حالة ضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا فتاة أقترب من السابعة والعشرين من عمري تخرجت في إحدى الكليات العملية قبل خمس سنوات .. ومنذ تخرجي وأنا أعمل في المساء بإحدى الصيدليات , وأواصل دراستي العليا في الصباح , وقد أنهيت السنة الأولى منها بتفوق رغم عملي المرهق , وبعد أداء امتحاني الأول حصلت على عمل صباحي في أحد المصانع الخاصة وانتظمت في العملين إلى أن بدأ العام الدراسي التالي , فواصلت دراستي العليا وأنا أجمع بينهما وأصبحت أختطف أياما من عملي الصباحي وأخرى من عملي المسائي للذهاب إلى الكلية حتى نجحت في العام الثاني ولكن بغير تفوق للأسف , ثم ترقيت في عملي بالمصنع وزادت ساعات عملي وتعرفت فيه بزميل لي تلاقت ميولنا وأهدافنا في الحياة وتوافقت ظروفنا فتمت خطبتنا منذ عامين , وواصلنا الكفاح معا لبناء "عش الأحلام" بلا مساعدة إلا من سواعدنا وشبابنا وعملنا معا في أكثر من عمل إضافي .. وواصلنا النهار بالليل في أعمال مختلفة وكان حصيلة عملنا المضني المستمر مبلغا دفعناه كمقدم لشقة لا تصلح للسكن الآدمي .. لكننا قمنا بتشطيبها على نفقتنا واقترضنا من بعض الأقارب لإعدادها للسكن وانتهينا من هذه المهمة المستحيلة منذ أسابيع فبدت لنا تباشير إمكانية تحديد موعد قريب للزفاف إذ لم يبق لتحقيق هذا الحلم الصعب سوى الحصول على مبلغ ثلاثة آلاف جنيه ندفعها كمقدم لجهازنا البسيط المكون من حجرة نوم وحجرة استقبال للضيوف وبعض مستلزمات المطبخ.
فإذا سألتني كيف سنحصل على هذا المبلغ "الضخم" ، فإني أجيبك بأننا قد بدأنا الرحلة إليه فاشتركت في "جمعية" أخرى بمبلغ مائتي جنيه , وسنحاول أن نحصل على المبلغ في شهورهما الأولى وندفعه كمقدم للجهاز , وكل ما نرجو من الله سبحانه وتعالى هو أن يعيننا ويمنحنا الصحة والعافية لكي نقوم بسداد أقساط الجمعيات وأقساط الجهاز , ومصاريف البيت بعد الزواج وهذا هو حال معظم شباب هذه الأيام الذي يعتمد على نفسه في بناء حياته دون مساعدة من أحد .. وهو أمر لا يضايقني بل إني على العكس أفخر بأني قمت بتجهيز نفسي , وبمساعدة خطيبي في دفع مقدم الشقة وتأثيثها .. وأشعر بسعادة كبيرة كلما نقطع خطوة جديدة على الطريق الطويل , وكلما غلبنا الإرهاق والتعب من العمل المتصل , أو مرت بنا لحظة شكوى من الاجهاد قلت لخطيبي أن ما يأتي بسهولة يذهب أيضا بسهولة , وأننا نشقى ليل نهار لكي نحصل على المقومات الضرورية لبناء عش الزوجية , لهذا فسوف نحافظ عليه وندافع عنه بأسناننا , وسوف نسعد فيه ما بقي لنا من عمر إن شاء الله .. وقد قررنا أن نظل بعد الزواج لمدة عامين أو ثلاثة في حالة تقشف وأستنفار لدفع الأقساط وبعدها نهدأ ونستريح ونستمتع بعائد عملنا وبحبنا وسعادتنا معا. ولست أجد في ذلك أي تناقض مع شخصيتي فلقد تعودت الاعتماد على نفسي منذ الصغر في تلبية احتياجاتي الضرورية , لأني الأخت الكبرى لتسعة إخوة كلهم في مراحل التعليم المختلفة وأبي موظف بإحدى الهيئات الحكومية , لكن ما يبدو متناقضا بالفعل مع هذه الشخصية .. وهذه الظروف هو أن أواجه ضعفا خاصا تجاه شئ ثانوي هو فستان الزفاف .. فالمنطق في مثل ظروفنا هو أن أستأجره عند الزفاف من أحد المحلات أو أقترضه من احدى قريباتي أو أستغني عنه نهائيا كما تفعل من لا تجد هذا ولا ذاك ..
لكن نفسي لم تضعف إزاء شئ في ظروفنا سواه .. فالحقيقة أني طالما حلمت بأن أرتدي يوم الزفاف فستانا أبيض جميلا يكون ملكا لي وأزهو به في الزفاف ثم احتفظ به في دولابي بعد ذلك طول العمر وأتذكر كلما رأيته سعادتي حين أرتديته .. وقد وضعت هذا الحلم في "خطتي" رغم كل المعاناة فوجدته حلما شبه مستحيل لأن ثمنه مع لوازمه يقترب من أربعمائه جنيه .. وهو مبلغ هائل بالنسبة لي , من العقل أن أوجهه إلى شراء شئ آخر من ضرويات البيت الناقصة.
لكن ماذا تفعل مع فتاة مثلي تتحدى ظروفها وتعجز عن أن تتغلب على هذا الضعف العجيب ؟.
لقد فكرت طويلا ثم قررت أن ألجأ إليك لا لكي تقدمه لي إحدى قارئاتك كهدية .. وإنما لكي تساعدني في الحصول عليه من قارئة فاضلة أو محل بالتقسيط على أقساط شهرية بسيطة سأضم أقساطها إلى "النوتة" وأسددها في موعدها بإنتظام إن شاء الله .. ولن أقبله إلا بيعا "شراء بالتقسيط" لكي أرتديه بجهدي وعرقي وتكون له قيمته عندي .. كما أرجو منك أيضا مساعدتي في الحصول على عمل مسائي بإحدى الصيدليات لأني لا أعمل في المساء منذ فترة قصيرة .. ولكي أستطيع الوفاء بقسط الفستان الجديد والأقساط الأخرى , وإذا تعذر عليك إيجاد العمل المسائي فأرجو الاهتمام بمشكلة الفستان لأن أملي أن أرتدي هذا الثوب الأبيض حتى ولو حرمت نفسي من الراحة شهورا جديدة من أجله .. وعفوا لأثقالي عليك بمشكلتي الصغيرة هذه وأرجو ألا أكون قد أهدرت وقتك معها في شئ تافه !!
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتــبة هــذه الــرســالــة أقول:
للكاتب الانجليزي"توماس بين" عبارة شهيرة يقول فيها : إن لدينا العزاء في أنه كلما ازداد عنفوان الكفاح .. ازداد مجد النصر .. وفي أن ما نحصل عليه بثمن رخيص فإننا ننظر إليه غالبا بغير اهتمام كبير , أما ما نحصل عليه بثمن غال فهو وحده الذي يستحق البقاء .. والتكريم !
و"مجد النصر" وحلاوته ستذوقان طعمهما إن شاء الله حين تتوجان كفاحكما النبيل هذا بالانتقال إلى عش الأحلام , وترشفان فيه رحيق السعادة وتتمسكان به وتدافعان عنه حتى نهاية العمر بإذن الله .
إنكما يا آنستي بعض من قال الحديث أنه "حقَ على الله عونهم" لأنكما تجاهدان لطلب العفاف والسعادة المشروعة والأمان وتتوسلان إلى كل ذلك بأشرف الوسائل وأنبلها وهي العمل الجاد المضني والاعتماد على النفس بغير انتظار للمساعدة من أحد إلا من شبابكما ومن جذوة الكفاح المشتعلة داخلكما.
لقد شهدت في حياتي حفلات زفاف باذخة .. أعقبتها رحلات باهظة إلى أجمل شواطئ الدنيا لقضاء شهر العسل .. ثم لم تنقض سنوات قليلة وأحيانا بضعة شهور إلا وتحطمت هذه الزيجات الواعدة بالسعادة أو غرقت سفنها الزاهية في بحر من التعاسة لم يخطر ببال أحد وهو يرقب العروسين المبتهجين في ملابسهما الفاخرة ليلة الزفاف ولا عجب في ذلك فالسعادة الحقيقة وراحة القلب واطمئنان النفس لا شأن لها بماديات الحياة حتى ولو كانت تيسرها وتذلل من صعوباتها .. ولأن ما نحصل عليه "بثمن غال" هو وحده ما يستحق "البقاء والتكريم " فلا تفرطا يا آنستي يوما في سعادتكما التي حققتاهما بهذا الكفاح النبيل .. ولا تسمحا لشئ مهما علا بأن يخنق زهرة الحب التي ارتوت بعرقكما الثمين ..
أما "ضعفك" الإنساني تجاه ثوب الزفاف الأبيض فلست في الحقيقة أعتبره "ضعفا" ولا تناقضا مع شخصيتك أو ظروفك , وإنما اعتبره أمنية صغيرة مشروعة من حقك على الحياة أن تحققها لك .. بعد أن قدمت لها الكثير والكثير .. ذلك أن مجرد وجود أمثالك في الحياة من الشرفاء الذين يفخرون بكفاحهم وينفرون من الاعتماد على الغير , ويرفضون ألا ينالوا شيئا إلا بعنائهم وعرقهم .. يضيف إلى الحياة ويعلي من مثلها العليا ويقدم المثل والعزاء للآخرين ولهذا كله فمثلك لا يستحق فقط أن يرتدي ثوبا أبيض بأربعمائة جنيه وإنما بأضعاف ذلك , وإني لأرجو أن يوفقني الله إلى تلبية مطلبك البسيط في الثوب الأبيض وفي العمل المسائي .. وإلى أن يتحقق ذلك تقبلي مني كل احترامي وصادق أمنياتي لك بالسعادة الحقيقية في الحياة .. إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر