخرى قد تكون هي الاختيار الصحيح الذي كانت تدخره له الأقدار , لكنه ما كان من الممكن أن يهتدي إليه لولا أن اجتاز تجربته غير السعيدة تلك.
وكل آلام الإنسان وأحزانه تستحق كما قلت مرارا الاهتمام والاحترام مهما كانت صغيرة أو هامشية , ولكن بغير الاستسلام المرضي لميل الانسان الغريزي للرثاء لنفسه وتفخيم آلامه وأحزانه بما يخرج بها عن حجمها الصحيح ويصعب عليه اجتيازها والتغلب عليها.
ومشكلة صدمة الرفض الأولى في حياة الشاب أو الفتاة هي أنها تصادف غالبا قلبا غضا يتطلع إلى السعادة ولم يعرف من قبل أحزان الحياة الحقيقية فتكون هذه الصدمة هي حزنه الأكبر في هذه المرحلة من العمر أو تكون كما قالت الفتاة للشاعر في قصيدة شاعر الهند الكبير طاغور حين التقت بعد بضع سنين وتعجبت من أنه لم يعرفها للوهلة الأولى :
أنا أول حزن كبير في حياتك .. فكيف لم تعرفني ؟
غير أن الأيام تمضي دائما يا صديقي فتحول الأحزان الكبيرة والصغيرة إلى سلام في نفوس أصحابها.
ولسوف تمضي بك أنت أيضا الأيام ولسوف تؤدي معك دورها الخالد في ترويض الأحزان وادخالها قفص النسيان.
ولقد أعلنت لك فتاتك بوضوح عن موقفها منك .. وفسرته أنت بأنها ترفضك لظروفك المادية لأنها تتطلع إلى الارتباط بمن هو أفضل منك من الناحية المادية.
فماذا يعيبنا في أن يرفضنا الآخرون لأننا لم نصادف لديهم بعض ما نحمله لهم نحن من مشاعر وقد نكون في نفس الوقت الأمل المنشود لغيرهم؟
إن إحساسك بأنها لا تبادلك المشاعر بنفس الدرجة إحساس صادق وسليم , وإلا لما رفضتك لظروفك المادية وحدها ولتعاونت معك على بناء صرح صغير ينمو مع الأيام حتى يكتمل , كما يفعل المحبون في معظم الأحيان دائما.
ولهذا فلست أرى لك أن تمتهن نفسك بتكرار المحاولة معها من جديد , وإلا تضاعفت الخسائر بجرح الكرامة الذي لا يشفى سريعا بعد جروح القلب القابلة للشفاء قريبا بإذن الله .. وأحسب أنه في مثل ظروفك فإن تكرار المحاولة معها لا ينبغي له أن يأتي من جانبك أنت أبدا بعد أن قوبلت بالرفض القاطع والصريح دون ابداء الأسباب , وأن تجدد المحاولات ينبغي أن يكون رهينا فقط بأن تتلقى منها الاشارة التي تفيد تغير موقفها منك ورغبتها فيك , ومادامت الإشارة لم تلمع حتى الآن في أفق السماء فإني أنصحك بأن تواصل حياتك وعملك ودراستك , محتميا بالصرح الجميل الذي يهبك الحب الصادق دون انتظار للمقابل وهو صرح أسرتك إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا , ويأذن للقلب الحسير بأن يتفتح لغير من رفضته , وتكتمل خبراتك وقدرتك على أن تبني صرحك الصغير السعيد بإذن الله.
فأما نداؤك لمن وهبهن الله ما يرفضن به هذا وذاك , بأن يحترمن مشاعر الآخرين فنداء رشيد يستحق الاعتبار حقا , وأما "انذارك" لمثيلات هؤلاء بأنهن لا يضعن السعادة الزوجية بالنظر للأمور المادية وحدها فإنذار عادل أيضا ولا اعتراض لعاقل عليه , غير أن لكل إنسان أن يخوض تجربته في الحياة وفقا لما يراه محققا لسعادته , ولسوف يدفع هو وحده ثمن اختياره بالسعادة أو الشقاء , كما تشاء له أقداره , فلا تشغل نفسك أنت بمن لا يهمهم أمرك , وترقب فرصتك العادلة في السعادة والأمان في موعدها المسطور في الغيب قريبا بإذن الله , وشكرا لك على نصيحتك المخلصة لأمثالك من الشباب بالعودة إلى أسرهم والارتباط بها والاندماج فيها واستشعار نبع الحب الصادق لهم فيها إلى أن يتأهلوا نفسيا وماديا وعاطفيا لتحمل مسئولية إقامة الصروح الصغيرة على أسس متين من السعادة والحب وحسن الاختيار بإذن الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1998
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر