موسم الحصاد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

موسم الحصاد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

موسم الحصاد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أشعر برغبة ملحة في أن أكتب لك عن حصاد تجربتي في الحياة .. لتضعها بين يدي قرائك عسى أن يجدوا فيها ما يفيدهم .. أما أنا فلقد دفعت ثمنها غاليا .. فمنذ 18 عاما كنت موظفا بإحدى الجهات العلمية الحكومية , وزوجا وأبا لثلاثة أبناء أكبرهم بالشهادة الاعدادية وأصغرهم بالصف الخامس الابتدائي .. وكنت أعاني في حياتي الخاصة مع زوجة تركها أبوها وهي جنين في بطن أمها , فنشأت قلقة غير مستقرة نفسيا وتزوجتها وهي أكبر مني سنا لأنني أحببتها وبدأت متاعبي معها بعد إنجاب أول طفل , وقاسيت الكثير من تفننها في النكد وفي تنغيص حياتي وحياتها بلا مبرر .. حتى نفر منها أهلها وحذرني منها أخوها غير الشقيق .. ومع ذلك فقد تحملت صعوبة الحياة معها حرصا على الأبناء , واستجابة لطلب أمها التي كانت تحبني رحمها الله وترجوني أن أصفح عنها لأنها تحس بأنها فقيرة ولا أحد يحبها في الحياة وربما كان هذا هو سبب تعقد نفسيتها , ثم فوجئت بزميل لي في العمل يطلب مني أوراقي لتقديمها إلى جهة حكومية بإحدى الدول العربية يعمل هو بها , فوجدت في ذلك طوق النجاة لي من متاعب حياتي الشخصية وفرصة لتحقيق حياة كريمة لأولادي.

 وسافرت للعمل بهذه الدولة .. وبعد شهور لحقت بي زوجتي وأولادي , واستمرت الحياة بيننا بخيرها وشرها إلى أن حصل الأبناء على الثانوية العامة واحدا وراء الآخر , وعادوا لمصر والتحقوا بالكليات , وعادت معهم أمهم , وبقيت أنا في مهجري , وقد تسألني لماذا لم أعد معهم وأتفرغ لهم بعد أن تحسنت أحوالي المادية .. وأجيبك بأن السبب هو أن أمهم حاولت أن يكون كل شئ اشتريه في مصر بإسمها أو تترك أولادها وحدهم في مصر فاضطررت للبقاء بالخارج لتلبية بعض مطالبها .. وتركت الأولاد وهم في سن المراهقة وأوائل الشباب معها فكان الحصاد الدامي بعد 18 عاما من الغربة هكذا :

التحق ابني الأوسط بكلية علمية لم يكن مؤهلا للدراسة بها فرسب فيها عامين متتالين ثم غير إتجاهه إلى كلية أخرى ومازال طالبا بها حتى الآن رغم أن عمره 28 سنة .. وقد أصيب "يا لهف قلبي عليه" باضطراب ذهاني فصامي منذ سنوات وتوقف عن الذهاب إلى الكلية .. وأنفقت الكثير على علاجه لدى أشهر الأطباء النفسيين وفي أحسن المصحات النفسية بلا تقدم محسوس في طريق الشفاء .. فهو يكره أمه وقد حاول قتلها ذات مرة وحاول الانتحار أكثر من مرة شفاه الله من مرضه .. وقد طلب مني ألا يعيش مع أمه فاشتريت له شقة في مصر مازلت أدفع أقساطها حتى الآن , وهو يعيش الآن وحيدا فيها وأمه تذهب إلى مسكنه في الصباح وهو نائم وتضع له الطعام وتخرج قبل أن يستيقظ حتى لا يحتك بها.

وتخرج الابن الأكبر في كليته وأنهى خدمته العسكرية .. وزوجته من مدرسة متعاقدة للعمل بنفس الدولة التي أعمل بها لكي يبني حياته لأني لم أقدم له الكثير لظروف سأشرحها لك بعد قليل , فكانت النتيجة أن أصبح يحب المال أكثر من أي شئ في الحياة وعلى استعداد لأن يفعل أي شئ في الحياة في سبيل الربح والمال  , ويحاسبني بالقرش والمليم على كل شئ .. ويقول لي دعني أصنع ثروة لنفسي مادمت أنت لم تصنع لنا شيئا .. وقد أصبت بمرض السكر حين طالبني "بفوائد" مبلغ اقترضته منه لادخال شقيقه المريض مصحة نفسية في القاهرة , ومازلت أسدد له الدين وفوائده !

 وأما الأصغر فقد تخرج في كليته وبذلت جهدي لإلحاقه بالعمل بمؤسسة كبرى بالدولة التي أعمل بها , وهو يقيم الآن معي فيها لكن أخلاقياته من ناحية الفتيات مؤسفة وشرف الفتاة لا يعني عنده الكثير , وقد خطبت له إحدى بنات صديق لي ثم أحسست بأنه غير جاد ويريد أن يعبث مع الفتاة , فقمت بفسخ الخطبة بنفسي واعتذرت لصديقي آسفا وخجلا.

وما يؤرقني يا سيدي هو أني أحس أنني المسئول عن ضياع هؤلاء الشبان الثلاثة بسبب بعدي عنهم في فترة مراهقتهم .. وقد كنت لا أصدق ما يقال من أن ترك الشباب بدون رقيب بسبب السفر الطويل للخارج يؤدي إلى اصابتهم بأمراض العصر كالقلق والاكتئاب والانحراف لكني تعلمت هذا الدرس الغالي ودفعت الثمن من صحتي وأعصابي وأنا أرى أمامي حصاد العمر من الأبناء فأحدهم مريض نفسيا والآخران "مريضان" من الناحية الخلقية وقد فات أوان الاصلاح وأخشى ألا يغفر الله لي هذا الذنب الكبير الذي ارتكبته في حقهم وحق نفسي وحق المجتمع بإنصرافي عنهم في الفترة التي كانت أخلاقياتهم ونفسياتهم تتشكل فيها ويحتاجون إلى رقابتي ورعايتي لهم.

ومن حصاد عمري وتجربتي أنصح كل من يجد نفسه غير موفق في زواجه أن ينهيه مبكرا وقبل انجاب الأطفال حتى لا يأتي إلى الحياة بأبناء يدفعون ثمن سوء اختياره ويحملون الهموم على كاهلهم طوال العمر .. فأبنائي "يستعرون" الآن من أمهم وتصرفاتها ويحملونني بطريقة مباشرة المسئولية عن ذلك , رغم إني تحملت العناء من  أجلهم حتى لا أحرمهم من حنان الأم وكنت أرى أمهم مهما بلغت من السوء فهي أرحم بهم من زوجة أب.

كما أنصح كل أب له أبناء في سن المراهقة ابتداء من سن الثانية عشرة فما بعدها ألا يتركهم وحدهم ويعيش في الغربة بعيدا عنهم يجمع المال معتقدا أنه بذلك يحقق لهم آمالهم في الحياة الكريمة , إذ عليه دائما أن يجمع شملهم معه في غربته ليكونوا تحت أنظاره باستمرار , فإن لم يستطع ذلك فليعد فورا ويعش معهم في بلده ويرضى برزقه ويعرف أن انقاذه لهم من الانحراف والمرض النفسي ثروة لا تعادلها أية ثروة يجمعها في الخارج مهما بلغت ..

إنني لا أحمل مؤهلا جامعيا بل متوسطا لكن خبرة الحياة علمتني الكثير والكثير , وكان أهم ما علمتني هو أنه لا شئ يساوي سعادة الأسرة والأبناء وتقديم أبناء صالحين أسوياء للحياة يسعدون أنفسهم وأبويهم بأخلاقهم وعطائهم .. فها أنا بعد غربة 18 عاما مازلت مدينا وأحتاج إلى البقاء في الخارج 7 شهور أخرى لكي أسدد أقساط ديوني التي تحملتها لتبية مطالب الأسرة وشراء الشقق للأبناء .. وبعد أن ضاعت تحويشة العمر في الريان .. كما أسألك في النهاية بماذا تنصحني أن أفعل لأصلح ما يمكن إصلاحه من أخطاء العمر .. هل يخفف الاستغفار والندم من حساب يوم القيامة عما جنيت على أولادي ؟ .. ثم هل أعود لأعيش مع ابني المريض كما يطالبني ؟ .. وهل أتزوج مرة أخرى حين أعود كما يطالبني أولادي رغم أن عمري 54 سنة ؟ أم بماذا تنصحني أن أفعل ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولكـــاتـــب هــذه الــرســالـــة أقــــول:

 

إنما الأعمال بالنيات يا سيدي .. إذ هل كنت تضمر حين اغتربت وطالت غربتك أن تضيع أبناءك وهم في السن الخطرة وتبقى بعيدا عنهم لتجني المال لنفسك وحدك .. أم كنت تفعل ما تتصور أنه يحقق خير أبنائك وخير الأسرة كلها ؟

لقد أخطأت لا شك في ذلك بابتعادك عنهم وهم أحوج ما يكون إليك وإلى رقابتك ورعايتك في سن المراهقة وبواكير الشباب , خاصة أن أمهم لم تكن مؤهلة لأن تعوض غيابك عنهم , لكن حسن النية وإن كان لا يعفي من المسئولية .. فإنه يخفف على الأقل من الذنب ويفتح الباب للمغفرة وإلتماس الأعذار .. وربك في البداية والنهاية رب قلوب , يعلم خافية الأعين وما تطويه الصدور .. وإذا كنا قد رزقنا ببعض الاختبارات القاسية التي جعلت من حصاد العمر شيئا كقبض الريح , فليس من الحكمة أن نضاعف خسائرنا بمكابدة الندم ومعاناة الإحساس بالذنب ليل نهار.

صحيح أنه "من الحكمة الواسعة يزيد الحزن" كما قال سليمان الحكيم , لأننا معها نعرف بعد فوات الأوان أحيانا ما كان يستحق أن نشقى من أجله وما لا يستحق , ونعرف أيضا دلالات الأشياء الحقيقية ونتألم لها كحزنك ومرضك حين طالبك ابنك "بفوائد" دينه عليك لأنه وإن جاز له أصلا أن يعتبر مساهمته في علاج شقيقه دينا على الأب , فلا يجوز له بأي حال أن "يرابي" أباه على هذا الدين وأن يستحل لنفسه "الربا" عليه .. ومع كل ذلك لابد أن يبقى الأمل في الإصلاح حيا في القلوب ليعيننا على احتمال ما يثير المرارة في النفوس .. ويعيننا على استمرار الحياة .. وخير ما تفعل الآن إذا كنت قد ضمنت لنفسك من الناحية المادية حياة كريمة بعد سداد الديون , هو أن تعود وتعيش مع ابنك المريض "شفاه الله" وأن ترعاه وتواصل علاجه .. أما الزواج مرة أخرى فهو أمر متروك لك إذا كنت قد يئست نهائيا من أي أمل في استكمال مشوار الحياة مع زوجتك , لكن السؤال هو كيف سينعكس هذا الزواج الجديد على ابنك المريض وكيف ستكون استجابته له .. وهل سيزيد من معاناته أم يخفف منها خاصة أنه سوف يحرمه من تفرغك الكامل لرعايته وتعويضه عن غياب دور الأم في حياته .. وأفضل من يجيبك عن هذه التساؤلات هو الطبيب النفسي الذي يشرف على علاجه .. فتوجه إليه بها وإذا كانت نصيحته لك إيجابية فإفعل ما تراه في صالحك , فلا شك أنه من حقك بعد كل هذه المعاناة الطويلة أن تسكن إلى جوار من تستريح إلى معاشرته في نهاية الرحلة , وإذا كانت نصيحته لك سلبية .. فلا تتردد أيضا في الاستجابة لها ونبذ فكرة الزواج نهائيا والتفرغ للعناية بإبنك المريض ومحاولة الحفاظ على الخيط الرفيع الذي مازال يربط بينك وبين زوجتك.

 ولقد تعلمنا بالثمن الغالي أنه لا شئ يعدل في الحياة راحة القلب والضمير التي يستشعرها الإنسان حين يؤدي واجبه تجاه أبنائه ولو كان ذلك على حساب سعادته الشخصية , كما تحملنا الكثير والكثير من العناء خلال سنوات الرحلة الماضية .. ولن تحمل لنا الأمواج شيئا أقسى مما تجرعناه من قبل من ماء الشتاء المالح .. فإذا كان الأمر كذلك فلنحافظ إذن على ما بقي في يدنا من أسباب ولنحاول إنقاذ هذا الابن المريض بكل ما نستطيع من جهد وتضحيات ولنعتبر ذلك وسيلة نتوسل بها إلى الله لطلب الغفران عما جنيناه بحسن نية على الأبناء بإنصرافنا عنهم إلى أهداف عرفنا بعد فوات الأوان أنها لم تكن تستحق ما دفعناه مقابلها من ثمن باهظ , وما نتجرعه الآن بسببها من شقاء , أما نصائحك الأخيرة لقراء "بريد الجمعة" .. فهي نصائح ثمينة وصادقة حقا لأنها مصهورة بنار الألم في بوتقة التجربة والمعاناة .. ومن أعماق الجحيم يأتينا أحيانا صوت الحكمة حاملا إلينا ثمار الخبرة .. وحصاد الألم .. ومن واجبنا أن نستمع إليه بإهتمام واحترام وأن نشكر صاحبه على رغبته النبيلة في تجنيب الآخرين شقاءه ومعاناته.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات